التاسع عشر

قالت ميسون وهي تبكي وتشدد على عناق والدها لتخبره ما حصل:
_ أبي، أنا حامل الآن.

اتسعت عيناه وفتح فمه من الصدمة وأبعد يداها عن خصره ودفعها بعيداً عنه، ووقف مصدوماً والدموع تملؤ عينيه، جلست على ركبتها بضعف والدموع لم تجف قائلاً:

-لا تظلمني يا أبي، لقد تزوجته على الملأ وليس بالسر، كان ذلك أمام الجميع، جاء زفافنا بسرعة، لقد تعرضت للكثير من المشاكل في روسيا، لكنه بكل مرة كان يخرجني من الحفرة التي أسقط بها ولم يتركني للحظة، أحبننا بعضنا وتزوجنا.

_ونسيتِ والدك الذي لم يبخل عليكِ بشيء أهذا هو جزائي، أهكذا تفعلين بي ذلك، لقد وافقتك الرأي حينما أردتِ السفر لروسيا، لكن لم أعلم أنك سترجعينين لي بطفلٍ، ثم قولي لي أين هو زوجك ولما عودتي الان، وانت لم تضعِ لي أي اعتبار ولم تأخذي رأيي حتى، واعتبرتني ميتاً؟

فبكت بحرقة والشعور بالذنب يقتلها وأمسكت يده وأسندتها على جبينها وكأنها تقسم له:

-لا تقل ذلك، صدقني نسيت كل شيء وأنا معه، أحبتته بشدة ومحبته جعلتني أنسَ لماذا سافرت إلى روسيا، وهو أحبني أيضاً، ولكن ولكن..
-‏
سألها والدها:
_ولكن ماذا؟

-‏لكنه كذب عليا بشأن هويته.

_اذهبي له، لا أريد ابنة عار مثلك، لا زلت انا على قيد الحياة وولا أزال محتفظاً بعزة نفسي وكبريائي، وجئتي الآن تدمرين سمعتي وكبريائي بفعلتك، أنا اتخلى عنك الان ولا أريدك، أضحى قلبي غاضباً عليكِ.

قال هذا وكان غاضبٌ جداً، فلم يتوقع كل هذا من ابنته التي أحبها أكثر من نفسه، ولم يرفض لها أي طلب، إلا أنها بفعلتها تلك هدمت كل شيء، وكان ينتظرها أن تعود من السفر بفارغ الصبر لكنه لم يعلم أنها ستعود بالخبر الذي سيحطمه.

أكمل نوري بحزن ودموعه ممزوجة بالغضب قائلاً:

_ لقد جلبتي لي العار بفعلتك، لا أحد سيصدق أنكِ متزوجة، الكل سيتهمونك بأنكِ عديمة الشرف، دائماً أسير وأنا رافع الرأس، لأول مرة سينحني رأسي بسببك.

وتنهد بألمٍ شديد وهو يبعد عنها متحدثاً:

_ دائماً كنت أقول للجميع لدي ابنةٌ جميلةٌ ومطيعةٌ، كم كنت أمدح وأتفاخر بكِ، لكنك حطمت كل هذا الحب والتفاخر، كيف سأخرج وأوجه الناس.

أمسك يداها بغضب وهو ينظر لها وهي تبكي ولم تقوَ على النظر في عينيه، أمسك وجهها بكفه وجعلها تنظر له، فرأت لأول مره الكسرة وخيبة الامل يسكنان عين والدها.



قالت مؤنبة لنفسها:
"لطالما كان ينظر لي بفخر ومدح، ولم يستحق مني كل هذا، كان خطئي أنني استسلمت لمشاعري وقلبي."

شعرت بأنها أنانية ونسيت والدها الذي رباها ولم يجعلها تبكي أبداً، كان أكبر داعم ليها، لم يجعل تشعر بفقدان والدتها وكم كان يفعل قصارى جهده كي يجعلها سعيدة، وفي النهاية عادت له بالخبر الذي كسره.

قالت بشهقات متتالية:
-اعلم أنني مخطئة، أبي أرجوك سامحني، لقد خدعت كثيراً، وقلبي لن يتحمل مقاطعتك لي، هذا العقاب شديدٌ عليّ، لا تحرمني من عناقك وحنانك، أين سأذهب؟ من الذي سأرتمي بأحضانه لكي يخفف آلالامي؟

كان واقفاً يسمعها ودموعه تنزل على وجنيته بحزن، فابتلعت لعابها وجففت دموعها وأكملت حديثها وأصبح أنفها احمر من شدة البكاء:

_ ماهر لم يتخلى عني، ولكن طبيعة عمله جعلتنا ننفصل، فأصبحت وحيدة في الأعماق المظلمة، ليس لي أحد سواك يا أبي، فأرجوك سامحني، لن أستطيع التخلي عن طفلي، فأنا لستُ قاتلة.

_واسمه ماهر أيضاً.
_أجل يا أبي، أحببته كثيرا وكذب علي، حزن كبير في داخلي.

كل كلمةٍ تفوهت بها كانت تنهش قلبه، ولم يتحمل دموعها، لكن هذه المرة كان الصراع بين قلبه وعقله أيسامحها ام لا؟

لقد كان صعباً عليه أن يتقبل الخبر المفاجىء والطفل التي يسكن أحشاءها؛ لقد كان رجلاً بسيطاً منشعلاً بحديقته وأعمال الزراعة، ولم يتوقع كل هذا من ابنته".

وفي النهاية أبعدها عنه بجفاء وقسوة متجهاً إلى غرفته، اما هي فجلست تصرخ وتبكي لعل صراخها يخفف عنها ألمها.


ومن جهة أخرى في قصر حكمت كان يقف أمام النافذة وهو يتذكر ميسون ويتألم بشدة ورولا خلفه تنظر له وتنتظره حتى يقترب منها كأي عروس، فاليوم هو زفافهما.

شعر برولا، فجلس على الكرسي يحك ذقنه وهو يفكر كيف سيجد ميسون التي اختفت ولم يعلم أين ذهبت؛ ليفاجىء بتلك الفتاة التي دمرت حلمه الجميل وهي تجلس على فخذه.

تحدثت رولا بعشق وهوس مليء بالتملك وهي تحاوط وجهه بيدها:
_لم أصدق أنك أصبحت ملكي أنا فقط، لطالما حلمت بك، لم أظن يوماً أن حلمي مستحيل؛ لأنني احببتك من كل قلبي، أعلم انك لا تحبني وتحب تلك الشقراء، لكن سأجعلك تعشقني، فأنت لي أنا فقط.

بدأت تقترب منه وهي تحاول اغراءه، فأمسكت يده وجعلته يفتح لها سحاب فستانها بالاجبار، أما هو فتركها تفعل ما تشاء لكن قلبه وعقله مع ميسون فقط، ولا أحد يستطيع أخذ مكانها.

رولا بفرح وثقة:
_ اليوم كام يوم زفافنا، بالطبع ستكون ليلتنا مميزة جداً حينما أكون بين ذراعيك، هيا حكمت اقترب مني، وقبلني، أريد أن أحظى بطفلٍ منك.

لكنه لم ينظر لها ولم يجبها، فغضبت بشدة وحاولت أن تهدأ وهي تقبله بغضب وتتحدث:

_أنا أحبك لماذا لا تشعر بقلبي الذي يحترق بنار حبك، لقد أعطيتك قلبي، لماذا لا تبادلني مشاعري، أنا التي أصبحت زوجتك وليس هي، سأجعلك تعشقني وتنساها أنا ادعى رولا وإن عزمت على شيءٍ سأحقفه مهما كان الثمن.

جذبها من شعرها بغضب قائلةً بنبرة تشبه فحيح الأفعى:
_أواثقة من حديثك؟

إجابته بكل ثقة:
_أجل واثقة.

فأبعدها عنه قائلاً:
_ أنا متعب جداً ولست منشغلا بسخافتك، ليلة سعيدة.

ابتعد عنها وذهب إلى غرفة تبديل الملابس وبدل ملابسه ثم وضع رأسه على الوسادة، وأغمض عينيه، لكي يهرب منها لكنه لم يستطع، فقد كان يفكر بحبيبته وكيف حالها الآن ويشعر بأنها ليست بخير.


أما رولا فغضبت وهي تجز على أسنانها وتقبض يداها بغضب وارتدت قميص نوم يظهر أكثر ما يخفي، واقتربت منه تلمس وجه وتقبله، لكي تأثر به لكنه لم يتأثر، نفخت بضيق وأدارت له ظهرها وهي تفكر كيف ستجعله يحبها.


في حديقة منزل ميسون، صرخت بقوة وهي تنادي عليه:
-أبي، سامحني!

وفكرت :
"إلى من سأذهب الآن؛ لكي أخفف ألمي."

لقد هطل المطر فوقها وهي تعانق نفسها ولم تتوقف عن البكاء، والماء يسقط فوقها بغزارة، فلعل هذا الماء يخمد النار التي في قلبها، لقد أصبحت ضعيفة وقليلة الحيلة، بدأت تعرف الآلام جيداً، ورغم ذلك لم تستطع أبداً أن تنهي حياة طفلها.

فكرت:
"ربما كان إنجاب الطفل سينقذني من هذا الضعف، سأبقى تحت المطر يهطل فوقي، علني أفهم كيف سأواجه الجميع بطفلي الذي بداخلي."

وبعد قليل تبللت وخافت على طفلها وقررتوأن تدلف إلى غرفتها، وبدأت تجمع ملابسها ثم ارتدت ملابس أخرى جافة؛ كي لا تمرض ويتأثر طفلها معها فجلست طوال الليل تضم ساقيها إلى صدرها، و جفت دموعها فأصبحت خدودها حمراء كالدم.


لم ينم أحد منهما وكل شخصٍ كان قلبه معلق بالآخر، حيث مرت ليلة تعيسة حتى جاء الصباح بصعوبة، فوقفت ميسون ومشت نحو غرفة والدها وهي تطرق الباب وتنادي:

_أبي أعلم أنك غاضب عليّ، ولن تسامحني، أرجوك فقط رد علي، فأنا لا أتحمل جفاءك.

لم يرد عليها فهو لا يزال مصدوماً من فعلتها، ففتحت الباب وجلست بجانبه بخجل وحزن وقالت:

_يجب أن تثق بي وتقف بجانبي، ليس لي سواك، انت كل عائلتي وأماني وسندي.

فرد بسخرية وهو ينظر أسفله:
_تتزوجين وتحملين طفلا في جوفك ثم تأتين لتطلبي مني أن أثق بك، حديثك غير منطقي، إذا كنت أعني لكِ مثلما تقولين، كنتِ حادثتني على الأقل وأخذتي رأيي، لكنك لم تهتمِ لأمري وفعلتي ما تريديه.

تنهد بحزن وهو ينظر لسطح المنزل وهي حزينة قائلاً:

_كيف سأواجه الناس، كيف سأمحو العار وانا لا أعرف من هو أبوه، ماذا ستقولين له بعد اختفاء زوجك حينما يسألك عن والده،أتدرين؟ لن أعترف بهذا الطفل و دهو ليس حفيدي، وانا لستُ أبيكِ، اتركيني وشأني فلن أسامحك، غادري غرفتي.

ضمت شفاها بحزن وأصبح وجهها احمراً وانفجرت الدموع من عيناها، وركضت خارج المنزل وهي تبكي.

غادرت لتستأجر غرفة في مكان أخر، ومرت الشهور ولم يسامحها والدها، وأصبحت تكسر حزنها ومللها في كتابة الاغاني؛ لتسجلها مع الكسندر الذي كان يأتي للتعاون معها دائما.

راحت تغني وتكتب عن ألمها وحزنها وجرح الحب، ونالت أغانيها اعجاب الجميع وأصبح لها جماهيرية كبيرة.

وأصبحت تملك المال الوفير أيضا فحققت حلمها ورغم كل ماحققت لكنها كانت تشعر بالنقص، لعدم وجود الذي ساعدها لتصل إلى هذه المرحلة وهو حكمت، كانت تضع يديها على بطنها، وتحدث ابنها فهو أملها الوحيد الذي تعيش لأجله الآن.

‏ لم يحادثها والدها أبدا.

أما حكمت فقد كان يعامل رولا بجفاء ويمضي العقود، ولم يقترب من رولا وهي تفكر كثيراً كيف تقترب منه، وكان يتابع أخبار ميسون ولكن يخشى أن يقترب منها فيأذوها حمزة وأعوانه من المافيا، وحتى أنه لم يعلم بحملها فهي سجلت أغانيها قبل أن تكبر بطنها، واختفت حينما ظهر حملها حتى لا تتأثر بحديث الناس.

كانت بشهورها الأخيرة وبجانبها سلمى شقيقتها وهي تنظر في الجهاز وترى تحركات طفلها داخل أحشائها وتبتسم.

فقال الطبيب:
_احسنتي، وضع الجنين جيد جداً، يتبقى أيام وستلدين، سأكتب لكِ على الأدوية وإياكِ أن تهملي في تناولها، ابتعدي عن التوتر والحزن حتى لا تؤثري على طفلك.

فقالت سلمى بمرح: ط
_قل لها ايها الطبيب، فهي دائما حزينة وتفتقد زوجها.

الطبيب:
_لا يجب أن تنسي كل شيء وتهتمي بنفسك وبطفلك فقط.

أومأت برأسها بابتسامة ثم استندت على شقيقتها، وذهبتا إلى المنزل، بعدة فترة قليلة وصلت ووجدت والدها يعمل في الحديقة وبجانبها سيدات يشترون منه الزهور، فقالت واحدة منهم بسخرية:

_ أخي نوري لماذا لم يأتي صهرك للان، أصبحت بطنها كبيرة جداً، وعلى وشك الولادة، أين هو؟

كانت تتحدث بسخرية وتشكك بأخلاقها، نظر لها بغضب وكأنه يقول لها:
_ هل يعجبك ما وصلنا له الآن.

فقال نوري بهدوء:
‏_صهري عسكري ولم يعد بعد، اخرجن أنفسكن من حياتنا، وتفضلن الزهور.

صمتن ودفعن له المال ومن ثم انصرفن.


في قصر حكمت كانت تقف تلك الفتاة القوية التي حصلت على ما أرادته ولكن تشعر بالنقص، لأنها حصلت عليه ولكن لم تحصل على قلبه، نزلت الدموع من عيناها وكان وجهها متعبٌ جداً، فهذه لم تكن رولا القوية بل أصبحت ضعيفة.

بسبب حبها المجنون به، أصبح وجهها شاحباً وعيناها منتفخةً والهالات السوداء تحاوطهما، وقفت تنظر لانعكساها بألم ووجع، وفجأة خرج حكمت من غرفة الملابس وهو يرتدي سترته فاقتربت منه بحزن وهي تعانقه من الخلف.

فقال حكمت بقسوةٍ وجفاء:
_ لا أريدك ضعيفة هكذا، ألم تحصلي على ما تريدين، هل أنت سعيدة الآن بتدمير حياتي وحياة ميسون، انا وانت متزوجان على الورق، إياكي أن تحلمي بأن أقترب منكِ، جهزي نفسك لدينا إجتماع الآن هام جداً.

نظرت له بدموع وألم وعانقته بقوة قائلةً بضعف:

_ أريد أن أحظى بطفل منك ونعيش في سعادة دائمة، بادلني حبك، لقد منعت أخي كثيراً أن يقترب منك ويقتلك لأنني أعشقك، أرجوك اقترب مني وحقق لي أمنيتي، لماذا لا تشعر بالألم الذي أعاني منه، ألا تريد أن تكون أباً.

صمتت وهي تمسح تلك الدمعة التي هربت منها، وهي تشعر بالذل والإهانة بأنها تعرض نفسها على هذا الرجل القاسي والبارد التي لم يهتم لامرها، كان إحساس الأمومة ينمو بداخلها كل يوم أكثر وأكثر.

ربتت برجليها وصاحت به قائلة:
_ أريد أن أنجب طفلاً يشبهك.

لم يجبها وارتدى الساعة التي ظل محتفظاً بها وهي الهدية الأخيرة من ميسون ثم خرج وتركها مصدومة، ولكن قررت أن تجعله يقترب منها بإرادته وستفعل الكثير من الأشياء ولن تستسلم ابداً، مهما حدث.

نظرت لنفسها بقوة والشر يملىء عينيها، ثم ارتدت ملابسها، وقد بدت فاتنة للغاية، كان فستانها قصيراً ويظهر الكثير من مفاتنها، ودلفت إلى صالة الاجتماع وكان حمزة وماهر وحكمت يجلسون مع الأعضاء وحكمت يتحدث بثقة.

_ لقد اضطرينا أن نبيع هذا الفندق الأعوام الماضية، بسبب احتياجنا الشديد للمال، وهو قيمته كبيرة جداً لدينا، بسبب عدم وجود وقت ومال لإدارته.

ثم تنهد قائلاً:
_واليوم نحن نجتمع كي نأخذه مرة ثانية، فقد كان لنا منذ أعوامٍ كثيرة، ولا نستطيع أن نفرط به، وقيمته لا تقدر بثمن، فكروا كثيراً، أنتظر ردكم.

وكانت الصدمة حينما قالت رولا للاعضاء ما أخرجه عن بروده الشديد.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي