الحادي والعشرون

كان سيعاقبها على فعلتها ولكن ما أنقذها، كان رنين هاتفه، فنظر لها بغضب، وغادر الغرفة ورد على حارسه.

الحارس:
_مرحبا يا سيدي لقد وجدت السيدة ميسون تعيش في منزل بسيط بالقرب من الشاطيء، منذ اختفائها.

نسى الغضب، وكأن روحه ارتدت إليه بعد خروجها من جديد قائلاً بلهفةً وشوق:
_أقسم بانك فعلت، با إلهي لا أصدق،أتعلم لك مكافأة كبيرة مني.

فأغلق هاتفه وركض بسرعة وراح يتحرك بعشوائية وكأنه يسارع الزمن.

"لقد اشتقت لها كثيراً وأريد أن أعانقها؛ لكي أشعر بالراحة وأنسى ألمي العميق، أنا قادم يا ميسون فانتظريني."

ركب سيارته وقادها بأقصى سرعة حتى وصل إلى ذلك الشاطيء، نزل ووقف بعيداً يراقبها فوجدها تحمل طفلاً صغيراً وتمشي بجانب الماء و بجانبها شاب يمزح معها ويضحكان، شعر بنار الغيرة تملأ قلبه، ونظر لذلك الطفل.

طرح الكثير من الأسئلة لنفسه.

" من يكون هذا، هل هذا إبنهما، هل تزوجت بعد انفصالنا؟"

ورغم كل ذلك التخبط شعر بعاكفة غريبة تجاه ذلك الطفل وتمنى لو يحمله فقد تذكر أيام طفولته مع أمه.

فاقترب منها بغضب، ما صدمها جدا عندما رأته واتسعت عيناها، وامتلأت بالدموع، وكانت نظراته له مليئةً بالشوق، فجذبها من ذراعها بغضب وحاول أن يضمها ، لكنها تراجعت إلى الوراء وضمت طفلها لصدرها بخوف.

فخاطبها حكمت بغضب شديد:
_من هذا الرجل؟ ومن هذا الطفل؟

فنظرت له والدموع تقف في الجفن لكنها تماسكت وتحدثت بقوة:
_ارحل، هذا طفلِي وطفله وهذا الرجل يكون زوجي.

وقعت كلماتها عليه كالصاعقة واتسعت عيناه وفتح فمه ناظراً لها بلوم وعتاب قائلاً:
_ لماذا لم تسمعيني و حكمتِ علي وابتعدتي عني.

حاولت أن تتظاهر ببعضٍ من القوة وقالت:
_ قصتنا انتهت قبل أن تبدأ، ليعيش كل واحداً منا حياته التي اختارها، اتركني وشأني، أرجوك تفضل بالانصراف لطفا.

نظر لها بوجع وخيبة أمل وكسرة قلب، التي لم تتحملها أبدا، فأدارات وجهها، أما هو فغادر وتركها، لقد كان قلبه ينزف من الألم ولم يشعر به أحد، فكسرُ القلب لا يصدر صوتاً، إنما يصدر الكثير من الآلام.

اختفى من أمامها هربا، فجلست على ركبتها وهي تصرخ وتحتضن طفلها بخوف ، فاقترب منها غسان وهو ابن عمها، وأخوها في الرضاعة، وقف معها طوال فترة حملها، فاقترب منها وعانقها؛ كي يخفف عنها، أما هي فراحت تبكي وتنهار.

تحدثت بشهقات وألم:
_ لم رجع مرةً ثانيةً، فأنا لم أتعافى بعد من ألم الماضي؛ ليتجدد ثانيةً، لقد اضطررت لقول أنك زوجي، فأنا أخشى أن يتعرض كمال ابني بسببهم للخطر، فهو السبب الوحيد الذي أعيش لأجله.

فقال بحزن على حالها:
_اهدئي حبيبتي، لن أسمح لأي ضررٍ أن يحصل لكم.
_أتعلم غسان، لقد تمنيت لو أهرع إليه وأضمه وأخبره بكل أحاسيسي، لكن خوفي على ابني جعلني أتذكر كل ما حصل، فتراجعت عن شوقي.

أما حكمت فشعر بأن العالم قاسٍ وتمنى الموت وفكر بالانتحار، لكن هاتف حمزة أوقفه ليضطر بالالتحاق به في مكان أخر لأمر ضروري.


وبعد فترةقصيرة وصل إليه ليجد حفلة كبيرة جداً أقيمت في أحدى الفنادق الضخمة، حيث كان مروان ورولا وحمزة يجلسون مع أعضاء مهمة جداً ويتحدثون بشأن صفقة الأسلحة، بعد الانتهاء من حديثهم وقفت رولا على المسرح وارتفعت أصوات الموسيقى وبدأت تشرب النبيذ وهي تنظر لحكمت.

أما حكمت فكان لا يبالي لأفعالها وتركها تفعل ما تشاء، كان كل تفكيره بما فعلته ميسون، راح يتخيلها أمامه في كل لحظة، وأصبح يشرب الكثير من النبيذ وصورة ميسون لا تفارق باله، ضحكاتها كانت ترن في أذنه.

كانت معه في كل كلمةٍ وصوت، وصدفة وضعت في القاعة أغنية معروفة بصوتها، فراح يستمع إلى أغانيها بتأثر ويشرب النبيذ أكثر، كانت كلمات الأغنية تعبر عن حالهم وما تعرضوا له.


أما رولا فكانت ترقص مع الرجال حتى تثير غيرته، ولكنه لم يتأثر.

فتحدث حمزة بغضب:
_حكمت ما الذي تفعلانه، الجميع يتحدث عنكم، أوقف رولا عن هذه المهزلة واذهبا إلى المنزل.

فصرخ به بغضب وسط نظرات الناسط ووشوشاتهم:
_ حمزة، انت السبب في كل شيء، لماذا تأمرني كثيراً، فلتفعل مثلما تفعل، ميسون تنادي عليّ، أنا أريدها، سعادتي كانت معها، أشعر بأنني عبدٌ لكم، أين أنا وسط عالم مليء بالذئاب، عالم لا يوجد بقاموسه الرحمة، ذئاب لا تعرف سوى القتل والدم .

-ميسون ثانيةً، حكمت انت ليس بوعيك، هيا بنا الوقت تأخر.

نادى حمزة على الحرس لكي يسندونه، بينما اقترب حمزة من رولا وجذبها من يدها بقوة واصطحبها إلى السيارة.

_هيا رولا ادخلي السيارة، تصرفاتكم أصبحت غير طبيعية.

فتحدثت بدون وعي:
_قل له هو، هذا الهراء ودعني وشأني.


ومرت أربع أعوام، تغيرت فيها أشياءً كثيراً، كبر الطفل وكان يعيش بسعادة وسط جده وميسون وغسان، بينما كان حكمت ورولا يتشاجران كل يوم وهي تريد طفلا منه.

وفي أحد الأيام كان يجلس حكمت في حديقة المنزل، بينما في كان في حمام السباحة وحمزة وشقيقه يلعبان مع أطفالهما بداخل المسبح، ومروان وفرحات معهما ويلقيان بالكرة على بعضهم، والجميع يضحك ويلعب.

كان حكمت يراقب حياة الجميع المبنية على تعاسته، فقد تخلى عن السؤال، وأصبح يراقب فقط، والتزم الصمت والهدوء، كان مظهره الخارجي بعكس الداخلي.

فاقتربت شقيقته، زوجة حمزة منه بحب قائلةً:
_أخي متى ستوافق على الإنجاب من رولا، مر أربع سنوات كفيلة أن تنسيك ميسون، لتعود لحياتك، فالأمر ميؤوس منه، ورولا تحبك فاقترب منها واعطها فرصة.

اومأ برأسه ولاحظ أثر صفعة على وجهها فلمس على خاصتها بقلق قائلاً بشك:
_ حمزة هو الذي فعل بكِ هذا صحيح، هل وصل به الأمر أن يرفع يده عليكِ.

فعانقته؛ كي تهدئه فلا تسمح بوقوع مشكلة بينهما.

_ أخي طبيعي الزوج والزوجة يتشاجران، لا تشغل بالك، واهتم بنفسك انت ورولا فقط.

كانت تلك الحزينة التي أصبحت ضعيفة تنظر من النافذة على الأطفال بحزن ثم نظرت لحكمت التي يمنعها من أن تجرب ذلك الشعور.

فاتجه حكمت غاضبا نحو غرفته، ووجد رولا ترتدي قميصاً اسوداً والدموع جفت في عينيها وأصبحت هزيلة وضعيفة وكان متمددة على الفراش حينما رأته ركضت نحوه بألم واحتضنته من الخلف بدموع وألم:

_ لقد جاءوا، الى هنا عمداً حتى أشعر بالغيرة، لقد تعبت يا حكمت، لماذا لا تشعر بي، أنا أتعذب بكل دقيقة حينما أرى طفلا، وأشتاق لطفل منك.

إبتعد عنها ولم يعطها أي اجابة وقال:
_ هيا يا رولا سنسافر إلى العاصمة، حتى نفتتح الفندق في الغد جففي دموعك، فلن تؤثري بي، انت من اختار هذا الطريق فتحمليه، لانك لن تعلمي بما أشعر.

غادر الغرفة وتركها حزينة تصرخ:
" لم أصل للرجل الذي احببته، تعبت من هدم الجدران التي في طريقي، حاولت أن أقدم له الحياة المزيفة، لكنه لم يستطع نسيان ميسون."

بعد تركه لها دلف إلى جناح أخر، وأخرج
هاتف ميسون الذي تركته في منزلهما وبدأ يشاهد صورهم وفيديوهاتهم، ويضحك على شقاوتها وجنونها، ثم شغل فيديو وهي تغني بعمق فكانت أول أغنيةً غنتها في الحفل.

- مرت الايام وكأنها سنوات.
واكتشفت أنني أحبك كثيرا.
لا اعلم سبب انفصالنا.
عد إليا ارجوك هذا يكفي...

من الصعب نسيان ما مررنا به.
تلك الساعات المليئه بالحب.
ربما كنت سأجن من الفرحه.
إن عدت في يوم من الايام.
من المستحيل أن ينتهي كل شيء.
لا يجب أن يبقى حبنا غير مكتمل.
فلتعد الأيام السعيدة.

وقف حينما تخيلها تقترب منه ومد يديه، اقترب منها أمسك يدها وبدأ يرقص معها على الأغنية وألحانها الهادئة، وكان ينظر لها بشوق وحب كبير، وهي تتمايل وتقترب منه بحب، لفت يديها حول رقبته وجاء ليحاوط بيديه خصرها، لكنه تفاجيء بالفراغ واكتشف أنها مجرد خيالات يرسمها عقله الباطن بسبب اشتياقه.

نزلت الدموع من عينيه قائلاً بألم:
_ لم تفِ بوعدك لي ، عودي إلي أرجوكِ، كل يومٍ استمع لاغنيتك التي تعبر عنّا الان، اشتقت لكِ، كيف طاوعك قلبك بأن تتزوجي غيري وتنجبين منه، لقد رفضت أن ألمس رولا لهذه اللحظة، لأنني مخلص لكِ.

صار يتألم حتى أطراف شعره، وتمنى ان يكون الوقت علاجاً لكل شيء.

في صباح اليوم الموالي كان حكمت قد إرتدى بدلته السوداء ووضع عطره ونظر إلى الساعة التى حطمتها رولا ومازال محتفظاً بها في صندوقٍ زجاجيٍّ صغير، سمع صوت رولا من الخلف.

_ هيا يا حكمت لقد انتهيت، لنذهب إذاً.

اومأ لها ثم ركبا السيارة في طريقهما إلى الفندق، كانت مرتديه الفستان الأسود وتجلس بكبرياء ومن حين لأخر تنظر له، ذلك الرجل القاسي الذي أحبته.

في منزل بسيط كان يلعب نوري و غسان مع كمال ويركضان خلفه، أما ميسون فتضحك على ضحكاتهم، حتى أمسك نوري بحفيده وعانقه بقوة، وبعد قليل جلسوا حتى تحدث غسان:

_ سأذهب اليوم في المساء الي العاصمة، فمهنتي كطبيب نفسي، تستلزم مؤتمرات جديدة، لأعرف إلى ماذا توصل الطب النفسي، فأكون طبيبا ممتازا، سأشارك بمؤتمر مدته أسبوع وأرى أنه يجب أن تغيروا حياتكم اليومية ونستمتع بجمال العاصمة.

فقالت ميسون بأسف:
_أعتذر لا استطيع ترك أبي، وكمال مازال طفل صغير.

_ عمي نوري.

-نعم غسان.

_ ما رأيك أن نذهب الى العاصمة.

-ماذا، ترويدون الذهاب، اذهبوا لكنني لا أحب التنقل والسفر.

ميسون باحراج:
_ماذا تفعل.

غسان:
_ أخذ رأي والدك.

ركض كمال بفرحة وهي يقفز لأعلى قائلاً: سنذهب الى العاصمة، أمي وافقي هييي،أنا متحمس للغاية.

نوري:
_ اذهبوا أنتم لا احب الازدحام.

وافقت ميسون ثم جهزت ثيابها وركبت السيارة مع غسان وكان كمال وميسون يرقصان على الاغاني طوال الطريق وغسان سعيد لسعادتهم، حتى وصلوا الفندق وركضوا بسرعة للداخل، وهناك وقف غسان ليحجز غرفتين.

موظفة الاستقبال:
_حسنا يا سيد هذه المفاتيح ليلة سعيدة، ستصعدون الطابق الرابع.

أخذ المفاتيح وحمل الحقائب وكمال يركض خلفه وميسون أيضا حتى وجدوا المصعد يغلق وضع يده بسرعة وكان حكمت ورولا يقفان داخل المصعد وعندما دلفت ميسون وهي تمسك بيد طفلها، الذي كان يشبه كمال لأقصى حد.

ميسون:
_اهدأ كمال، أعلم أنك متحمس للتجول في المدينة، لكن سترتاح هذه الليلة ونتعشى اليوم في الفندق ومن الغد سنلعب كثيراً.

-حسنا امي.

اغلق الباب ورولا شاردة الذهن، بينما حكمت ينظر لتلك الشقراء التى أمامه وذلك الطفل الذي يشبه يريد أن بتأكد هل هي ميسون أم لا، فقد كان شعرها على عيونها ووجهها، حتى أرجعته للخلف وهنا أنصدم حينما رآها.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي