14

عندما عادا جلسان دون أن يعيا بأن أمير لم يكن موجود، نظرت نيهان اتجاه كمال و بدأت تحدق به دون أن تعي، بينما كان كمال هو أيضاً يبادلها النظرات ثم قاطع تلك النظرات قائلاً..

كمال: هل نذهب لنمشي قليلاً.

نيهان: نعم فلنذهب فلقد مللت من هنا.

كمال: اتفقنا، لكنني لا أجد أمير..

نيهان: ربما انشغلَ بشيء ما، يأتي لاحقاً لا تقلق.

كمال: أنا جائع.

نيهان: و انا أيضاً.

كمال: اذاً فلنذهب لمطعم ما و نتناول الطعام.

نيهان: اتفقنا، لكنني أريد أن أتناول طبقي المفضل.

كمال: الباستا.

نيهان: همم جميل لم تنسى طبقي المفضل.

كمال: و أنتِ هل نسيتِ طبقي المفضل.

نيهان: و كيف لي أن أنسى إن طبقك المفضل هو طبق السمك المشوي.

كمال: صحيح ههه.

بينما كان أمير لوحده يصارع نفسه و لحظاته و شريط ذكراه، و كل ذكريات طفولته التي لم تخلو أبداً من وجود نيهان، لقد حارب نفسه لأجلها و صنع كل شيء لأجلها، صنع من نفسه رجل ناجح و محب، حاول كثيراً لأجلها إلا أنّ حبه كان من طرف واحد فقط...

بينما كان قد وصل كل من كمال و نيهان الى المطعم طلبا طعامهما المفضل و بعد أن وصل بدأا في تناول الطعام، كانت نيهان تعيش أسعد لحظات حياتها إلا أنها كانت تريد كمال أن ينطق تلك الكلمتان التي بسببها قد تتقيد كل حياتها به، كانت تريد أن يبقى لها و لملكها وحدها، كانت تريد أن يكون كمال لها و تكون له دون أي عائق أو فارق، بينما كان كمال تائه، فلديه الكثير من الهموم و المشاكل و المسؤوليات إلا أنه أراد أن يعيش اللحظة مع من أحب، مع من اختارها قلبه..

قاطع شرودهما صوت النادل..

النادل: سيدي هل تريد أن تطلب شيء آخر.

كمال: نعم كنتُ أريد كوب من القهوة.

نظرت نيهان بصدمة الى كمال و قالت: ماذا! أحقاً! قهوة في منتصف الليل!

كمال: القهوة تتناسب مع كل الأوقات.

نيهان: إنها مضرة جداً في المساء و خاصة قبل النوم و لن أسمح لك باحتسائها الآن.

ثم نظرت نيهان الى النادل نريد فقط عصير فواكه طبيعي لو سمحت.

نظر اليها كمال بنظرة اعجاب ثم قال: همم تحددي الأشياء عني بدلاً مني.

نيهان بابتسامة عريضة: أفعل هذه الأشياء لمصلحتك.

حلّ الصباح و أمير لا يزال مستيقظ، كان يتفكر بكل الأشياء التي حدثت، كان يحاول أن يدرك نفسه و قيمته، كان يحاول استعادة نفسه، كان يريد المضي قدماً دون أي أحلام أو أمنيات..

"الحب هو التضحية لسعادة من نحب"

و لذلك قرر أمير أن يبقى ذلك الصديق المخلص، صديق الطفولة، قرر أن لا يتجاوز حده معها قرر أن يحافظ على مسافات الصداقة.

كانت نيهان نائمة على سريرها في غرفتها بدأت أطراف الشمس تتسلل الى غرفتها، بدأ شعاع الشمس يلامس وجهها، بدأت تفتح عينيها رويداً رويداً، بدأت تتذكر لحظات الأمس، لحظات الحب، لحظات ود القلب، كانت سعيدة جداً لعيشها لتلك اللحظات التي جمعتها مع كمال، كانت بدايات الحب تتسلل الى أعماقها..

نهضت بتفاؤل و ايجابية و بدأت توظب أشيائها و حوائجها، اختارت الملابس التي سترتديها، بدأت تسرح خصلات شعرها المتموجة ثم لفت شعرها بمشبك لطيف، أخذت أشيائها و خرجت راكضة نحو غرفة كمال، قرعت جرس باب الغرفة ليفتح لها هو الآخر بعد أن جهز نفسه و أمتعته..

نيهان بعينان براقتان و ابتسامة رقيقة: صباح الخير.

كمال بسعادة و ابتسامة هادئة: صباح النور.

نيهان: ألم يأتي أمير بعد؟

كمال: لا لم يأتي بعد.

نيهان: إذاً سأذهب إليه لأطمئن عليه.

أمسك كمال بيدها قائلاً و هو ينظر اليها بغيرة: نذهب معاً ال غرفته.

نيهان بسعادة عارمة: اتفقنا إذاً.

اتجها الى غرفة أمير إلا أنهما بعد أن قرعا جرس باب غرفة أمير لم يرد أي أحد عليهم ليجد كمال أسفل الباب ورقة ملاحظات صغيرة كان قد كُتب عليها..

"صديقي كمال لدي عمل هنا لذلك سأبقى هنا لمدة شهرين و ذلك لأجل مصلحة شركتنا، أرجوك اعتني بنيهان جيداً إنها أمانة في عنقك"

صُدِمَت نيهان بعد أن قرأت الملاحظة ثم قالت:
_كيف يفعل ذلك، كان يمكنه إخبارنا وجه لوجه، كان يمكنه توديعنا على الأقل.

كمال: ربما لديه أسبابه الخاصة لفعل ذلك، لكن لا يمكننا تأخير عودتنا أكثر فالشركة بحاجتنا في تركيا أيضاً.

نيهان: أنتَ محق لكن لا يمكنني العودة دون رؤية أمير فهو بالنهاية صديق طفولتي.

كمال: فلننتظره هنا إذاً.

نيهان: أريد البحث عنه.

كمال: ربما يكون قد ذهب الى الحديقة لنذهب و نتفقد هناك.

نيهان: حسناً إذاً فلنذهب.

كمال: أنا متفاجئ من فعلته هذه فلم يفعل أي شيء سابقاً من هذه التصرفات.

نيهان: و أنا أعرفه جيداً منذ الطفولة أشعر بأن هناك شيء ما يزعجه.

كمال: لا ادري عندما نراه سنعلم كل شيء.

نيهان: عندما أراه سأوبخه.

ذهبا كل من كمال و نيهان الى الحديقة القريبة من الفندق إلا أنهما لم يجداه، بدأا  بالبحث في جميع الأماكن القريبة إلا أنهم لم يجداه حاولا الاتصال به كثيراً إلا أنه لم يرد على أي من مكالماتهما، هنا بدأت نيهان في دخول حلقة الخوف و القلق عليه فمن المستحيل أن يفعل ذلك، فهي تعرفه أكثر من أي شخص.

نيهان: لن أذهب لأي مكان سأبقى و أنتظره هنا.

كمال: حسناً لنبقى هنا ليومين.

نيهان: حسناً لعله يأتي و نطمئن.

أرسلت له نيهان رسالة على رقمه مفادها:

"أمير لن أذهب من هنا حتى تعود و ألقاك، أنا بانتظارك!"

وصلت تلك الرسالة لأمير الذي كان يجلس على ضفة نهر بعيدة عن كل شيء كان قد أحاط به سابقاً، كان يحاول التنفس بصعوبة، كيف له بالتنفس مع وجود قلبه الجريح المكسور، كان أشبه بطائر قد خسر جناحاه كذلك نيهان كانت كل أمنياته، كيف له بالتقدم مع وجود ذلك الألم و الحيرة، كيف له بالنظر في عيناهما و هو يخفي كل مشاعره، كيف له بالتحدي و المواجه و هو قد خسر كل ما أراده، خسر حلمه و حب حياته و طفولته..

حاول أن يقف على ضفة النهر ليتنفس الصعداء و إذ بفتاة على دراجة نارية، كانت فتاة جميلة جداً طويلة بيضاء البشرة، كانت تملك عيون سوداء اللون و شعر أسود طويل، كانت ناصعة البياض لها غمازتان، كانت ترتدي تيشرت أبيض قصير تعلوه سترة سوداء و بنطال اسود ضيق، كانت تراه من بعيد، ثم نزلت من الدراجة النارية و ركضت نحوه ثم  أمسكت بيده لتشده اليها فتقع برفقته على شارع الضفة و تدحرج برفقته الى الاسفل..

نظر اليها أمير بعد أن كانت قد وقعت أعلاه ثم تفاجئ قائلاً:
_أنتِ نفس الفتاة التي رأيتها في حفل الأمس أليس كذلك.

فوليا: يمكنك محادثتي باللغة التركية فأنا أيضاً من تركيا و أملك نفس جنسيتك.

أمير: إذاً هل يمكنكِ الابتعاد عني قليلاً.

فوليا: اوه آسفة.

أمير: لماذا ركضتي نحوي بهذا الشكل انظري ماذا حلّ بنا.

فوليا: و هل أتركك لتنتحر و تموت و تنتهي حياتك بالكد و المعاناة.

أمير بصدمة: ماذا ا ا ا؟ أنا أنتحر ر ر ر؟

فوليا: نعم لقد رأيتك تقف على الضفة و قد كنتَ تستعد للقفز نحو الأسفل.

أمير: و هل كل من يقف هنا يقف فقط لينتحر، كنتُ أقف و أراقب منظر الطبيعة لأنه جذبني.

فوليا: ا و ه ربما فهمتُ خطأ، أعتذر..

أمير: لا داعي للاعتذار و مع ذلك شكراً لك.

فوليا: حسناً لا شكر على واجب، ثم جلست.

نظر أمير اليها و قال في نفسه:
" ألم يكن ينقصني سوى هذه الفتاة البلهاء، ألا يكفيني الذي بي "

نظرت اليه فوليا و بدأت تقول له: و هل ستبقى واقف هكذا.

جلس أمير الى جانب فوليا بصمت و هدوء، نظرت اليه فوليا ثم قالت له:

_انتظرني سآتي فوراً.

أمير: حسناً.

كان أمير ينظر لها من بعيد فقال في نفسه:
"إنها جميلة و بلهاء"

عادت فوليا و هي تحمل بيدها حافظة حرارية و بعض المراهم الطبية و المضادات و الضمادات..

فوليا: حسناً أظن بأنك قد أُغرمت بالشاي الهندي إلا أنني لا أحب سوى الشاي الخاص بنا في تركيا.

ابتسم أمير و أجابها قائلاً لها:

_ نقطة مشتركة!

فوليا: ههه لم أفهم.

أمير: و أنا أظن بأن الشاي خاصتنا أفضل بكثير من الشاي الهندي الذي يُقدّم هنا.

فوليا: هممم جميل و إخيراً وجدتُ أحد ما بعترف بذلك.

سكبت له الشاي و أعطته فنجاناً كبير من الشاي، ثم أخذت فنجانه و بدأت ترتشف الشاي بهدوء ثم نظرت اليه و مدّت كفها لتصافحه ثم قالت:

_أظن بأنه علينا أن نتعارف، اسمي فوليا.

أمير: و أنا اسمي أمير.

فوليا: تشرفتُ بمعرفتك.

أمير: و أنا أيضاً.

فوليا: يبدو بأنك هنا لفترة قصيرة.

أمير: سأبقى هنا لمدة شهرين فقط.

فوليا: همم جميل أما أنا فسأبقى هنا لمدة ثلاثة شهور.

أمير: أظن بأننا سنلتقي دائماً.

فوليا بقهقهة سعيدة: نفس الشعور أيضاً.

أمير: الشاي لذيذ، سلمت يداكِ.

فوليا: بالهناء و العافية، أعطني يدك إنها مصابة.

أمير: لا مشكلة معتاد على مثل هذه الجروح.

فوليا: يبدو أنك جريح فعلاً.

أمير: لم أفهم.

فوليا: لا يأتي الى هنا سوى الجريح، أقصد جريح القلب.

أمير: أنتِ محقة فهذا المكان مريح لمثل هذه الآلام.

فوليا: نعم فهنا يمكنك البوح بكل ما تشعر به للجبال و الهضاب، للأشجار و الأزهار، للسماء و للغيوم، هذا المكان للبوح بكل الثقل الذي نشعر به.

أمير: يبدو بأنك تعانين أيضاً من ثقل الأيام.

فوليا: ماذا عنك؟

أمير: خسرتُ حبي منذ الطفولة ليتبين أنني كنتُ أبادر من طرف واحد فقط.

فوليا: أمر مؤلم.

أمير: هل شعرتِ به سابقاً؟

فوليا: نعم.

أمير: و كيف مضى ذلك الألم؟

فوليا: ذلك الألم يبقى محتل جزء ما من القلب إلا أنّ مساحته تتضائل مع الوقت..

أمير: إذاً فأنتِ تقصدين بأن الألم لا يزول و إنما نعتاد عليه مع الوقت.

فوليا: بالضبط هذا ما قصدته.

أمير: و كيف تقدمتِ للأمام، أقصد كيفَ مضيتِ قدماً.

فوليا: بالتجاهل، كنتُ أتجاهل كل شيء حتى عدتُ الى رشدي.

أمير: تقولين ذلك و كأنكِ الآن عاقلة.

فوليا: ههه لا على العكس لقد أصبحتُ احب نفسي أكثر، أصبحتُ أضحي لنفسي فقط، قدّمتُ نفسي على كل شيء..

أمير: همم جميل.

فوليا: هل تعلم؟

أمير: ماذا؟

فوليا: حب النفس هو الذي يقدمنا للأمام هو الذي يجعلنا نقوم بالمضي قدماً.

أمير: ربما أنتِ على حق.

فوليا: حسناً هل تريد الذهاب بجولة معي على الدراجة النارية خول تلك الجبال.

امير: لا أمانع بذلك لكنني لا أريد الموت الآن أرجوكِ قودي ببطئ.

فوليا: ههه حسناً اتفقنا.

بينما كانت نيهان تجلس بحزن و تنتظر قدوم أمير كان كمال يحاول أن يعد لها مفاجئة من أجل أن يسعدها و لو قليلاً، فلقد سبب لها أمير الحزن بسبب تلك الرسالة و لذلك كان يحاول ان يعد لها إفطار في غرفته الخاصة به، و بعد أن انتهى ذهب ليصطحبها، قرع جرس باب غرفة نيهان الخاصة بها و بعد ان استأذن بالدخول، دخل الى الغرفة ليجدها تعمل على عدة تصاميم من أجل الشركة، نظر اليها و بدأ يحاورها..

كمال: حسناً يكفي عمل الآن فلقد حان موعد تناول الطعام.

نيهان: لا أريد كمال صدقاً لستُ جائعة.

كمال: لقد أعددتُ لكِ وجبة الإفطار بكل حب فهل تردينني خائباً..

نيهان بسعادة: بكل ماذا؟

كمال: بكل حب.

نيهان: هممم جميل، لكن لماذا عذبت نفسك فأنا لستُ جائعة.

كمال و هو يقهقه مازحاً: لا تغضبيني نيهان هيا فلنذهب لتناول الطعام.

نيهان: ههه حسناً حسناً أنا قادمة إليك اسبقني أنت.

كمال: لن أذهب حتى تأتي معي.

نيهان: إذاً فلتنتظرني سآخذ شاور سريع و أعود إليك.

كمال: اتفقنا.


في تلك الأثناء كان كمال ينظر الى تصاميم نيهان التي كانت تعمل على تعديلها و تحسينها، بدأ ينظر الى أشيائها، كان ينظر الى أشيائها الطفولية بابتسامة..

قال في نفسه: عندما نعود سأعترف لها..


و بعد مرور القليل من الوقت خرجت نيهان بعد ان استعدت ثم اضطحبها كمال الى غرفته لتناول الإفطار، عندما دخلت استمتعت بمشاهدة مأدبة الطعام فلقد كان كمال قد زين طاولة الطعام بالزهور و الاوراق الخضراء مما نال ذلك إعجاب نيهان.

نيهان: همم لم أكن أعلم بذوقك الرفيع هذا.

كمال: هل هذا مدح أم ذم.

نيهان: بالطبع مدح.

كمال: اذاً هيا فلنتناول الطعام معاً.

نيهان: كنتُ أتمنى لو كان أميرهتا.

كمال: سيأتي لا تقلقي عليه.

نيهان: أتمنى ذلك.

بينما كان أمير يتجول مع فوليا حول الهضاب و التلال..

أمير: المنظر رائع هنا.

فوليا: نعم لذلك انا كل أسبوع آتي الى هنا.

أمير: في المرة القادمة سأرافقك أيضاً ههه.

فوليا بقهقهة سعيدة: ههه اتفقنا.

أمير: حسناً أنا أعزمك على الغداء اليوم ما رأيك.

فوليا: همم اتفقنا.

و بعد ان انتهيا من نزهتهم اصطحب أمير فوليا الى المطعم ليتناولا الغداء، و بعد أن وصلا جلسا حيث كانا ينتظران قدوم النادل و ما هي الا ثواني معدودة حتى أقبل اليهم النادل..

النادل: أهلا و سهلاً بكم تفضلوا ماذا تريدون أن أحضر لكم..

أمير و فوليا معاً: الماء أولاً..

ضحكا كثيراً و تعالت أصوات قهقهاتهم بسبب قولهم و طلبهم المماثل بينما شاركهم النادل الضحك..

أمير: حسناً سأطلب الآن أنا.

هزت فوليا رأسها ايجاباً بصمت.

النادل: تفضل سيدي ما هو طلبك؟

أمير: أريد قطعة همبرغر و علبة أصابع البطاطس المقلية بالإضافة لبعض التوابل كالكتشب و المايونيز..

النادل: حسناً سيدي دونتُ طلبك، تفضلي سيدتي أخبريني بطلبك..

فوليا: كما طلب السيد بالإضافة الى عصير الرمان الحامض و الحار..

النادل: حسناً سيدتي دونتُ طلبك.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي