يلديز

ندى محسن`بقلم

  • الأعمال الأصلية

    النوع
  • 2023-07-01ضع على الرف
  • 81K

    جارِ التحديث(كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

الفصل الأول جزيرة التوابيت

في عام ألفين وثلاثة وعشرون، بالتحديد في شهر يناير، اشرقت الشمس على جزيرة التوابيت الموجودة على مسافة كبيرة من مصر في البحر المتوسط.
استيقظت يلديز وهي تفرك عينيها بنعاس قبل أن تخرج من تابوتها المليء بالثقوب، والذي يفوق جسدها ضخامة بثلاثة مرات، وقفت وهي تفرد جسدها وترى إشاعة الشمس تضيء كل شيء من حولها، سارت على الشاطئ، ابتسمت عندما سمعت صوت الكلبة الخاصة بها:

-اقتربي يا بابسي، لقد استيقظنا قبل الجميع ككل يوم، الأجواء رائعة ألا توافقيني.

كانت الكلبة تنبح وهي تدور حول يلديز التي تضحك وتلعب معها:

-تعالي لأقدم لكِ الطعام قبل استيقاظ الجميع وبدأ يوم مليء بالعمل.

كانت تطعمها اللحم المتبقي وهي تنظر حولها، لقد كانت جزيرة التوابيت على قدر عالي من الجمال والبساطة، تملأها الأشجار المثمرة، هناك جانب خاص بتربية الحيوانات، شعرت يلديز في هذا الوقت بخطوات متمهلة من خلفها، التفتت وعلى الفور اختفت إبتسامتها:

-ما الذي تفعليه يا يلديز هنا في هذا الوقت المبكر؟ ألم أخبركِ أن جابر سوف يأتي؟ بعد قليل سوف تأتي السفينة والكثير من الرجال سوف ينتشرون.

ضمت يلديز بابسي التي تنبح في وجه جوردن ليتحدث بحدة شديدة:

-اجعليها تصمت قبل أن أنهي حياتها، لا أعلم ما الذي يجعلكي تتعلقي بشيء كهذا.

ابتلعت يلديز ما بحلقها وهي تنظر له بعينيها الزرقاء التي تسلبه عقله، ابتسم وهو يتأملها وقد تناسى غضبه، شعرها الأحمر الطويل يجعله على وشك أن يقتلع أعين جميع سكان الجزيرة حتى لا ينظر لها أحد سواه.

اقترب منها وهو يتأمل عينيها والنمش على وجهها، تحدثت يلديز بصوت مرتجف وهي تبتعد للخلف:

-أشعر بالاختناق عندما أطيل للبقاء داخل التابوت يا جوردن، أريد أن أبقى هنا قبل مجيء جابر وعمال السفينة.

ابتسم جوردن وهو يقرب يده ليضعها على شعرها، شعر بنفورها الشديد وقد انكمش جسدها ليجعله هذا يغضب:

-ماذا بكِ؟ كيف تريني يا يلديز لتشمأزي مني بتلك الطريقة؟

كانت يلديز تخشاه وضخامته تقلقها، تفكر كثيرًا ماذا لو قام بصفعها؟ مؤكد سوف يُكسر فكها، ابتعدت وهي تبعد عينيها بقلق:

-سوف أذهب بجوار تابوتي، ربما أغير ملابسي خلف الساتر الخاص بي أو أرتدي المزيد من الملابس في هذا البرد.

اسرعت بالرحيل ووقف جوردن ذات الأعين السوداء يحدق في المكان التي تركته فارغًا بعد رحيلها ورحيل بابسي معها:

-ابنة عمي ومازالت لا تستطيع أن تبقى معي، لا أعلم متى سيلين عقلها؟

أتاه الرد من خلفه وصاحبته تقترب وتحدق به بعينيها الخضراء وشعرها الأصفر:

-لا أصدق أن هناك من يزعجك إلى هذا الحد يا جوردن ويجعل الدماء تفور في عروقك.

نظر جوردن تجاهها بجمود وقد احتدت عينيه:

-ما الذي تريديه أنتِ الأخرى يا كادي؟

حركت كادي رأسها بنفي، تسير بتمايل لتقف أمامه وهي تتأمل هيئته وملابسه السوداء، تحدثت وعينيها تتعمد أن تطيل النظر إلى عينيه:

-أنت لماذا تحبها إلى هذا الحد يا جوردن؟ جميع الفتيات مستعدين لفعل أي شيء من أجلك، لماذا يلديز؟

ابتسم جوردن وهو ينظر إلى شفتيها ومن ثم إلى عينيها:

-لأنها ليست كالجميع يا كادي.

اقتربت منه كادي ومازالت عينيها مسلطة تجاهه، حاوط جوردن خصرها وهو يبتسم بخبث، يعلم أنها تحبه بل تعشقه وبشده، يعلم أنها محقة والكثير من الفتيات يتمنوا الاقتراب منه؛ فهو سيتولى حكم جزيرة التوابيت من بعد عمه كنان والد يلديز، مع هذا قلبه لا يميل لأحد سواها! يخبر نفسه أنه لا بأس ببعض التسلية.

كانت كادي تشعر بالأمل يشتعل في داخلها، تتمنى لو ينبض قلبه من أجلها، كلما اقترب منها تظن أنه سوف يعطيها الفرصة ويتخلى عن حبه إلى يلديز؛ فهي تلك المغرورة في نظرها.

وقفت يلديز أمام بابسي وهي تخاطبها كأنها تفهم كل شيء تعنيه، تحدثت بانفعال واضح للغاية وهي تشيح بيدها هنا وهناك:

-يستمر في مضايقتي دون ملل، يستمر في اغضابي بشده، لا أعلم ما الذي يمكنني أن أفعله ليبتعد عني، ترين كم هو ضخم؟ أنا أصل لبطنه ومع ذلك يستمر في الاقترب وكأنه على وشك أن يدهسني، لا يمكنني تخيل أن هذا الشخص سيكون زوجي كما قال أبي! سوف أموت ولا أقبل به.

نبحت بابسي وكأنها تؤيد حديثها، استفاقت والدة يلديز في هذا الوقت وهي تقترب منها بضيق:

-لماذا جلبتي بابسي إلى هنا حيث يناموا الفتيات؟ تريدين أن تصنعي مشكلة ككل يوم؟

حركت يلديز رأسها بنفي والبراءة تندلع من عينيها، اشارت إلى خلف الساتر:

-جوردن لا يتركني وشأني، ما إن يسمع صوتي في مكان ما يأتي لي يا أمي ويستمر في مضايقتي ووضع يده عليّ.

ظهر الضيق على وجه والدتها، تعلم يلديز جيدًا أن والدتها تميل إلى زواجها من جوردن كوالدها، ابتلعت يلديز ما بحلقها وحاولت أن تستجمع كل ذرة شجاعة بقلبها لتتحدث بانفعال:

-أموت ولا أتزوج به يا أمي.

انفعلت توناي والدتها وهي تنظر في وجهها، تشعر بالكثير من الضيق تجاه تفكير يلديز وغرورها كما يسميه الجميع، جوردن أقوى رجل على هذه الجزيرة وابن عمها ولن نجد أفضل منه لتتزوج به:

-ما الذي يفكر به عقلكِ الفاسد هذا؟ جوردن رجل لا يستطيع أحد رفضه، هو رائع ويتمنى اسعادكِ، يحبكي يا فتاة.

حركت يلديز رأسها بنفي وهي تشعر بالنفور الشديد تجاهه، تحولت ملامحها للأشمأزاز، استدارت لتعطي ظهرها إلى والدتها وهي تتحدث بعناد شديد:

-أموت ولا أتزوج به يا أمي.

قاطعهم صوت كنان الذي اقترب بحدة شديدة وصوته جعل أوصال يلديز ترتجف:

-من الذي ترفضينه يا يلديز؟

نظرت إليه ومن ثم نظرت إلى الأسفل بقلق شديد، لم يكن لديها الشجاعة الكافية للتحدث بحرف واحد أمام والدها، أعاد سؤاله بحزم شديد:

-من الذي تموتين ولا تتزوجي به يا تُرى؟!

تدخلت توناي والدتها وهي ترى احمرار وجه ابنتها وهي تكاد أن تبكي:

-هي لا ترغب في الزواج من جوردن يا كنان، لا ترتاح له و..

قاطعها كنان بصوته القاسي وهو يوجه حديثه إلى يلديز:

-لم يأتي اليوم التي تكسر ابنتي به كلمتي يا يلديز، لا أنتِ ولا أختكِ.

نظرت يلديز إليه ودموعها تتساقط، حاولت التحدث لكن لسانها لم ينطق بحرف، اقتربت أختها إيكيز الملقبة بشبيهة القمر، كانت تمتلك الشجاعة في التحدث إلى والدها وهي التي تبلغ من العمر عشرون عامًا وتصغر يلديز بخمس أعوام آخرين:

-أبي هي لا تريد الزواج بجوردن، لماذا هذا الاصرار؟!

نظر كنان إلى إيكيز وهو لا يريد لابنته أن تزيد في عنادها، تحدث بحزم وحدة شديدة:

-أنا أتحدث إلى أختكِ لا تتدخلي، جوردن يحبها وسوف يحافظ عليها، هو لن يتزوج بغيرها، سوف يتدمر كل شيء إن رفضت هي الزواج به، انتهى الأمر يا يلديز بعد غد سوف يكون كل شيء جاهز، في الحفل المقام سوف يتم إعلان زواجكِ على جوردن.

فلتت شهقة من بين شفتيها، اتسعت أعين يلديز ودموعها تهبط في تتابع دون توقف، ذهب كنان وتبعته توناي بحزن على حالة ابنتها، اقتربت إيكيز منها وهي تشعر بالحزن تجاهها:

-لا تعرفين أين الخير يا يلديز، ربما يكون جوردن بالفعل هو سبب سعادتكِ في المستقبل، من تتزوج تتحرر من أمر أهلها، سوف تتحررين.

نظرت يلديز لها ومن ثم وضعت يدها على وجهها لتنهار في البكاء، شعرت إيكيز أن الحديث سوف يزعجها أكثر وقررت أن تتركها تبكي؛ لعلها ترتاح.

-------
في منزل ضخم يظهر عليه الرقي والفخامة، بالتحديد في الأسكندرية، وقفت سيارة سوداء ضخمة وهبط منها هذا الرجل الذي يرتدي بنطال أسود وقميص من نفس اللون، ذات طول فارع، أزال نظارته الشمسية وعينيه البنية تحدق في كل شيء من حوله، سار بجاذبيته المعهودة حتى دلف إلى المنزل.

طرق الباب ليفتح بعد ثواني ويبتسم في وجهه هذا الشاب الذي يشبهه:

-مراد من الجيد أنك أتيت، لقد كان أبي في انتظارك وجدتك على وشك أن تفقد عقلها من بياتك في الخارج.

دلف مراد إلى الداخل وهو يتحدث بهدوء وقد نال الأرهاق منه:

-كان اليوم مرهق كثيرًا يا بدر، لم أنم حتى الآن.

اقترب منه بدر وهو يشعر بالحزن من أجله، دلف إلى الصالون حيث تجمع عائلته الصغيرة المكونة من أبيه وأمه وجدته، لديه أخ واحد وهو بدر وأخت واحدة وهي روڤان، انفعلت جدته وهي تنظر له:

-لماذا لا تستمع لنا يا مراد وتستمر في البقاء خارج المنزل؟

اقترب مراد ليجلس وهو يرجع ظهره على الكرسي:

-لم أجدها بعد يا جدتي، نبحث عن وجه جديد يليق به دور حورية البحر، تعلمون الأمر ليس سهل.

تحدثت روڤان وقد لمعت عينيها بحماس شديد كعادتها:

-أخي أنا أريد هذا الدور، صدقني سوف أجيده جيدًا، أنظر لي أنا متحمسة للغاية.

وقف مراد وقد انفعل والغضب يندلع من عينيه، يرفض فكرة اندماج أخته مع الوسط الموجود به، هو يعلم نوايا الرجال ولا يمكنه المخاطرة بوضعها بينهم:

-انتيهنا من الحديث في هذا الأمر يا روڤان، سبق وقولت لكِ لا تطلبي مثل هذا الطلب مجددًا.

ابتسم عاصم وهو يومأ له ويشير لروڤان بالصمت:

-حسنًا يا مراد لا يوجد داعي للغضب.

أخذ مراد نفس عميق يحاول الهدوء، شعر بأنه على وشك أن يفسد كل شيء بارهاقه ورغبة النوم التي تسيطر عليه:

-سوف أذهب إلى غرفتي يا أبي، سوف أرتاح قبل أن يتصل بي كارم ونعود للعمل وتقييم المتقدمين للدور.

أومأ له عاصم:

-حسنًا يا حبيبي اعتني بنفسك.

صعد مراد على سلم المنزل، نظرت جدته إلى عاصم وعينيها البنية ترمقه بغيظ شديد:

-لم تخبره أن عمته وابناءها سوف يأتون إلى هنا يا عاصم! متى سوف تخبره وهو سوف يغادر المنزل مجددًا؟ عليه أن يبقى بالقرب، نريده أن يتقرب من هاجر أكثر.

ضحك عاصم وهو يعرف ما الذي يدور بعقل والدته، هي تريد منه أن يتزوج بهاجر ابنة أخته، لكن كيف عليه أن يخبره بهذا وهو يعلم أن مراد لا يمتلك أي مشاعر تجاهها؟! يعلم أن هذا الوقت بالنسبة إلى مراد وقت عصيب لا يمكنه أن يفكر في كل شيء تريده والدته.

قاطعه صوتها المتأفف:

-أنا أتحدث معك يا عاصم! بماذا أنت شارد يا ترى؟

حرك عاصم رأسه بنفي وهو يقف ليتجه إلى الأعلى، نظر إلى مي زوجته وهو يبتسم:

-لا شيء يا أمي، سوف أذهب لأتحدث مع مراد، لعله يبقى ولا يذهب.

اجابته والدته باصرار شديد وهي تغمض عينيها وتفتحها سريعًا بثقة:

-عليه أن يبقى، عمته أتت من فرنسا اليوم وعليه أن يستقبلها هي وزوجها وابناءها.

صعد بالفعل عاصم وهو يشعر بالحيرة، يعلم أنه لو طلب البقاء من مراد سوف يبقى، لكنه سوف يشعر بالضيق وأنه مجبر على البقاء بينهم، سوف يتحدث معه ويخبره بالحديث الذي دار بينه وبين جدته، عليه أن يحسم الأمر، إما أن يعطي لنفسه فرصة مع هاجر أو يخبر جدته أنه لا يفكر بها بتلك الطريقة.

قام عاصم بطرق باب الغرفة الأسود ولم يجد أي إجابة، فتح الباب ليراه نائم في سريره ويبدو أن الارهاق قد نال منه، ابتسم وهو يشعر بالسعادة والفخر به دائمًا:

-أحلام سعيدة يا بطلي الخارق.

تجاوزت الساعة الخامسة مساءً، كانت يلديز تجلس أسفل شجرة وهي شاردة بحديث أبيها، شعرت بيد توضع على كتفها ويصرخ صاحبها:

-يلديز انتبهي!

انتفض جسدها لتقف فورًا، رمقته بغضب شديد بينما الآخر انفجر ضاحكًا:

-لقد استطعت رعبكِ يا يلديز، تفوقت عليكِ هذه المرة يا صديقتي.

عضت يلديز على شفتها السفلى بغيظ شديد:

-أنت بغيض يا أدم، لم أجد في حياتي شخص بغيض مثلك، أنا لست في مزاج جيد وأنت مُصر على المزاح بطريقة سخيفة.

وقف أدم أمامها بحيرة وهو للمرة الأولى يراها عابثة هكذا، تساءل وهو يتمنى أن يجعلها تبتسم:

-ما الذي حدث، لماذا جميلتنا عابثة اليوم؟ من الذي ضايقكِ؟ لقد أتيت مع جابر على السفينة ولم أراكي بالقرب كما اعتدت!
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي