٢

نجح بإسكاتها ولكن ماريا انهالت بالتوبيخ عليه وبدأت تئنبه على سرقة شيء من مشغل والدها، لكن عمر أصر على أنها مجرد لعبة مدعياً أنه يعرفها من قبل.

لم تستطع ماريا أن تخفي فضولها هي الأخرى فأمسكت بالصندوق تحاول استكشافه.

كان مصنوعاً من الخشب ومزيناً بكتابات ونقوش غريبة بعض الشيء، مد عمر يده محاولا انتزاعه من بين يديها ولكن الصندوق سقط على الارض.

فتح الصندوق من آثر السقطة وظهر ذلك الكتاب من داخله اسرع عمر بانتشاله ليتأكد من سلامته.

لم يمعن النظر كثيراً وسرعان ما قام بفتحه تصفحه بسرعة ليجد أنه كتاب عاديٌّ جدا لا شيء غريب فيه باستثناء بعض الرموز الغريبة على غلافه وتلك الصفحة الممزقة والتي كانت هي الاخيرة على ما يبدو.

خاب ظن عمر وتنهد ثم اغلق الكتاب ليعيده إلى الصندوق، ولكن بمجرد أن تلامست صفحات الكتاب مجدداً صدر ضوء مشع منه وبدا وكأنه يحترق.

شعر عمر بالذعر فألقاه من يده خائفاً ثم نظر إلى يديه ليتفاجئ أنهما ملطختان بالدماء.

شعرت ماريا بالهلع واسرعت نحو باب الحجرة تريد الهرب، لكنها لم تكمل خطوتها الأولى إلى وقد أحست بأن شيئاً ما قد أمسك برجلها وبدأ يشدها إلى الوراء.

نظرت وهي تكاد يغمى عليها من الخوف لتجد وكأن فتحةً ظهرت بأرض الغرفة وقد سحبت عمر فيها وهو يمسك برجل أخته يحاول التبث بها.

صرخت بأعلى صوتها ولكن ما من جدوة لم يكن لها أي صوت وكأنها في تحلق كان عمر الأخر يصرخ ويستنجد ولكن لا فائدة لقد فقد صوته هو الأخر.

سقطت ماريا على الأرض هي الأخرى وسرعان ما توسعت الحفرة حتى كادت تبتلع الغرفة بأكملها.

جذبت ماريا إليها ثم وفجأة بدأت بالتقلص مجدداً إلى أن اختفت في بضع ثوانٍ معدودة مبتلعةً في عمقها عمر وماريا إلى المجهول.


فتح عمر عينيه ليجد نفسه ملقى على الأرض، في نهاية أحد الأزقة المغلقة، تلفت حوله متعجبا مما يرى، كانت ارضية الطريق مرصوفة بالاحجار السوداء والجدران كذلك.

حاول رفع جسده عن الأرض قليلا والنظر جيدا في ما حوله، كان زقاقاً مهجورا فارغ من كل مظاهر الحياة على ما يبدو، نظر إلى بدايته عجباً عجاب_

خيل، بغال ونوق تمشي، وأناس كأنهم أتوا من حفل تنكري أو مسرحية ما، ازياء غريبة ولكنة أغرب، ظن عمر أنه في موقع تصوير لأحد الافلام التاريخية التي حدثت في الماضي.

كان الجو ماطراً وبارداً، صوت الامطار وهي تهطل يشعر بالكآبة، وقطرات المطر تتسلل من على اطراف المنازل والمحلات على طرفي الزقاق لتجري اسفل ملابس بكر.

لم يكن هناك اي سقف يحميه من المطر سوى تلك الاقمشة التي مدت ما بين الجدارين، لتحول دون هطول المطر في الزقاق.

نهض من مكانه وهو يمشي بحذر دون أن يدوس على أي شيء، فهنا أقمشة وهناك اخشاب وبرك صغيرة متجمعة من ماء المطر و(روث الخيول مبعثر في المكان) شعر عمر بالقرف وهو يشتم تلك الروائح الغريبة النتنة، فقد فاحت بعد هطول المطر بشكل مضاعف.

خرج من الزقاق ولم يلحظه اي أحد، كان الناس يسيرون مشغولين بأرزاقهم دون ان ينتبه لعمر احدهم، كان عمر يمشي والتعجب يملئ ملامح وجهه بحاجبين مرفوعين وعينين مفتوحتين على اتساعهما.

كان واضحاً على انه في بلاد ليست بلاده، وعلى الاغلب هو في زمن غير زمنه الذي كان يعيش فيه، فجأة سمع صوت حوافر الخيل تضرب بالأرض.

كانت تسير بسرعة متجهة نحوه على ما يبدو، اصاب الناس شيء من الذعر فتنحوا جميعا من على الطريق ليفتحوا المجال للقادمين، وعاد عمر إلى بداية الزقاق ليحتمي.

مرت بضعة خيول من امام عمر مسرعة كأنها السهام الثاقبة، كان عليها رجلان اشبه بالفرسان الذين كان يرى صورهم في كتب المدرسة مرتدين الدروع الحديدية والخوذ واللثمات وكل منهم ممسك بسيفه البتار.

مرت الخيول وعاد الناس إلى ما كانوا عليه قبل ذلك، في تلك اللحظة تذكر عمر امرا جعله ينتفض من مكانه كأن صاعقةً برق اصابته، تلفت حوله بخوف وذعر وصرخ: ماريااا، مارياااا

لم يجبه احد ولم يسمع ندائه احد فأصابه ذعر شديد، نهض يبحث في الارجاء عن أخته، وهو لا يدري اي شيء عما جرى له حتى رأه احد المارة في الطريق.

تقدم ذلك الرجل إليه ليرى ما خطب ذلك الفتى، دخل الرجل في الزقاق وقد كان سميناً بدينا بالكاد يستطيع المشي والحركة، وقف عند مدخل الزقاق الضيق يسده بجسمه ويحجب عنه النور الأتي من الخارج.

فتنبه عمر لذلك الرجل ونظر له ليرى امامه رجلا ضخما بدينا غليظ المنظر، بشاربين عريضين ولحية كثيفة، عليه من تلك الثياب الغريبة المزركشة تلفه من عنقه إلى اخمص قدميه وكأنها مطرزة للحفلات.

صرخ الرجل في وجه عمر قائلا بنبرة مستنكرة: ماذا تفعل هنا أيها الفتى!؟

توجس عمر خيفة في نفسه واضمر في داخله الريب ثم قال: ابحث عن شيء اضعته هنا.

وضع الرجل يديه على شاربه يقوم بتمسيدهما وتقدم ناحية عمر وهو يقول: لا يبدو عليك انك من هذه المدينة ايها الفتى، من أي البلاد انت؟!

تراجع عمر إلى الخلف خطوة، ومع كل خطوة كان الرجل يخطوها ناحيته دون ان يلتفت إلى الوراء وهو يتلعثم محاولا الكلام ثم بعد جهد جهيد قال: انا من مصر.

توقف الرجل ينظر للفتى الذي يقف امامه متعجبا ثم قال: مصر! انت من مصر؟ لا يبدو عليك ذلك، ثم ما هذه الملابس الغريبة التي عليك يا فتى؟

عمر وقد لف لسانه من الخوف: وما شأنك أنت؟ دعني اكمل ما كنت افعله.

رفع الرجل حاجبيه لم يعجبه ما سمعه، فقال: اممم اسمع يا فتى هذا الزقاق لي وانت تتعدى على املاكي، ولابد انك احد أولئك اللصوص الحثالة.

حاول عمر إخفاء ما كان يشعر به وقال: لست لصا ولا اعرف حتى ما هذا المكان، والان دعني وشأني.

كان عمر على عجلة من أمره يريد ان يجد اخته قبل ان يصيبها اي اذى، فهي وعلى الارجح هنا اصابها ما اصابه.

تقدم ذلك الرجل ناحية عمر وقد اخرج من خصره عصا صغيرة ملفوف عليها سوط جلدي كالذي يضرب فيه الخيل، شعر عمر بالخوف وتلفت حوله باحثا عن مكان للهرب إليه.

كان الزقاق ضيقا بعرض متر واحد فقط ومغلق من الاعلى بالاقمشة كالسقف له، اقترب الرجل من عمر حتى لم يبقى سوى بضعة امتار فقط.

رفع الرجل يده ممسكا الصوت ليقاطعه صوت احد الشبان من خلفه قائلا: ما الذي يجري هنا!

التفت الرجل إلى الخلف ليرى امامه شاب غريب ايضا ولكن يبدو عليه انه من اهل المدينة وقال: وما شأنك انت؟ هيا انصرف من هنا انت الاخر.

الشاب الغريب قال: كف يدك عنه قبل ان اجعلها لا تعود إليك مرة اخرى، اتفهم!؟

رد عليه الرجل البدين: انه فتى غريب ويقول انه من مصر ايضا.

الشاب بنبرة امتعاض: وما شأنك انت؟ اتركنه في حال سبيله قلت لك الم تسمعني جيدا؟

الرجل البدين يقول ساخراً: يبدو انك تحب ان تجرب السوط أولا أيها الشاب.

تقدم الشاب إلى الداخل وهو يفرقع اصابعه غير مبالٍ بما قاله الرجل البدين، وقال: اسمع يا برميل اللحم، انا اعرفك، انت احد تجار المدينة الجشعين، اغرب من هنا قبل ان اجعلك تبكي طلبا للرحمة، هيا.

ارتعد الرجل البدين وشعر بالخوف من ذلك الشاب الذي يقف امامه، وقد بدا انه واثق من نفسه ومدرك لما يقول.


تنحى الرجل البدين إلى جانب الجدار وخرج مطئطأً رأسه، مسرعا تاركا الشاب والفتى في زقاقه.

أما عمر فقد كان يقف مشوشا لا يدري اهو في حلم ام في يقظة، فكل ما كان يذكره هو انه جلس هو واخته ماريا على السرير يحاولان قراءة ذلك الكتاب.

توقف عمر وشهق ثم قال بصوت عالٍ: يا إلهي الكتاب!

شعر الشاب بالغرابة لأمر الفتى الذي يقف امامه وقال: ماذا بك يا فتى!

بنبرة متلهفة سأل عمر ذلك الشاب: اخبرني ما اسم هذه البلاد!

قال له ذلك الشاب: انت في الاندلس يا عزيزي.

اصيب عمر بالفزع وتأكد له ما كان وهما ومحض ظن لا اكثر ، جلس على الارض يضم ركبتيه إلى جسمه وكأنه قد دخل في نوبة عصبية.

اقترب الشاب من عمر ووضع يده على كتفه، بعد ان شعر بالحزن والقلق ممزوجين عليه، وقال: ما بك يا فتى يبدو انك لست من هنا!

رفع عمر رأسه واسنده إلى الجدار خلفه وقال بصوت مختنق: انت محق، لست من هنا وعلى الارجح لست من هذا العصر ايضا.

شعر الشاب بالارتياب ولم يصدق ما قاله عمر وقال: لست من هذا العصر! اتمازحني يا فتى!

أغمض عمر عيناه وقال: لا اظن انني في وضع يسمح لي بالمزاح.

توقف المطر وهدأت أصوات الرعود وعاد السوق يكتظ بالناس من جديد، نهض الشاب يتلفت حوله ولف وجهه بوشاحه مخفيا ملامحه عن الناظرين.

ثم مد يده لعمر وقال: هيا تعال معي
عمر: إلى اين!

الشاب: إلى مكان اكثر اماناً، أنت غريب هنا ولن تكون بخير لوحدك، على الاقل في الوقت الراهن.

قال عمر: ولكن انا لست وحدي.

الشاب: ومن معك! انا لا ارى احدا هنا.


أجابه: معي اختي ماريا لقد كانت معي قبل قليل ولكنني لا اجدها.

الشاب: اسمع ان بقيت هنا فلن تجدها في حياتك ولكن عليك ان تعتني بنفسك ومن ثم تبحث عنها، ثم هي غريبة ايضا، مثلك تماما، وهذا سيجعل عثورك عليها امرا سهلا لا تقلق.

شعر عمر بشيء من الاطمئنان لكلام الشاب ونهض برفقته ليذهب معه كما طلب منه، ثم نظر الشاب إلى عمر بملابسه الغريبة "بنطال جينز وقميص ذو ازرار" لم يرى مثيل لهما من قبل.

لم يدري الشاب ما اسم هذه الملابس ولم ينشغل بالتفكير بها مطلقاً، بل توقف للحظة يفكر في حيلة يخفي بها عمر عن انظار الناس.

تلقت حوله باحثا عن شيء ما يساعده في ذلك، فتعجب عمر من الامر وقال: ما بك؟ لماذا تحدق هكذا؟

الشاب: لقد تيقنت الان انك لست من هذا العصر؛ ما الذي ترتديه يا رجل؟ اعذرني ولكن، لباسك غريب ومضحك بعض الشيء.

بطريقة فيه بعض المزاح قال عمر: وهل تظن انني ارى لباسك غير ما تقول! انت اشبه برجل عارٍ قد لف نفسه ببطانية فقط.

ضحك الشاب وقهقه وهو يقول: يا لك من خفيف الظل الناس كلهم مثلي يا فتى، على كل حال انتظر هنا للحظة.

ذهب الشاب إلى احد الصناديق واخرج قطعة قماشية كبيرة بنية اللون بورود سوداء حريرية الملمس، وقام بلفها حول جسد عمر وقال: الان انت جاهز للإنطلاق.

تنهد عمر وقال: يا إلهي الحمد لله الذي جعل اختي ليست هنا لكي لا تراني البس شيئاً كهذا.

الشاب: اخبرني ما اسمك يا فتى؟
عمر: اسمي عمر وأنت ما اسمك؟
الشاب: اسمي زيد وانا من هذه المدينة.

سأل عمر: إلى اين سنذهب؟
أجابه زيد اولا، سأخذك إلى منزلي يا عمر، ثانيا سنتكلم لاحقا، والان تظاهر بأنك ابكم مهما حاول اي احد التحدث معك فلا تتكلم ولا تلتفت.

قال عمر : ولماذا كل هذا؟!

رد عليه زيد مبررا: لكنتك غريبة ويبدو عليك انك لست من اهل المدينة، هذا سيجعل الامر اكثر خطورة وتعقيدا.

عمر: حسنا كما تريد يا رجل، دعنا نذهب الان.

خرج زيد من الزقاق ومعه عمر ممسكا بيده يصطحبه إلى المنزل، اما عمر فقد كان في غاية الدهشة والتعجب فقد كان يرى اشياءاً غريبة لم يسمع عنها حتى.

كان سوقا كبيراً مغطى بسقف من الواح الخشب وبه من ما تشتهي الاعين وتلذ النفوس، اطعمة، اقمشة، فواكه وخضار، اختراعات، الات للحرب، واشياء لم يكن عمر يعرف ما هي حتى.

كان زيد يسير مسرعا بين الناس يدافع هذا ويدفع تلك كأنما هناك من يتبعه، وعمر مشتت الفكر في ما يراه بين مصدق ومكذب ومحاولا ان يجاري زيد بخطواته السريعة تلك.

كان الضجيج عاليا وكل واحد من البائعين ينادي على الناس مستعرضا ما لديه من جلود او فراء او كتب وحبر.

استمر الشابان بالمشي في ذلك السوق قرابة الربع ساعة حتى انتهيا إلى منطقة المنازل، وقف زيد امام احد المنازل واخرج مفتاحاً من جيبه غريب الشكل وقام بفتح تلك البوابة الخشبية الكبيرة ودخلا.

في داخل المنزل كان عمر يقف عند عتبة الباب متعجبا مما يرى، بيت واسع كبير به مكتبة عظيمة الحجم كثيرة الكتب.

طالعه زيد وقال: ما بك ايها الغريب؟ ادخل تعال

قال له عمر: اليس هنالك احد! اهلك، عائلتك مثلا؟

تبسم زيد من اخلاق عمر وقال: لا تقلق انا هنا اسكن لوحدي، هيا تعال.

خلع عمر حذائه ووضعه بجانب خف زيد ودخل بعد ان خلع تلك القماشة من عليه ووضعها على كرسي خشبي بجانب الباب.

قال عمر متسائلا: اليس علينا ان نعيد القطعة القماشية لصاحبها؟
أجابه زيد : ليس تماما فهو ليس صاحبها الفعلي
لم يفهم عمر ما سمعه، وقال: وكيف ذاك؟
زيد : قصة طويلة سأخبرك بها لاحقا.

الان تعال واجلس واخبرني بقصتك كاملة هيا

قال عمر: قصتي قصيرة انها اقل عشر كلمات حتى

رد عليه زيد وقال: انا استمع.

يتبع.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي