14

أما خالد فقد شعر بخيبة أمل شديدة وفقد الثقة بالجميع فقرر الابتعاد عن القرية وأهلها ليكمل حياته بأسلوبه الجديد.

كانت الأيام تمر والأشهر تنقضي ولا أحد يدق باب منزل مأمون، لم يكن الأمر طبيعيا فقد تعودت العائلة على أن يدقّ بابهم على الأقل مرة في الشهر

لخطبة إحدى الفتيات أو ربما التعرف عليهن على الأقل، لاحظ ذلك كل من في المنزل ولكن أحداً لم يتكلم حفاظاً على مشاعر الآخرين.

أما خالد فقد ظنَّ أن ذهاب خالد جعل الناس تتوجس من ابنته وهند فقط تعلم السبب، إنها المرأة العجوز لقد شوهت سمعة الفتيات ولابد أن أحداً ما سمعها يوم أن اخبرت خالداً بالأمر.

وشاع ذلك الهراء بين الناس ليمنع أي أحد من الاقتراب ناحية هذا المنزل، من هنا بدأت هند في التفكير بطريقة جديدة لتزويج بناتها.

سمعت من إحدى صديقاتها عن ما يحدث في مدينة غرناطة من حفلات وطرب وصخب، وفي نهاية كل حفلة يجد الشبان لأنفسهم فتيات لكي يتزوجنهن.

والنساء أيضاً فكل من كانت لديها ابنة تريد تزويجها كانت تذهب بها إلى هناك، بقيت هند عدة أسابيع تقلب الأمر في رأسها حتى اعتمدت.

وكانت أول زيارة لها إلى المدينة حيث اصطحبتها صديقتها إلى هناك، لم تكن هند رغم كل دهائها ومكرها معتادةً على جو المدن وعاداتها، ولكنها شيئاً فشيئاً بدأت تعتاد الأمر.

أصبحت تلك الحفلات من أولويات هند وتناست السبب الرئيسي في البداية لذهابها إلى هناك وخاصة عندما كانت تنجح في التعرف على أحد المدعوين لتقضي بضعة ساعات معه تنسى فيها جو منزلها الكئيب.

واستمر الوضع على ذلك النحو حتى خطر ببالها أمر قمر وقررت عرض الأمر عليها.

لم تلقى الفكرة أي قبول لدى قمر فقد كان الأمر بالنسبة لها أشبه بعرض نفسها على الرجال، إلا أن هند لم تستسلم وظلّت مقتنعة أنه يجب على قمر الذهاب معها.

مبتغية في ذلك أن تصادف قمر أحد الشبان الأغنياء من أبناء التجار والملوك، ويعجب بها ويتزوجها، كما كان يحدث أمام ناظريها كل ليلة مراراً وتكراراً.

ظلّت قمر على رأيها ولم توافق على الفكرة ووالدها يساندها في الأمر، إلا أن هند نجحت في أمر واحد وهي أنها كانت تحضر معها بعض المال تقوم بإنفاقه على المنزل.

مما أجبر مأمون على الرضوخ لها والسكوت عن أفعالها التي تشينه ولا تروق له.


نعود إلى الوقت الحالي:

ها هي هند لا تزال تذهب إلى تلك الحفلات مع تغيير طفيف في الخطة وهي أنها باتت تبحث لنفسها عن "صديق" كما كانت تحب أن تسميه بعد أن يئِسَتْ من ابنتها قمر.

وأما الفتاتان فقد كانتا على رأي أمّهما وأقرب لتربيتها وعقلها، فحور الفتاة المتوسطة كانت تتمنى أن تذهب مع والدتها لترى ذلك الترف والنعيم الذي تتحدث عنه والدتها باستمرار.

أما نور فقد كانت صغيرة نوعاً ما لا رأي لها في مثل هذه الأمور، وهذه الضيفة الجديدة التي حضرت مؤخرا إلى العائلة "ماريا" لاتزال في تخبط وحيرة بسبب ما جرى لها.

انقضت كل تلك المشاهد والذكريات من مخيلة قمر بعد أن عادت لها وهي تحاول النوم، فأعادت لها الهمّ والأحزان وذكّرتها بالشاب الوحيد الذي أحبته من قلبها.

لكنها فقدت الأمل فيه كما فقدته في غيره واستسلمت لكونها ستكون فتاة عانس دون أن تعثر لنفسها على زوج تبني معه أجمل أحلامها في تكوين عائلتها الخاصة.

وبعد قرابة الساعة استطاعت قمر النوم أخيراً.

في صباح اليوم التالي استيقظ الجميع على صوت بعض المشاحنات والصراع بين الزوجين.

كان مأمون قد دخل إلى الغرفة التي نامت بها زوجته فأيقظها وبدأ يوبخها على أفعالها الأخيرة، وهند كعادتها لا تسكت، سليطة اللسان، وكثيرة الجدال.

انتهى كل ذلك الصراخ بتهديدات واضحة من مأمون لزوجته وأنها ستلقى ما لم تكن تحتسبه في حال ذهبت إلى المدينة مرة أخرى.

هند تجلس على الفراش غير آبهة بكل ما قاله لها زوجها، كيف لا وقد تذوقت البارحة مجرد ساعات فقط طعم الثراء أثناء جلوسها مع هلال!

لم تعد ترضيها حياة الكوخ المتواضعة هذه بل صارت تسعى لتغيير كل ذلك، ولكن الأمر صعب عليها حيث أن الجميع معارض لها أو على الأقل، لا أحد بصفها.

فكرت في حل يجعل من أفكارها مقبولة لدى الجميع في المنزل ولاسيما الفتيات، وبعد كثير من التفكير قررت اصطحاب الفتيات معها إلى تلك الحفلات.

حيث سيكون لهن ما يثير رغبتهن بالعيش في المدينة وتغيير نمط الحياة الريفية التي أصبحت مقززة بالنسبة هند.

بعيداً عن ذلك المنزل كان صديق هند الجديد "هلال" يقف في وسط سوق غرناطة وقد نصب خيامه ليبدأ في عرض بضاعته أمام الناس.

تكتّلت النساء أمامه كل منهن تريد ان ترى ماذا يبيع هذا التاجر الغريب، فهذه تريد عطرا واخرى تريد قماشا واخرى تريد التوابل.

أما هلال فقد كان ينظر في وجوههن باحثاً عن واحدة يبدو عليها الجمال والطاعة نوعا ما لكي يقوم بخداعها كما يفعل في كل مرة.

فيقوم باعطائها بعض البضائع بالمجان ويجعل منها صديقة له في يومه ذلك وليلته.

وعلى عكس كل المرات السابقة، لم يجد هلال ما يلفت انتباهه من بين كل تلك النسوة المحتشدة أمامه، لم يدري ما الأمر ولكنه ظن أن لا نساء جميلات في غرناطة على ما يبدو.

اهتم بالبيع والربح واستطاع بيع كل ما كان معه حتى لم يبقى لديه أي شيء يعرضه أمام الناس، جنى أموالا كثيرة ودراهم لم يكن يتخيل أنه سيجنيها بأسبوع كامل حتى!

أغلق خيمته وأمر الخدم بإعادة ترتيب المكان ووضع هو كيس الدراهم في جيبه ثم مضى يتجول في السوق، كان ذلك السوق يحتوي على كل شيء.

كل ما يمكن أن يخطر على بال من طعام ولباس ومواشي وتحف ومقتنيات وحتى العبيد.

وبينما كان هلال يتجول في السوق خطرت له فكرة بأن يقيم بضعة أيام في المدينة على عكس ما كان يفعل فهو بائع متجول لا يستقر في مكان.

فقد كانت غرناطة هي المملكة الاخيرة من ممالك الاندلس، التي بقيت في يد أهلها ولم تسقط أمام حملة الأعداء في ذلك الوقت، وقد انتشر بين الناس حب الدنيا والترف.

وانشغل الناس في النعم والملذات وتركوا الثغور والقتال في وقت أحوج ما يكونون فيه إلى السيف.

أراد هلال أن يرفّه نفسه قليلاً فقرر شراء جارية له من سوق النخاسة والعبيد الذي كان معروفا في ذلك الوقت، تجول بين الخيام وقد عرض كل تاجر ما لديه.

هنا فتاة وهناك أخرى وأمام هذه الخيمة واحدة وأمام تلك عشرة، والسوق تعج بهن، كان من عرف المدينة أن يحتوي كل منزل على الأقل جارية.

تقوم على خدمة أهله مقابل أن تسكن معهم وتأكل وتشرب، لم يكن هلال متزوجاً بسبب عمله وكثرة ترحاله وقد تعدى في عمره الاربعين عاماً.

فاحتاج لمن يقوم بخدمته وطهي الطعام له فبدأ بالبحث عن جارية تعجبه، جال في السوق لأكثر من ساعة لكنه لم يجد ما كان يرنو إليه.

كل الجواري التي رأهن بدى عليهن التعب والجهد بسبب ما كن يعملن به، وهو يريد فتاة صغيرة تكون نشيطة وجميلة تحرص على سعادته وهنائه.

عاد إلى المنزل الذي كان قد استأجره وقد كانت الشمس بدأت بالغياب فجعل يتحضر لحفلة اليوم، منتظراً بفارغ الصبر أن تأتي هند إلى المدينة كي يراها مجدداً.

ارتدى أجمل ما لديه من الثياب وتعطر وجهز لها هدية ثمينة وخرج من الخيمة يتجول في المدينة ريثما يحين الموعد، أما هند فقد كانت في منزلها مستائة غاضبة تفكر في حيلة ما تخرج بها من المنزل.

تلفتت حولها، لم تجد ما يعينها أو يجعل لها سوى حجة واحدة، انهما الفتاتان! حدثتها نفسها قائلة "ليس لك من حجة لكي تخرجي من هنا سوى الفتيات.

خرجت من غرفتها وتوجهت إلى غرفتهن، كانتا تجلسان مع ماريا تحدثانها عن هذه البلدة.

دخلت هند إلى الغرفة وجلست على السرير، وبدأت في استلطاف بناتها والتحدث معهن عن جمال غرناطة وأسواقها.

وكانت ماريا تستمع بشغف إلى كلام تلك السيدة، لم تكن هند تلتفت لماريا وقد بدا عليها أنها لا تروق لها كثيراً.

ولسوء حظ ماريا كانت ألطف من أن تعرف مكانتها في نفوس الآخرين، وبعد كثير من الكلام استطاعت هند باقناع ابنتيها بالذهاب معها على أن تطلبان من والدهما الذهاب.

خرجت حور ونور من الغرفة وتوجهتا إلى والدهن وجلسن في حجره يطلبن منه السماح لهن بالذهاب للتنزه وقضاء بعض الوقت خارج البلدة.

وافق مأمون بذلك واشترط ان تكون ماريا معهما علّها تلتقي بأخيها عمر في أحياء المدينة.

عادت الفتاتان تحملان البشرى لوالدتهما مسرورتين وأبلغاها بردّ والدهما، فسرّت هند بذلك وتحفظت على ذهاب ماريا معهما لكنها وافقت في جميع الاحوال.

نهضت إلى غرفتها مسرعة وبدلت ثيابها مرتدية فستاناً أصفر اللون بأكمام طويلة وضيقة وعقد جميل من اللؤلؤ يزين لها رقبتها.

أما ماريا فسعدت بتلك الدعوة وبدلت ثيابها لترتدي أحد فساتين حور فهي ذات قامة ممشوقة يقارب طولها طول حور التي تكبرها بأربع سنوات.

وارتدت حذائاً من عند نور وتجهزت بأبهى حللها للخروج من المنزل، كانت الأختين قد انتهتا من تصفيف شعريهما أيضاً والحماس يملأهن.

نادت هند على الفتيات وخرجن جميعا من المنزل، شاهدت هند عربة تقف منتظرة عند ساحة القرية فذهبت إليها واستأجرتها للذهاب إلى غرناطة وصعدت الفتيات معها.

انطلقت العربة باقصى سرعتها تجرها الخيول كالسهم وماريا لا تصدق ما تراه فقد كانت تظن ان هذه العربات توجد فقط في القصص الخيالية.

استمرت في التحديق لكل تلك الحقول الشاسعة على جانبي الطريق والتلال تتلاحق واحدة تلو الأخرى.

كانت الشمس في آخر لحظات المغيب وبدأت تهبط خلف إحدى التلال الجميلة، كان المنظر رائعا جداً وجذاباً فشردت ماريا بالتحديق به، بينما كانت العربة تنطلق مسرعة نحو المدينة.

وصلت العربة إلى السور فأنزل لها الجسر ودخلت متوجهة نحو وسط المدينة، نزلت هناك هند ومعها الفتيات في وسط تلك الساحة الكبيرة.

وجهت هند كلامها للفتاة الأكبر سناً وقالت: حور! أنت هنا المسؤولة يجب ان لا تبتعدن كثيراً وأن تعدن إلى هذا المكان بعد ساعتين من الآن، مفهوم!

هزت حور برأسها موافقة وقالت: ولكن يا أمي، إلى اين أنت ذاهبة؟

إجابة هند ابنتها قائلة: لدي عمل مهم سأقضيه وأعود إليكن لا تقلقن، نلتقي هنا بعد ساعتين من الآن.

وافقت الفتيات على ذلك ومضين يتجولن في أحياء المدينة بينما ذهبت هند إلى صالة الحفلات مختفية عن انظار ابنتيها.

فهي تريد أن تحظى بليلة أخيرة مع صديقها هلال قبل أن تتعود الفتيات على القدوم معها ويفسدن عليها لقائها بهلال مستقبلاً.

كان هلال يجلس على ذات الطاولة يراقب الباب منتظراً وصول هند إلى المكان، أما هي فقد أسرعت إلى القاعة لتغنم كل دقيقة تمر.

وقفت الفتيات الثلاث في وسط الساحة حائرات فهن لم يأتين إلى غرناطة إلا قليلاً في بعض أيام الأعياد.

قررت حور ان تكون هي قائدة المجموعة وأن تبدأ بنزهة صغيرة للتجول في المدينة، أما ماريا فقد كانت متشوقة لرؤية هذا المكان الغريب.

والذي بدى مختلفا تماماً عن القرية تسكن فيها هند وعائلتها.

بدأت حور بالحديث وقالت متحمسةً: اعرف بعضاً من الاماكن الجميلة في المدينة ما رأيكن ان نزورها؟!
رحبت ماريا بالفكرة وقالت: أحب ان أرى كيف تبدو هذه المدينة من الداخل.

شاركتهم نور الحديث. بحماس وقالت: هيا بنا إذا، ولكن إلى أين سوف نذهب أولا!؟
وبكل فخر قالت حور: سنذهب أولاً إلى "قصر الحمراء"

ماريا بتعجب ودهشة: وما هو هذا القصر لم أسمع به من قبل؟!
ظهرت الابتسامة على وجه حور وقالت: تعاليا سأحكي لك ونحن في الطريق إلى هناك.

مضت الفتيات الثلاث بين تلك الازقة الجميلة متوجهات إلى المكان مذهولات بما يرينه من جمال بديع وعمارة للمباني أخّاذة الجمال.

كل شيء يبدو وكأنه صنع بحرفية عالية وجودة لا مثيل لها، كانت الشوارع عبارة عن لوحة معمارية لا تُضاهى.

يتبع ..
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي