24

رأيت بأم عيني طفلا قد قطعت يداه ورجلاه وآخر قد علق على أحد الأعمدة وقد اخرجوا أحشائه خارج بطنه تتدلى منه.

لم أقوى على مشاهدة تلك المناظر حاولت ان اشيح بنظري إلى أي مكان لكنني لم أستطع كانت الجثث تتناثر في كل مكان والاشلاء قد تطايرت، أين ما ذهبت بعيني أرى جثة لأحدهم.

أسرعت إلى منزلي وقلبي بدأ يخفق ويضرب يكاد يكسر اضلاعي، كل خطوة امشيها كانت كألف ميل، خارت قواي وبالكاد استطعت الوصول إلى المنزل.

كانت الكارثة قد وقعت وحل المصاب بعائلتي، ما إن فتحت الباب حتى سال من بين قدمي نهر الدم.

ارتجفت يداي واسقطت اخي من بين يداي عندما شاهدت ذلك المنظر المرعب، كانت امي جالسة وظهرها مسند على الحائط تنظر مباشرة نحو الباب.

عيناها مفتوحتين كأنما رأت شبحا ما لكنها كانت ميتة قتلوها واخرجوا جنينها من بطنها ووضعوه في حضنها!

كان ميتاً هو الآخر والدماء تجري من كل أنحاء جسميهما حتى تشكلت بركة اسفلهما عندما رأيك ذلك المشهد صرخت، صرخت صرخة سمعها كل من كان في القرية.

كاد شعري يشيب من هول ما رأيت لم استطع ان استوعب ما يجري، ظننت أنني في كابوس مرعب لكنني سمعت ما جعل قلبي يهبط من مكانه.

سمعت أنيناً مخيفا وصوت أحدهم وهو يتنفس في صعوبة، أحسست أن الصوت يأتي من الداخل، تقدمت بخطوات مرتجفة إلى الأمام وانا اتمنى ان لا يكون الأمر كما تخيلت.

وصلت إلى الغرفة تلك الغرفة التي كنت نائمة فيها قبل ان اهرب، وقفت أمام وبالكاد امسكت بالقبض، كانت يدي ترتجف وجسمي يرتعش بالكامل خشية ما يوقف قلبي خوفاً.

عاد صوت الأنين وعاد ذلك الشعور المخيف يتسلل إلى اعماقي، ضغطت على المقبض بكل حذر فانفتح الباب، دفعته وإذا به يبتعد مفسحا لي المجال كي أرى.

وليتني لم ارى، ليتني مت تلك الليلة ولم أشاهد ما حصل، كان أبي مستلقيا على سريره وقد تحول الفراش من اللون الابيض إلى الاحمر المخضب بدمائه.

كان هو الذي يأن ويشهق، بدا أنه في رمقه الاخير وقد طعنه احد اولئك المجرمين بخنجر في بطنه وظل ينزف من حينها وحتى الصباح.

ما إن رأيته حتى صرخت بأعلى صوتي وامسكت شعري اشده حتى اقتلعته وانا لا اشعر، جريت نحوه بكل خوفي ودموعي تنهال على خداي.

أمسكت يده الباردة تلك وأحسست ان ملك الموت ينازعني عليها، تشبثت بها وانا ابكي ولا اتفوه ألا بكلمة واحدة: أبي! أبي! أبي!

كان أبي لايزال حيا ولكنه مرتحل إلى الدار الاخرة، لم أشعر قبل الآن أن يد أبي باردة مثل ذلك الوقت ابدا، قبلتها وانا أبكي واصرخ طالبة النجدة.

بالكاد استطاع أبي الالتفات إلي لقد نظر إلي نظرة مؤلمة حزينة يسكنها الخوف والرعب، شاهدت في عينيه كمية الرعب التي رأتها عيناه عيناه في الليلة الماضية.

لم يستطع التفوه بشيء، شهق شهقة واحدة ثم ارتج ومات، مات أمامي بكل بساطة! وكأنه بقي حياً كل الليل يصارع الموت فقط ليراني بنظرة أخيرة!

لم استطع التحمل وانهارت قواي تماماً، رميت نفسي عليه وامسكت بثيابه وانا أبكي واصرخ وانتحب من شدة حزني عليه.

لم أكن الوحيدة التي حصل لها ذلك، كانت رائحة الموت في كل مكان تملئ الارجاء، بل كل من فر من القرية في تلك الليلة عاد في الصباح ووجد مثل ما وجدت أنا، كان لدي عائلة وفجأة بغمضة عين تحولت إلى يتيمة.

فقدتهم بغمضة عين وبقيت لوحدي في هذا العالم القاسي، في ذلك اليوم فقط فتحت عيني على الدنيا وأبصرت كل ما كان يحيط بي من بلايا وشر.

اختلطت في ذلك اليوم أنهار الدم بأنهار الدمع واكتسى العالم بأسره لتلك المذبحة ولم يعد شيئا كما كان قبل ذلك اليوم.

شاخت الفراشات ويبس الزيتون انحنت شجرات الصنوبر الشامخة، أظلمت الشمس واعتم القمر وجف ماء المطر.

كنت أشعر بأن كل شيء يبكي لم أعد أرى ألوانا أو بهجة وصمت اذاني عن الضحكات، وصرت أكره منزلي وقريتي وكأن الأشباح تطاردني في كل مكان هناك.

دفنا الجثث ومن بينهم أمي وأبي واخي الذي لم يبصر النور، اردينا عليهم التراب وتركناهم في المقابر وعدنا، ومن ذلك اليوم بدأت معاناتي وهمي.

كان يجب علي أن أهتم بنفسي و أخي الصغير، لم اجد من يعينني يستقبلنا واضطررت للعمل في الحقول أو خادمة في البيوت حتى نؤمن لنا لقمة نعيش منها.

وهكذا كان لقائي بهاشم.



حزنت قمر بعد أن سمعت قصة هناء المأساوية، ثم سألتها: وكيف سارت حياتك بعد تلك الحادثة المروعة؟!

كفكفت هناء دموعها وقالت: لم تسر أبدا لقد كانت تتعرقل وتتأزم وتتعثر أكثر فأكثر مع كل يوم يمر.

ثم أضافت قولها: واستمر الوضع بي هكذا عدة أيام أعيش في منزل عائلتي الكوابيس تلاحقني وروائح الدماء قد عشعشت في كل القرية، وأصبح حتى الهواء ملوث بتلك الروائح.

وفي أحد الايام أتى إلى القرية تاجر غني وثري يجر خلفه قافلته الكبيرة ومر من أمام القرية، كان يبدو عليه أنه غريب وليس من أهل تلك المنطقة.

فالجميع كان يعرف أن قريتنا لم يعد فيها من يسكنها إلى بعض الشبان والشابات ممن قدروا على الفرار في تلك الليلة.

وجل من استطاع الفرار لم يعد خوفاً من تكرار الأمر وعيش ذات الكارثة، اذكر ان التاجر كان يتجول على حصانه في شوارع القرية ومعه خادمه ينادي على الناس كي يأتوا ويشتروا منه.

وعندما يأس من بيع أي شيء جعل يسأل الموجودين عن حال القرية الغريب فحكوا له قصتها التي حدثت قبل عدة أيام.

لم يذهب على عكس ما توقعت بل قرر أن يقيم في القرية عدة ايام وكنا نظنه يستريح لا اكثر، وفي أحد الأيام كنت أسير في شارع القرية فسمعت احداً ينادي.

التفت إلى الخلف فرأيته ورائي كان ذلك التاجر هو هاشم، عرفني على إسمه وعمله وجعل يتحدث معي ويستسقى اخبار القرية.

أخبرته ان لا كبار في السن هنا فقد مات أغلبهم ومن بقي حياً لاذ بالفرار ولم يعد، لاحظ هاشم أنني كنت أحمل اخي بين يدي فجعل يلاطفه ويداعبه ويحاول أن يضحكه.

وأخرج من جيبه بعض قطع الحلوى ليعطيهم إياه، ظننته في البداية شخصا طيبا يوثق به وارتحت له من أول يوم رأيته فيه.

تظاهر بأنه لا مأوى له وأنه بائع متجول، فطلب مني أن يبيت في منزلي ذلك اليوم ريثما يستعد للرحيل، فوافقت و اصطحبته معي إلى منزلنا، بعد أن شعرت نحوه بالشفقة.

وبمجرد ان دخلنا بدأ يتجول في أنحاء المنزل ويتأمل كل زاوية فيه، في البداية ظننت أنه غريب وربما لم يشاهد مثل منزلنا من قبل.

مضى ذلك اليوم بهدوء ثم أتى الذي يليه، كان هاشم يغدق علينا من الطعام والشراب ويكرمنا بعد أن أصبحنا بلا معيل لنا انا وأخي.

وبدأت الايام تمضي يوما بعد يوم وهاشم مقيم عندنا لا يذهب إلى أي مكان، وفي الحقيقة بدأت انزعج من وجوده الغير مبرر، وأقامته الطويلة التي لم تنتهي.

فهو قليل حياء نوعاً ما ولطالما كنت الاحظ أنه يسترق النظر إلى وأنا امشط شعري او أغسل وجهي.

بدأت أشعر بالضجر منه وجعلت المح له وأحاول أن يصله انزعاجي منه، كي يذهب لكنه كان متبلدا وقليل فهم ايضاً ولربما كان يتصنع ذلك، وفي أحد الأيام خرج من المنزل لقضاء إحدى حاجاته فدخلت إلى الحمام.

وعندما انتهيت لففت نفسي بمنشفة كبيرة وخرجت وأنا ألف شعري وفجأة وجدته يقف امام باب الحمام كالصنم.

صدمت لرؤيته وشعرت بالخوف منه وتراجعت إلى الخلف لأجد باب الحمام قد انغلق خلفي، اقترب ناحيتي ونظراته تلك لا توحي بأن القادم خير ابداً.

شعرت بدقات قلبي تتسارع وكنت على وشك الصراخ، بدأت أنفاسي تتسارع والتوتر يعتريني، وبصعوبة بالغة قلت: هاشم! ما الذي تفعله أنت هنا!

ليرد هو بكل برودة ولئم: لقد كنت هنا طوال الوقت أنتظر خروجك، أريد أن أحدثك بأمر ما.

أمسكت بالمنشفة جيدا وقلت بصوت مرتجف: ما الذي تريده مني يا هاشم!؟

استمر بالاقتراب شيئا فشيئا وهو يقول: لا شيء لقد كنت أريد أن اخبرك بسر صغير.

اقترب وجهه من وجهي وانا بالكاد استطيع أن ابقي عيناي مفتوحتين حتى أحسست بأنفاسه على جسمي وهو يقول: تبدين جميلة اليوم.

كانت كلماته مقززة وصوته يشعرني بالغثيان ويجعلني بحاجة لكي اتقيئ، لحسن الحظ اتى أخي الصغير من غرفته وقد استيقظ من نومه للتو.

تراجع هاشم إلى الخلف بعد ما رأه وانتهى عن تلك التصرفات المثيرة للإشمئزاز عندما رأى الطفل وتظاهر أنه ذاهب نحو الداخل وابتعد عني أخيراً.

أسرعت انا وامسكت بيد اخي وذهبت إلى غرفتي أقفلت الباب وجلست على السرير أحاول ان اهدأ قليلا، وبصعوبة بالغة استطعت السيطرة على أعصابي بعد ذلك الموقف الذي تعرضت له، لقد شعرت بكثير من الغضب والخوف في آن معاً.

بدلت ملابسي وشددت ازاري جيداً استجمعت كل قوتي وتشجعت وانا أنوي طرده من المنزل نهائياً، أمسكت بيد اخي الصغير وبدأت ابحث عنه، كانت أنفاسي متقطعة وأشعر بأني منهكة بدون سبب.

وجدته في المطبخ يتناول الطعام، وقفت أمامه بكل قوتي ووجهي العابس وقلت غاضبة: قم وأخرج من منزلنا هيا!

كان فمه مليئ بالطعام فرفع رأسه إلى الأعلى نظر إلي مستهزئا ثم أكمل طعامه لا مباليا بي دون أن ينطق بكلمة واحدة، ضربت بيدي على الطاولة غاضبة وصرخت: أخرج من هنا في الحال، هل تسمعني!

ترك الطعام ونهض من على الكرسي ووقف مقابلاً لي بجسمه السمين وشكله البغيض، ابتلع ما كان قد جمع فمه وقال: ماذا قلت يا فتاة؟

أجبته قائلة بنبرة فيها من الغضب ما يكفي لفتح مدينة بكاملها: كما سمعت، لم يعد مرحباً بك في هذا المنزل بعد الآن.

قهقه ساخراً وقال: وهل تظنين ان بإمكانك طردي ايتها الصغيرة؟

أجبته وانا أتراجع إلى الخلف: هذا منزلي وأفعل فيه ما يحلو لي!

استمر بالاقتراب وقال: وانا أيضا أريد فعل ما يحلو لي.

رفع يده محاولا لمس وجهي فما كان مني إلا ان رفعت يدي وضربته ليبعدها وصرخت في وجهه القذز محذرة أياه قائلة: اياك أن تفكر حتى في فعل شيء مشابه اتفهم!

تبسم وهو يرجع يده عني وقال: إن كان الأمر كذلك فيحزنني أنك ستضطرين للنوم خارج المنزل هذه الليلة يا جميلة ومعك هذا الطفل المسكين ايضا.

صدمت لقوله ولم أصدق ما اسمعه لكنه لم يترك لي فرصة للتفكير حتى، أمسك بمعصمي وجرني إلى خارج المنزل رغماً عني.

فتح الباب وانا أصرخ وانادي والقى بي في الخارج ثم وقف بالباب وقال وهو يضحك، حينما تغيرين رأيك سادعك تعودين إلى منزلك.

هطلت الدموع من عيني هناء وهي تتذكر ما حل بها بعد معرفتها بذلك الرجل.

ثم قالت: لم ينتهي الأمر هنا أغلق الباب وتركني مرمية في الخارج كانت الشمس تميل للغروب قضيت ليلتي تلك في أحد اصطبلات الخيول احتضن اخي واخبئه في عبائتي طوال الليل.

كانت تلك الليلة هي أسوأ ثانية ليلة أعيشها وتمر علي في حياتي قضيت الليل كله افكر في طريقة اطرده بها من منزلي، لعلي أعود إلى سابق عهدي.

حاولت ايجاد اي طريقة تضمن سلامتي وتحفظ لي شرفي وعفتي على الاقل لم أكن أن انحرف في ذلك الطريق الذي ينوي أغراقي به، قررت الرحيل عن القرية وعدم المكوث فيها أكثر، في اليوم التالي.

انتظرت حتى الصباح وبمجرد ان بدأت الشمس تشرق تركت اخي في الاسطبل نائما وغطيته ببعض القش وخرجت متوجهة نحو المنزل.

وقفت أمام الباب اطرقه بكل قوة وعندما فتح لي الباب تجمدت في مكاني وفرت كل الكلمات التي كانت في فمي، لم أعلم ماذا علي ان اقول فبادرني هو بالسؤال وقال: هل استسلمتي!؟

عبست في وجهه وقلت: لا سأترك لك المنزل اريد ان اخذ اشيائي وارحل، افسح لي الطريق ودخلت وبمجرد ان دخلت سمعته يصفع الباب بكل قوة خلفي.

شعرت بالخوف وارتجف قلبي من صوت الباب لكنني لم التفت وأكملت مسيري نحو المطبخ: ملأت بعض أطباق الطعام وأخذت كيس النقود الذي تركه لي والداي كي انتفع به حتى أجد مكان أسكن فيه مع أخي.

وعندما هممت بالخروج وجدته يقف امامي كالثور الهائج قال بصوت يملئه النتن: لقد أصبحت لي الان ولا احد سوف يخلصك مني!

تراجعت للخلف أتحسس بيدي ما يكون خلفي أما هو فقد كان يتقدم نحوي بخطوات هادئة ويفك تلك العبائة التي يرتديها، وما إن اقترب حتى انخفضت بجسمي الصغير وهربت من أمامه

لكنني لم أفلح لسوء الحظ فأمسك شعري وشدني إلى الخلف وهو يطبق اضراسه ويقول: أيتها الساقطة اللعينة! سترين ما سوف أفعله بك.

شدني إليه وأمسك بذراعي حتى الصقني به، حاولت الهرب لكن قبضته كانت قوية واحكمت عليّ جيداً كانت أشعر وأنني قريبة من أقذر بشري على هذه الأرض، رأيت سكينا موضوعةً على الطاولة وبالكاد استطعت ان أمد يدي والتقطها.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي