18

فحرك "صاحب الدكان" كفيه بقلة حيلة: وما أدراني لقد تركت الدكان البارحة عند صلاة العشاء على أتم حال، وعندما أتيت اليوم وجدتها على هذه الحال!

هز "المأمور" رأسه بينما أغض عينيه ثم قال مهماً: اممم ابتعد لكي نرى عملنا إذا.

أشار "المأمور" بيده للجنود، فنزل مرافقوه من على الأحصنة ودخلوا معه إلى الدكان، فتشوا، بحثوا، عبثوا بما تبقى من المحتويات وخرجوا.

فقال "صاحب الدكان" ببعض الأمل: ها! بشر يا حضرة الشرطي!

حرك "المأمور" العصا التي بيده ليضعها أسفل ذراعه، ليقول مجعداً وجهه، مدعياً الحزن في صوته: ليس هناك أدلة تقودنا إلى الفاعل، سننصب له كمينا كي نمسك به.

شعر "صاحب الدكان" أن فؤاده سوف يتوقف، ليقول بصوت مختنق: هل هذا يعني_!

نظر له "المأمور" رافعاً حاجبه، مستعجباً ما تراه عيناه، ليصرخ في وجهه: لا يعني شيئاً، ما بك أيها الرجل يكاد يغمى عليك! اثبت مكانك ما بك! ثم هذه الدكان ليس لها سجل عندنا في الدواوين.

استغرب "صاحب الدكان" تلك الكلمات من المأمور، فرفع يديه متسائلاً، وجعد حاجبيه ليقول: سجل! وماذا يعني هذا أيضا!؟

رفع "المأمور" حاجبيه، ونظر للرجل بحدة ونكزه بالعصا في كتفه: يعني انك لا تدفع الضرائب المستحقة عليك أيها الرجل.

فأجابه "صاحب الدكان" بفزع: لا يا سيدي، اقسم لك أنني ادفعها كل شهر بانتظام، اقسم.

همهم "المأمور" وهو يسير إلى حصانه، ولف يداه خلف ظهره متبختراً ثم صعد على ظهر حصانه الذي يكاد تنقصف رجلاه أسفل منه.

التفت "المأمور" إلى "صاحب الدكان" وقال بشك رافعاً حاجبه الأيمن ليبدو أنه يتحدى ذلك الرجل البسيط: سنرى إن كنت تدفع أم تتهرب، ودع أمر اللص لنا سنمسكه في المرة المقبلة.

لطم "المأمور" حصانه على فخذه بحزامه الجلدي لينطلق به، مبتعدا به بين صفوف الناس، أما صاحب الدكان فقد عاد للطم والنواح والعويل، وحوله الناس قد بدئوا بالتفرق كل منهم يذهب إلى عمله.

أما "صاحب الدكان" فحاله كحال باقي الناس، يرددون ذات العبارة قائلين "لن يفعل شيئاً؛ هذا ما يقوله في كل مرة تسرق فيها دكان جديدة، لا فائدة من تضييع الوقت بانتظاره".


توجه "عمر" إلى حيث يقف صديقه زيد وقال همسا: يبدو أن هذا الرجل مسكين يا زيد ؛ انظر إليه يكاد يموت قهراً!

هز "زيد" رأسه مبتسماً بسخرية وقال بهدوء: انه كذاب يتظاهر بذلك أمام الناس فقط ليستجلب عطفهم انتظر وسترى.

وبالفعل عاد جيرانه، وقد حمل كل واحد منهم ما يملك من الفائض عن حاجته، وبدئوا بإعانة الرجل التي سرقت دكانه، ليجمعوا له مبلغا يستطيع إعادة فتح محله مجدداً.

كانت تلك عادة توارثها أهل "الأندلس" حيث يتكاتف التجار مع بعضهم في حال حدوث حريق أو سرقة أو مصيبة ما، كما يسمونه "التكافل التجاري".

جلس ذلك الرجل أمام دكانه يجمع المال، ومضى "زيد" ومعه "عمر" متوجهين إلى حيث تسكن تلك العائلات المشردة والفقيرة.

دخل إلى الحي وبدأ يتجول به لكي يري "عمر" ما لم يشاهده في الليلة الماضية، كان الأطفال يلعبون خارج البيوت وقد ظهر على الجميع علامات الجوع وقلة التغذية.

أما تلك الخيام المتهرئة فلم تكن تقي ساكنيها حر صيف، ولا زمهرير شتاء، وتحت أسقفها المصنوعة من القماش، يجلس العجزة والكبار في السن.

والميسور الحال فيهم قد بنى لنفسه غرفة من الطين يعيش فيها تكون بيته ودنياه وقبره، اضطرت هذه العائلات إلى السكن في هذه الأوضاع المزرية بسبب طمع التجار.

فقد استخلصوا منهم بيوتهم بالقوة وعن طريق الخداع، وتركوهم ليرتموا في العراء، وما كان من شاب شهم كـ"زيد" إلا أن يبذل قصارى جهده في مساعدتهم.

فعلم منهم التجار الذين سرقوهم وصار يأخذ منهم ليعطي للفقراء حقهم، وقد اشتهر وذاع سيطه بين الفقراء بعد مساعدته لهم.

أنهى زيد و عمر جولتهم بين كل تلك الخيام وخرجا من المكان بعد أن شرح "زيد الفكرة كاملة لـ عمر" وأصبح لديه فهم كامل للموضوع.

بعد ذلك خرج "زيد يتجول في الأسواق باحثا عن من سيكون فريسته القادمة، أما "عمر" فقد كان شديد الانبهار بتلك الحضارة، لم يكن يصدق انه عاد إلى الماضي حتى.

خيول وعربات والأحياء الضيقة وعمران حجري، والنسوة يمشين على أطراف الطريق لا يحاذين أحدا ولا احد يضايقهن، عكس ما كان يجري في زمان "عمر" الأول.

لفت نظر "زيد" احد الوراقين، كان يعمل في مجال صناعة الكتب وخازنا وأميناً على وثائق أهل المدينة، انه أيضا من أولائك الذين فتحوا متاجرهم على أنقاض بيوت الفقراء.

تأمل الدكان لبعض الوقت، وخطرت له فكرة جيدة تكون بمثابة فرج للمستضعفين.

نظر إلى "عمر" وناداه قائلا: "عمر"! ما الذي تفعله عندك؟

هز "عمر" أكتافه وقال بلامباله: أنا فقط أراقب الناس.
فأشار له زيد بابتسامة وقال: تعال سيعلمون انك غريب هكذا، ما رأيك أن اصطحبك في جولة حول المدينة؟

فقال "عمر" بصوت حماسي: من دواعي سروري، ولكن أنت حتى اللحظة لم تخبرني باسم هذه المدينة؟
نظر "زيد حوله بعيون لمعت فيها السعادة: أنها تدعى "قرطبة".

فكر "عمر" ثم أردف: يبدو اسما غريبا، أنه ينم عن الجمال، ألست محقاً؟
فربت "زيد على ظهره وهو يجيبه: إنها كذلك بالفعل، تعال معي.

سار "عمر" و"زيد" يتجولان في شوارع من المدينة، من حي إلى حي، و"عمر" يشاهد كل تلك المناظر الجميلة متجولين بين القصور والحدائق والأسواق العامرة.

كانت قد اشتهرت في "قرطبة" في ذلك الوقت الكتابة والأوراق وما إلى ذلك، وقد لفت نظر "عمر" ذلك جداً وأحب أن يشاهد عن كثب.

فاستجاب "زيد " لطلبه وقام بأخذه إلى حي الوراقين، هناك حيث يعمل احد أصدقاء "زيد" وراقاً، يصنع الورق ويصمم الكتب.

وقف "عمرر" مذهولا وهو يشاهد تلك العمليات المجهدة، والتي تمر بها الورقة مرحلة تلو الأخرى حتى تصبح على الشكل اعتاد "عمر" رؤيتها فيه.

استمرت جولتهم في المدينة عدة ساعات عادا الشابان إلى منزلهما مع غياب الشمس، حيث قرر "زيد الذهاب لنيل قسط من الراحة قبل أن يحين أوان العمل.

كان "عمر" سعيداً بذلك الكتاب الذي أهداه إياه صديق "زيد"، فأخذه وجلس يتصفحه ويقرأ فيه، وكان كتابًا في التاريخ يحكي عن تاريخ بدأ أول معركة على تلك الأرض، ويستمر في التسلسل حتى عام كامل.

مضى الوقت سريعا وحل الظلام فنهض "زيد من مكانه ليقوم يعمل الليلة، حمل ما لديه من طعام على ظهره وتوجه إلى باب المنزل.

استوقفه صوت "عمر" مناديا: "إلى أين أنت ذاهب؟"

التفت زيد وقال: عندي عمل هذه الليلة.
فعدل "عمر" عمامته وهو يقول: انتظر سوف اذهب معك.
هنا فزع زيد وقال له: الأمر ليس بتلك السهولة، ربما ينكشف أمرنا حينها سيكون وضعك سيئا.

ركض "عمر في مكانه وهو يقول: لا تقلق لن تكون أسرع مني، وأكثر خفة، انتظرني لأبدل ثيابي وسآتي معك.

وقف "زيد عند الباب منتظراً بينما عاد "عمر" ليبدل ثيابه، ولم يطل انتظاره كثيراً حتى عاد وقد تجهز.

حمل "عمر" كيسا من الطعام، وخرج برفقة "زيد" إلى العائلات الفقيرة، وفي طريقهم إلى العودة توقف "زيد" أمام تلك الدكان وجعل يتأملها.

فسأله "عمر" بفضول: ماذا هناك؟ إلى ماذا تنظر؟!
حك "زيد ذقنه بأنامل يده اليمنى وقال بصوت خافت: هذه الدكان تحوي أموالاً لكل التجار ووثائق مهمة، يجب أن ادخلها.

فجعد "عمر" وجهه مستغرباً وقال: ولكن لا طعام فيها! فلما تريد دخولها؟
رفع "زيد نظره للسماء كأنه يستلهم شيئاً أو نحو ذلك، وقال بصوت عميق: فيها ما هو أهم من الطعام، وأكثر قيمة منه، هيا اتبعني.

نهض "زيد" متسللا وخلفه "عمر"، وبدأ في محاولة فتح القفل، تعسر الأمر قليلاً لكن القفل فتح في النهاية، دخل "زيد" كالوحش الشره.

تأمل كل تلك الأدراج والرفوف وبدأ يملئ كيسه بما يجده أمامه من غنائم، أما "عمر" فقد كان خائفا وجعل يملأ كيسه بكل رث وسمين، كتاب من هنا وأوراق من هناك وأموال من هنا.

انتهى الشابان بسرعة وخرجا من الدكان مسرعين، توجها إلى المنزل بأقصى سرعة قبل أن يلاحظهما الناس.

في المنزل وبعد أن دخلا، اسند "عمر" ظهره إلى الباب وجعل يلهث خلفمن التعب، كأن أنفاسه ستنقطع، التفت إليه "زيد" ونكزه ممازحاً وقال: وما بك أنت تحمل كيسا فارغا على أي حال.

ففتح "عمر" عيناه على مصرعيهما وقال ببعض الانفعال: فارغ! إنه مليء بالوثائق والدفاتر التي لا ادري ماذا تريد منها حتى!

ابتسم "زيد وقال بثقة: سأخبرك ماذا أريد منها، كل ما بين يديك هي ديونهم بعضهم لبعض وبالتالي هي أموال الفقراء يتلاعبون فيها، ونريد أن نبحث عن أي دين للفقراء فنقوم بمحوه عنهم، وبذلك نريحهم عناء دفعها.

هز "عمر" رأسه متفهماً وقال: شيء جميل، إذا هيا تعال وابدأ القراءة، على الرغم من أنني عربي إلا أنني بالكاد افهم ماذا يكتب فيها، لا ادري أي خط تستعملون!

قهقه "زيد" وقال: لم تحذر هذه المرة، أنا أمي ولا اعرف القراءة ستقرأ أنت وأمحو أنا.

ضحك عمر" على حديث صديقه، فلم يخطر على باله هذا الأمر، وقال: حسنا لا بأس ائتنا بكوب من الشاي أو أي شيء تشربونه على الأقل لنبقى مستيقظين.

أماء "زيد" بإيجاب: سأحضر لك كأساً شراب الورد لم تذق مثله في حياتك.

حمل "عمر" تلك الأوراق والكتب وجعل يدقق فيها واحدة تلو الأخرى، وكان كثير منها يحوي نقودا و أمانات مضافةً إليها.

و"زيد يجلس بجانبه يعيد ترتيبها لكي يعيد ما لا نفع له منه إلى تلك الدكان، استمر "عمر" ساعة أو أكثر إلى أن لفت نظره تلك اللفافة المربوطة بخيط احمر اللون.

نظر إلى "زيد" وقد جعد حاجبيه وقال: ما هذه اللفافة تبدو غريبة الشكل!
فهز "زيد" رأسه وقال: أنها بردية، ويوجد منها القليل.

فسأله عمر" والفضول يلمع في عينيه: هل افتحها؟
حرك "زيد" يديه في الهواء وقال: هي لا علاقة لها بالديون، ولكن دعنا نرى ما بداخلها لا بأس.

فتح "عمر" الاسطوانة واخرج منها الورقة التي بداخلها، كانت من أعجب ما رأى "عمر" حتى ذلك اليوم، لم تكن ورقة بل قطعة من الجلد المصبوغ والمرقق كتب عليه بماء من الذهب.

شعر بالذهول لذلك المنظر والتفت إلى "زيد" فاتحاً فمه وقال: أرأيت! أنها حقاً مدهشة!

فقال له "زيد" ببعض الشك: أقرأ لنا ما كتب فيها هيا.

وضع "زيد الورقة بجانب الشمعة وامسك بأطرفها التي كانت تعود وتنثني من تلقاء نفسها وقرأ:

بسمك اللهم، من "لودريق" حاكم "قرطبة" الموقر إلى "موسى بن نصير" قائد المسلمين: أما بعد فإننا ننزل على العهد الذي وضعته لنا ونستسلم على أن تفي بوعودك لنا.

فتحفظ لنا أموالنا وبيعنا وممتلكاتنا، ونحن بدورنا نسلم لك كل السلاح الذي في حوزتنا، ولكم منا السلم والعهد ما حافظتم انتم على ذلك والسلام.


انهي "عمر" القراءة والتفت إلى "زيد وقال: أتعلم ما قصة هذه البردية!

أبدى زيد تعبير جدي على وجهه وهو يقول: اجل إنها رسالة تنازل واستسلام أيام فتح "قرطبة"، ولكن "لودريق" خان العهد ونكث بعدها، فدارت معركة كانت هي مهلكته ولقي فيها مصرعه.

فسأل "عمر": هل نعيدها للرجل؟
هنا فكر "زيد" قليلاً ثم أجابه: لا سنحتفظ بها، انه رجل جشع وسيبيعها أو ربما يذيب الذهب الذي كتبت به، أكمل البحث والقراءة يا "عمر" هيا.

استمر "عمر" في البحث بين كل تلك الأوراق عندما يفيد حتى كاد يبزغ الفجر، انتهى حينها من عمله وشعر بالنعاس الشديد، فقام بإعادة بعض الأوراق إلى الكيس كي يقوم "زيد" بإرجاعها لدكان التاجر في الغد.

وبينما هو كذلك إذ لمح كتاباً غريباً، امسك به يتفحصه وشعر بأنه قد رأى ذات الكتاب من قبل، فتحه فوجده فارغاً لم يوضع فيه أي ورقة بعد.

وفجأة تذكر أمراً صعقه "انه ذات الكتاب الذي كان يعبث به هو وماريا

رمى الكتاب من يده مذعوراً فانتبه له "زيد"، نظر إليه مستغربا وقال: "عمر"! ما الذي حدث لك؟ لماذا أنت مرعوب هكذا!

فقال "عمر" بفزع: هذا الكتاب.
أقترب منه "زيد" وقال بقلق: ما به الكتاب؟ تكلم يا فتى.
فأشار عمر" بأصبع مرتجف للكتاب وقال بخوف: انه ذاته الذي أحضرني إلى هذا الزمان!

انحنى "زيد وامسك بكتب من على الأرض ينظر إليه.

أعاد النظر إلى "عمر" وقال متسائلاً: هل أنت واثق!؟
ليومئ "عمر" بإيجاب: أنا متأكد، انه هو ذاته!
فجعد زيد حاجبيه وقال مستغرباً: ولكن الكتاب فارغ تماماً.

فصرخ به "عمر": لا تفتحه ربما تحدث مصيبة ما!

تجاهله زيد وقام بفتح الكتاب، ليرى ما فيه متجاهلا تحذير "عمر" وبالفعل كان فارغاً كأن الصفحات التي كانت فيه قد تم انتزاعها منه.

يتبع
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي