23

في صباح اليوم التالي استيقظت العائلة منذ الصباح الباكر، قمر تجهز نفسها للذهاب إلى العمل والفتيات بدأن بأعمال التنظيف والترتيب.

أما هند فقد كانت تراقب ماريا وهي تعمل وتتخيلها خادمة في منزلها هذا، كل صديقاتها حصلن على خدم يعملون بدلاً عنهن إلا هي.

لا تزال تعمل في منزلها حالها حال الباقي على حد تعبيرها، أخذت قطعة القماش التي أهداها هلال إياها، ثم خرجت بها من المنزل متجهة إلى صديقتها التي تعمل في تصميم الفساتين والثياب وخياطتها

طلبت أن تصمم لها منها فستان سهرة لائق من أجل الليلة، ثم عادت أدراجها إلى المنزل، صادفت في طريق عودتها ابنتها قمر، كانت متجهة إلى حقل خالد كي تساعد هناء في العمل هناك.

دخلت هند إلى المنزل وهي تتمتم وتتأفف من تصرفات ابنتها المتهورة على حد زعمها وكما تراها هي، قمر هي البنت البكر لمأمون وهي مدللة أبيها، والجميع يعلم أنه لا يرفض لها طلبا ما استطاع.

وكان يكفي أن تطلب من والدها السماح بذهاب العائلة إلى غرناطة حيث تقام تلك الحفلات، دخلت هند إلى غرفتها وجلست بالقرب من زوجها، تدور في رأسها خطة جديدة لإقناع مأمون

وضعت يدها على فخذه وقالت بصوت حزين: مأمون ايهون عليك جعلي حزينة هكذا!؟

التفت مأمون إليها ونظر إلى يدها مستغربا فليس من عادتها التكلم بهذا الهدوء وبنبرة الحب تلك، وقال: ما الذي تريدينه يا هند؟

استجمعت هند نشاطها وقالت على عجل: أريد أن تسمح لي بالذهاب إلى الحفلات، كل نساء القرية يفعلن ذلك يا مأمون.

سأل مأمون زوجته : وهل نحن مجبرون على الذهاب؟

عادت هند إلى هدوئها وبذات النبرة المفعمة بالحنان وقالت: لا لسنا مجبرين على ذلك ولكننا نضيع الكثير علينا بعدم ذهابنا إلى هناك!

رد مأمون عليها بنبرة ساخرة: لا أظن ذلك، ما الذي سيفوتنا مثلا؟ ملك غرناطة! أم أننا سنعيد ما ذهب من البلاد؟!

كانت هند ممتعضة من كلامه الذي لم يعجبها وكله سخرية منها فقالت: لا تستهزئ بكلامي يا مأمون أنت تعلم أنه ما من شخص أحرص مني على مستقبل الفتيات.

عدل مأمون جلسته بعد ما سمع من كلامها: وكيف ستؤمنين لهم مستقبلهم؟ بعرض بناتك على الامراء؟ أم على تجار العبيد؟!

حاولت هند شرح الأمر كما تراه هي قائلة: انت لا تفهمني يا مأمون، لم يعد أحد يتزوج بالطريقة التي تفكر فيها، بات علية القوم يختارون زوجاتهم من مثل تلك الحفلات.

غضب مأمون من زوجته وبما تفكر، قال لها : إنك والله امرأة ضالة حائرة، ألم تعي بعد أن أولئك لا يبحثون عن زوجات وإنما عن عبيد وجواري!

أكمل مأمون كلامه: الم تعي أنه لا مكان لنا نحن المزارعون في مكان يتواجد فيه طبقة الحمقى تلك! أم أنك تظنين أن المال يصنع كل ما تشتهي من الفرح والسعادة!

كان واضحاً بأن هند تتحدى زوجها في ذلك فسألته: افهم أنك لست موافقاً على ما أريده منك؟

أشاح مأمون بنظره عنها وقال: لا لست كذلك ولن أوافق حتى لو بقيت بناتي في منزلي حتى آخر الدهر، هذا كلام نهائي ولا رجعة عنه.

هند بنبرة فيها شيء من التحدي: لن تستطيع منع قدر الفتيات بتعنتك هذا لا أحد يوافقك على أفكارك المتحجرة والمليئة بالتخلف تلك وستندم في المستقبل حين لا ينفعك الندم.

كان مأمون غير أبه بما قالته، فرد عليها: اندم! على ماذا سأندم؟ لأنني حافظت على عفة بناتي ولم أقم بيعهم كما تباع الجواري!، دعيني وشأني فقد أفسدت علي ليلي ونهاري بكلامك المتكرر عن هذا الامر.

لم تستسلم هند لإرادة زوجها وبقيت مصرةً على الذهاب وتنفيذ ما في رأسها رغما عنه، خرجت من الغرفة وتوجهت إلى غرفة الفتيات.

وجدت هناك ابنتها الصغرى نور إنها ابنة أمها والموافقة لها في معظم اختياراتها وقد علقت عليها جل امالها، فهي الأجمل من بين الاخوات الثالثة.

والاكثر فتنة وجرأة ودهاء، وإضافة لكل ذلك فهي الأصغر سناً تماما كما يحب التجار والملوك أن تكون أعمار زوجاتهم.

جلست على السرير وغيرت ذلك الوجه الغاضب المملوء مكراً إلى وجهها الاخر البريء الحاني.

طبطبت بيدها على الفراش وقالت بصوتها الرقيق: نور تعالي إلى هنا يا ابنتي.

التفتت نور إلى والدتها وتركت من يدها الممسحة وأتت تلبي دعوتها أمها ثم جلست بقربها وقالت: نعم يا امي؟

بدأت هند محاولتها أن تثير شفقة ابنتها عليها فقالت: نور حبيبتي، ليس في هذا المنزل أحد يفهمني كما تفهمينني يا ابنتي.

توجست نور من كلام والدتها الناعم، فهي تعلم أشد اليقين أنها لا تتكلم هكذا إلا لمصلحة، سكتت هنيهة ثم قالت: أنت تأمرينني يا أمي أفعل كل ما استطيع من أجلك.

كانت هند تتحدث بصوت منخفض أقرب للهمس: اسمعيني يا ابنتي، أنا أبحث لكن عن مستقبل واعد، ولا اريد لكن أن تتعذبن كما تعذبت انا، ولكن هذا يعتمد على مساعدتكم لي، لأن والدك لا يزال متشبثا بتلك الأفكار القديمة والغير نافعة.

سألت نور والدتها: اتقصدين أمر الزواج والخروج إلى المدينة؟

أكدت هند لبنتها ما فهمت بقولها لها: تماماً، لا يزال غير مقتنع بالفكرة، اما أنا فأرى أنه من الظلم ان لا نبحث لك عن زوج يليق بك، يجب أن يكون من أغنى وأثرى رجال غرناطة كلها.

قالت نور متسائلة: وأبي ماذا سنفعل بشأنه؟!

أجابتها بنبرة التأكد والاطمئنان قالت هند: أبوك سوف يوافق عندما يراكِ سعيدة مع زوجك ولن تعنيه الطريقة التي تزوجت بها.

وضعت نور يدها غلى خدها تسأل أمها: وكيف سنعثر على مثل هذا الزوج لي؟ أنا لا أزال صغيرة على كل حال.

أمسكت هند يد ابنتها وقالت لها: لم تعودي صغيرة إن فعلت ما أقوله لك، وأول شيء هو الذهاب معي لسهرات الكبار، ويجب عليك في بداية الأمر شيء مهم هو أن تقنعي والدك كي يسمح لك بذلك.

بنبرة مترددة سألت نور: وإن ابى ذلك؟!

ظهر المكر في نبرة صوت هند وهي تقول: ليس مأمون الذي يرفض طلبا لابنته الصغرى، كل ما عليك هو أن تستعملي أسلوباً مقنعاً.

همهمت نور وهي تحدق بعيداً بحثا عن طريقة تقنع بها والدها، كانت في داخلها مؤمنة بفكرة والدتها إلا أنها تخفي ذلك خوفاً من غضب والدها أن علم بالأمر.

أما هند فقد نجحت في زرع بذرة المكر والدهاء لدى ابنتها الصغرى وحان وقت التجهيز لتجد طريقة تهرب بها من المنزل هذه الليلة.

أنه يوم الخميس وغداً الجمعة وهذا يعني أن مأمون سيكون متفرعاً اليوم فهي عطلته ولن يذهب إلى العمل، وعلى الأغلب سوف يقضيها نائماً كما اعتاد أن يفعل في كل عطلة.

تنفست هند الصعداء بعد أن وجدت طريقة تهرب فيها من المنزل هذه الليلة، ولكن يجب عليها فقط انتظار حلول الليل كي تفعل ما تريده.


أما قمر فقد كانت مشغولة في العمل بالحقل وسماع قصص هناء عن حياة الخدم والجواري والعذاب الذي يتعرضون له.

كانت هذه المخاوف هي إحدى الأسباب التي تجعلها ترفض أن تطيع والدتها في هذا الأمر تحديداً، من يعلم كيف ستكون طريقة معاملة زوجها إن كان أميراً أو وزيراً!؟

أما هناء فقد كانت يائسة لدرجة أنها قبلت أن تعمل عاماً كاملاً في مقابل ان تصبح حرة من جديد، وكلما كانت هناء تلفظ ذلك الإسم تعود لقمر تلك الذكرى المؤلمة.

حاولت قمر تحويل مجرى الكلام قليلا فطلبت من هناء أن تحدثها عن حياتها لدى المدعو "هاشم"

وافقت هناء على الأمر وذهبت لتستريح قليلاً في ظل إحدى اشجار الجوز الكبيرة، جلست الفتاتان تتحدثان بينما كانت قمر تعصر بعض حبات البرتقال لصنع العصير الطازج لعله يروي بعض ظمأهم.


كانت هناء ممسكة عود خشبي ترسم به على التراب وتسأل: أخبريني ماذا تريدين أن تعرفي عن هاشم بالضبط؟

كانت قمر منهمكة في العصر وقالت: كل شيء، أخبريني عن الطريقة التي وصلت بها إلى يده مثلاً وكيف يعاملك الآن؟

وافقت هناء على طلب قمر فقالت: لك ما تريدين، بدأ الأمر عندما كنا نسكن في إحدى القرى النائية على حدود الافرنج، وأذكر أننا في إحدى الليالي كنا نائمين في منزلنا بأمان وسلام.

وفي وسط الليل استيقظ الناس على صراخ أحد الرجال وهو يصرخ وينادي: دخل الإفرنج! اهربوا اهربوا!

كان الأعداء قد تسللوا من إحدى الثغور ودخلوا لعدة قرى ومن بينها قريتنا، فزع الأهالي وذعر الناس، بدأت العائلات تفر من القرى باتجاه عمق الاراضي وكان جنود الأعداء يحتلون القرى واحدة تلوى الاخرى بسرعة غير مسبوقة دون مقاومة.

كان من بين الناس كبار سن ومرضى ونساء حوامل وغيرهن الكثير ممن لا يستطيع الركض أو السير في تلك الطرق الوعرة، وقع كثير من الناس أسرى في أيديهم.

كان هذا الأمر هو أسوأ ما يمكن أن يحصل لأي احد، الأسر في أيديهم يعني الهلاك البطيء والوحشي وهناك كثير من الطرق للموت بعد الوقع بين أيدهم

ثم أكملت هناء كلامها: ذاع صيتهم وانتشر بين الناس كيف يعذبون اسراهم وينكلون غير ابهين بطفل ولا شيخ ولا امرأة، لا فرق عندهم بين محارب أو مسالم بل لا فرق بين الآدمي والحيوان.

عاد كل شيء لذاكرة هناء فقالت: كانت امي حاملاً في شهرها التاسع حينها وأبي رجل مريض بالكاد يستطيع المشي، لم يتمكنا من الهرب وفات أوان خروجهما من المنزل.

أما انا ففعلت ما أرادت امي، حمات اخي الصغير البالغ من العمر خمس سنوات وركضت به بأسرع ما يمكن.

خرجت من القرية وهربت باتجاه الغابة، كان الصراخ يأتي من كل مكان والليل شديد العتمة لا ضوء في الأرجاء سوى الحرائق التي أشعلوها في القرى والاكواخ.

لم أدري حينها ماذا أفعل اختبأت في إحدى قناطر المياه وانا أحمل أخي بين يدي أشاهد ما الذي يجري، لم يكن بمقدوري فعل شيء حتى لمساعدة نفسي.

كان الأمر مرعباً وصراخ النساء يملأ الأجواء كأنها مجموعة من الوحوش دخلت على القرية، دام وجود أولئك الجنود في القرى حتى طلع الصباح.

وعندما بدأ ضوء الفجر يشرق أقبلت خيول كثيرة وفرسان قادمون من خلف التلة وانقضوا كلهم على قريتنا.

دارت معركة حامية الوطيس دامت لعدة ساعات انسحب جنود الافرنج من القرية وفروا تاركين خلفهم القرية تسبح بالدماء.

ما إن علا صوت صراخ الجنود وصدحت بالتهليل علمت أن القرية أصبحت امنة، نهضت من تلك القنطرة بعد أن أمضيت الليل بطوله وانا مختبئة أسفل الجسر والماء قد وصل حتى ركبتي.

تنهدت هناء وهي تتحدث وتخبر قمر بما جرى، إلا أنها اكملت قولها: كنت ارتجف من البرد وأخي لا يكاد يسكت طيلة الوقت يبكي ويصرخ، لكن كل ذلك لم يمنعني من الذهاب للقرية كي اطمئن على والداي.

عدت إليها وليتني لم اعد، ليتني مت ولم أتمكن من الخروج من منزلنا تلك الليلة، كانت جثث جنود الافرنج تملأ القرية وشوارعها وبرك الدماء تثير القشعريرة عند مدخل المدينة.

لم يكن هذا بشيء يذكر مقابل ما رأيته عند دخلت إلى ما بين البيوت، كانت الجثث مكدسة فوق بعضها أمام كل منزل، وكأن العائلة بأكملها ماتت ولم يتبقى منها أحد.

بدأت أشعر بالذعر والخوف كلما كنت أرى جثة ما يشتد الرعب ولا تعود قدماي قادرتان على أن تحملاني، كان المنظر يثير الرعب في قلبي.

أكملت المشي متجهة إلى منزلنا، لم أكن استطيع المشي على الأرض حتى، كانت القرية كلها تسبح بنهر من الدماء وأشلاء القتلى تتناثر في كل اتجاه.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي