19

أشرقت الشمس وتدلت خيوطها الذهبية وحل الصباح في المدينة وعاد الناس ليخرجوا من بيوتهم كل منهم ذاهب إلى عمله، وها هي المدينة تستفيق على وقع سرقة جديدة.

تجمهر الناس حول دكان الامانات كل منهم يلطم ويضرب على رأسه، ذاك فقد مالا وذاك فقد دينا وآخر فقد مجوهرات.

فقد كانت الدكان المسروقة عبارة عن مستودع يحفظ فيه التجار بعضاً من ممتلكاتهم بعيدا عن اللصوص أو قطاع الطرق.

أما زيد وصديقه عمر فقد كان يحملان ذلك الكتاب ومعه تلك البردية الغريبة وتوجها إلى حي الوراقين حيث يقطن يعمل "يوسف" وهو أحد أصدقاء زيد ومن المقربين له ويثق به كثيراً.

ويعلم بخفي أسرار زيد منذ أن كان طفلاً ويلعب في الازقة، فقد تربى عنده وعمل معه عدة سنوات في حانوته وتعلم شيئاً من فنون النقش والكتابة.

وصل زيد إلى الحي وبدأ يسير متخطيا كل ذلك الزحام الشديد في السوق محاولاً الوصول إلى حانوت العم يوسف.

كان عمر يتبعه بصعوبة بين كل تلك الحشود من الناس بالكاد يستطيع السير وهو يضم الكتاب بيديه بعد أن أخفاه أسفل ثيابه كي لا يراه أحد.

وصل زيد إلى وجهته ووقف أمام الحانوت منتظراً وصول عمر، ثم رفع يده يدق على الباب الخشبي برفق ودخل يتبع عمر.

تلفت زيد في أرجاء الحانوت فوجد يوسف جالساً على سجادة صلاته يصلي صلاة الضحى، فجلس ينتظره لبضع دقائق ريثما ينتهي.

وكان عمر يقف متأملاً كل تلك الأوراق والجلود وحتى الأحجار المعلقة على الجدران والحبال، اذ أحس أنه في متحف أثري جميل أو ربما عاد به الزمن إلى ورشة والده.

سلم يوسف من صلاته والتفت إلى ناحية اليسار ليرى شابا واقفا أمامه متكتف الذراعين على صدره، لم يميز ملامحه جيدا فأمسك بنظارته ووضعها على عينيه مدققا النظر مجدداً لعله يستطيع تميزه.

ظهرت علامات الدهشة على وجهه عندما رأى من يقف أمامه وقال متعجباً "زيد!" تحولت الدهشة إلى ابتسامة عريضة وكان الفرح واضحاً على محياه تجعل من وجهه النوراني أكثر جمالاً عندما سمع الشاب يجيبه: أجل زيد أنه أنا.

اقترب زيد من يوسف بعض أن نهض من على السجادة وصافحه ثم أمسك بيده ليقبلها ويضعها على رأسه، أما عمر فقد ظل في مكانه يراقب وحسب، لا يدري ماذا يفعل فهو لا يعرف يوسف أبداً.

شعر يوسف بالسعادة الغامرة عندما رأى زيد فقد مضى وقت طويل على آخر زيارة قام بها إلى الحانوت لم يره من بعدها ابداً.

رحب يوسف به وسأله: أهلا بزيد ! اهلا بني، كيف حالك أين كنت كل هذه الفترة!

ابتسم زيد بعد ما رأى تلك السعادة في وجه يوسف عند لقاءه وكأنه أباً له، ثم قال له: حياك الله يا عم، الحمد لله أنا بأتم حال ولكن أخبرني عنك كيف حالك وماذا تصنع بك الايام!

يوسف: الحمد لله كل شيء على ما يرام يا بني كل شي على ما يرام.

نظر يوسف إلى ما خلف زيد ليرى شابا آخر في مقتبل العمر يقف عند الباب، عاد لينظر إلى زيد وقال: أرى أنك أحضرت ضيفا معك هذه المرة، لم أعرفه من يكون.

نظر زيد إلى عمر الذي مازال يقف جانباً ثم عاد والتفت إلى يوسف ثم قال: هذا عمر وهو صديق لي، أريد أن أعرفك عليه.

أشار يوسف لعمر بالدنو منهما، وعاد ليجلس على كرسيه، اقترب عمر وجلس مع زيد حول العم يوسف ليبدأ زيد بحكاية قصة عمر العجيبة ليوسف وروى كل تفاصيل ما حدث.

كان يوسف يستمع باندهاش وتعجب بينما يملأ أكواب الشاي الساخن الذي حضره من أجلهم، وينظر في وجه عمر منصتاً والدهشة تعتلي وجهه.

فلما انتهى زيد من كلامه وقد أخبر يوسف بكل شيء نظر إلى يوسف وقال: هل لي أن أبوح لك بسر يبقى بيننا لا يعلمه أحد؟!

فقال يوسف له: طبعا يا بني وهل هناك أسرار بيننا من الأساس، دائما ما نتشارك ما لدينا مع بعض، قل ما تريد وكأنك تحدث نفسك، لا تقلق!

تنهد زيد ثم أراح كفيه في حجره وقال: لابد وأنك سمعت ببعض المحلات والمتاجر التي تمت سرقتها في الأيام الماضية أليس كذلك؟

فكر يوسف لبعض ثوان ثم قال: أجل سمعت وماذا في الامر؟

كان زيد مترددا في قوله : في الحقيقة أنا من كان يفعل ذلك.

استغرب يوسف ذلك القول فسأله: أنت! لا أصدق ما أسمع!

كان زيد يحاول التبرير له فقال: بل صدق إنه أنا ولكنني أفعل ذلك بنية مساعدة الناس وإعانتهم لا أكثر.

لم يعجب يوسف ذلك لأمر مهما كان سببه فقال له: لا أحب لك ان تفعل مثل هذه الأمور، ما عند الله لا ينال بمعصية الله!

توشح الخجل وجه زيد، ثم قال: آسف يا عم ولكنني عندما رأيت بأم عيني كيف ان التجار يسرقون أموال الفقراء بشكل علني وفي وضح النهار لم أستطع أن أبقى مكتوف اليدين، وكان عليّ ان أجد حل لهذا.

ثم أضاف زيد قوله: لذلك قررت أن أرد لهم الصاع صاعين، فهم ينهبون الناس في النهار وأنا استعيد حقهم في الليل.

ارتشف يوسف رشفة من كوب الشاي ثم قال: أعلم أنهم تجار ظلمة فسقة ولكن، الأمر خطير وربما يحدث ما لا تحمد عقباه بعده!

أجابه زيد مطمئناً له : لا تقلق يا عم أنا لا أفعل أي شيء قبل أن أدرس الأمر جيدا، ثم ما الذي سوف اخاف منه؟ أكثر ما يمكن أن يفعلوه هو قتلي وأنا لا أخاف على عنقي.

صمت زيد هنيهة ثم عاد ليكمل ما يخفي في نفسه: ولكننا جئناك في أمر آخر يا عم
سأله يوسف: آخر؟ وما هو؟

التفت زيد إلى عمر وقال: هات الكتاب يا عمر.

أخرج عمر الكتاب ووضعه على ذلك الجذع الخشبي الذي هو طاولة يوسف، ومن ثم نظر إلى يوسف وقال: جئناك في أمر هذا.

أمسك يوسف بالكتاب متعجباً وقال: وما هذا؟
قال زيد إنه كتاب كما ترى يا عم
رد عليه يوسف وعلى وجهه ابتسامة ساخرة: ادري، ولكن أين الصفحات؟

أجاب زيد: هنا تكمن المشكلة يا عم، هذا الكتاب هو ذات الكتاب الذي نقل عمر وأخته المفقودة إلى هنا وقد وجدناه في أحد المحلات.

ولكن صفحاته قد فقدت للأسف، وقد أتيت إليك كي تساعدنا في هذه المشكلة، فعمر يقول إنه على الأرجح يمكن أن يعود إلى زمنه بعد أن يعيد صفحات الكتاب إليه.

تفحص يوسف ذلك الكتاب المريب والمثير للدهشة ونظر إلى عمر وقال: مسافر عبر الزمن وكتاب سحري! لازال الزمان يأتينا بكل عجيب والله!

كان زيد يرد أن يعرف أن كان بامكانه معرفة شيء ما حول هذا الكتاب فقال: ما رأيك في الكتاب؟

حدق يوسف بالكتاب كثيراً ثم قال له: لن أقول شيئا الآن قبل أن أرى إن كان هناك معلومات عن هذا الكتاب أولا.

قاطغ عمر حديثهما بقوله: قبل أن أنسى احضرت هذه البردية معي.

التفت يوسف إليه وهو يخرج تلك اللفافة من داخل ثيابه ويعرضها أمام يوسف، نظر يوسف إلى البردية باهتمام وتعجب وأمسك بها يقرأ ما فيها مندهشاً ويتأمل تلك الكتابات.

كان زيد يراقب تقلب وجه يوسف بطريقة غريبة، ثم سأله: ما القصة يا عم؟

أوما يوسف برأسه وقال: إنها بردية مهمة يا زيد ولها قيمتها الأثرية! ثم إنها وثيقة استسلام وتنازل من ملك القوط!

قال زيد مستغرباً وهو يقلل من قيمتها: ولكنها مكتوبة من بضع سنوات فقط!

أكمل يوسف كلامه: أجل ولكنها بردية من نوع نادر ليس في أيامنا هذه برديات مثلها إلا القليل، أتعلم لو عرضتها للبيع في مزاد كم يساوي سعرها!

رد زيد بعجلة وقال: لن تستطيع ذلك لأنها مسروقة وهذا سيجعلك تدخل السجن بتهمة سرقة المتجر!

ضحك يوسف وقال: لن ابيعها أنا اقول لو أنني عرضتها، ولكن سأحتفظ بها عندي خوفا عليها من الضياع

نهض زيد من مكانه وقد هم بالذهاب وقال: إذا سأذهب أنا وصديقي وسنعود إليك غداً لنرى إن كنت حصلت على معلومات جديدة عن الكتاب.

يوسف: توكلنا على الله.

ودع زيد صديقه يوسف: إذا على بركة الله، استأذنك يا عم
ابتسم عمر للعم يوسف وقال: تشرفت بمعرفتك يا عم، السلام عليكم.

خرج الشابان من الحانوت يتمشيان في الأسواق و يتسكعان بعد أن شعر عمر بشيء من الأمل بشأن ذلك الكتاب لربما ينفعهما ما فعلوه في سبيل إيجاد شيء مهم، فيبدو أن عودته إلى منزله ستكون قريبة على عكس ما كان يتوقع.


نعود إلى ماريا التي تعيش بداية مرحلة جديدة في حياتها هي الاخرى، فها هي قد بدأت تعتاد العيش في ذلك الكوخ وبدأت تساعد في أعمال المنزل وما إلى هناك من أمور توجب عليها.

بينما عادت قمر للعمل في الحقل مبتغية في ذلك مساعدة والدها في مصاريف المنزل من جهة وتسريع عملية تحرير صديقتها هناء من جهة اخرى حيث وعدها خالد بأن يعتقها.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي