17

طرق باب المنزل فجأة فنهض مأمون ليرى من هو الطارق، فتح الباب فوجد فتاة غريبة تقف عنده.

رحب مأمون قائلا: اهلاً ابنتي، هل تريدين شيئا؟
قالت الفتاة غير متأكدةٍ وهي تتسائل: أهذا بيت السيد مأمون؟!

أومى رأسه وقال لها مأمون: أجل، أنا هو تفضلي.

بطريقة مؤدبة ولطيفة قالت: أريد ان ارى صديقتي قمر من فضلك يا عم
رحب بها مأمون وقال: اهلاً وسهلاً على الرحب والسعة، تفضلي بالدخول.

دخلت الفتاة ووقفت عند العتبة بينما دخلت ماريا تنادي على قمر من غرفتها لكي تحضر وترى من التي تريدها.

عادت قمر لترى من الزائر فكانت صديقتها القديمة "هناء" تلك التي كانت تعمل معها في حقل خالد قبل قرابة العام.

شعرت قمر بالدهشة وقالت مستغربة: هناء!
لترد هناء بعفوية وظل خفيف: أجل، ومن غيرها!

أقبلت قمر على صديقتها فاتحة ذراعيها لتحضنها وتبادلتا القبلات ورحبت بها أيما ترحيب.

شعرت قمر بالسعادة لرؤية صديقتها ورحبت بها قائلةً: اهلا، أهلا وسهلا بصديقتي هناء، كيف حالك يا عزيزتي! مر وقت طويل لم اراك فيه!

بذات الطريقة والسعادة قالت لها هناء: الحمد لله أنا بخير، أخبريني انت كيف حالك، ماذا تعملين هذه الايام؟!

وضعت قمر يدها على كتف هناء وهي تدخلها وتقول: تعالي ادخلي معي وهناك سنتكلم هيا.

دخلت الفتاتان إلى الغرفة المخصصة لاستقبال الضيوف وجلستا تتحاوران ووتحدثان عن أخبارهما وحياتهما.

قالت قمر بفضول: أخبريني يا هناء كيف هي أمورك؟ الازلت مع المدعو هاشم؟

تنهدت هناء بهم وقالت: أجل ولكن عما قريب سأرتاح منه قريباً إن شاء الله.

لم تستوعب قمر الأمر فقالت: وكيف ذلك اخبريني؟

ليعود السرور إلى وجه هناء وهي تقول: الأمر بسيط لابد أنك لا تزالين تذكرين خالد ذلك الذي كنا نعمل عنده في الحقل اليس كذلك؟!

قالت قمر وهي تتظاهر بلا مبالاة: أجل ماذا به؟ وما علاقته بقصتك؟!

أشارت هناء بيدها وهي تمسح العرق عن جبينها: صبراً علي، خالد أتى إلي قبل بضعة اشهر وأوكل إلي مهمة الاعتناء بالحقل حتى نهاية العام، ولقاء لخدمتي هذه سوف يحررني فقد اشتراني من هاشم.


لتقول قمر وقد ارتفع حاجباها: أتعنين أنك اصبحت حرة أخيراً!
اطبقت هناء شفتاها وهزت برأسها قائلةً: امم ليس تماما لأنني أدفع لهاشم المال كل شهر على شكل اقساط


سرت قمر من جميل الأخبار التي سمعتها وقالت: أخبار جميلة لقد سعدت جداً لأجلك يا هناء.


أضافت هناء قائلة: وهذا هو سبب زيارتي لك، المحصول بدأ وحان وقت قطاف الثمار فقلت في نفسي لما لا ارى إن كانت صديقتي قمر تحتاج إلى عمل.

بكلمات متقطعة قالت لها قمر: في الحقيقة أنا لم أعد اعمل، ولكن إن كان عملي يساعدك على التحرر فأنا جاهزة يا هناء.

قالت هناء بحماسة: سوف يساعدني وأيضا سوف تحصلين على مرتب شهري لقاء اتعابك.

تحمست قمر للأمر وقررت ان تساعدها قدر الإمكان فقالت: إن كان الامر كذلك فلا مانع عندي، المهم ان تتحرري من هاشم ذاك.

ردت هناء وهي تقول: اتفقنا إذاً، ما رأيك ان تبدأي عمل من الاسبوع القادم؟

أجابت قمر مؤكدة: انا جاهزة لذلك ليس عندي اي مانع.

اكملت الفتاتان جلستهما وهن يتحدثن عن الحياة في القرية وفي غرناطة وكل واحظة منهن تسائل الأخرى عن أخبارها الجديدة.



في مكان بعيد وفي زمن غير هذا الزمن لايزال عمر الذي وجد نفسه فجأة قد عاد إلى الوراء مئات السنوات حائراً لا يهتدي سبيلا.

أما زيد صديقه الوحيد في هذه البلاد فكان قد وعده ان يريه بعض ما يعمله في الليل مما يسميه بمر "سرقة"

حل المساء عند عمر وخرج زيد من غرفته مرتدياً ثيابه السوداء وواضعاً خنجره على خصره متوشحاً بوشاح أسود اللون لا يظهر منه إلا عينيه.

استوقفه عمر وهو في طريقه نحو باب المنزل قائلاً: ألم تكن قد وعدتني بأنك ستصطحبني معك الليلة؟!

أجاب زيد: بلى سنفعل ولكن يجب عليك أولاً أن تخفي هويتك وإلا أوقعت نفسك في ما لا يحمد عقباه!

توجس عمر من جواب زيد وقال وهو يتسائل: ممن تخاف؟ من التجار؟!

رد عليه زيد. نافيا: بل من شرطة الخليفة فاذهب وجد لنفسك أي لباس أسود اللون تتخفى فيه في الظلام وتوشح كي تخفي وجهك.

انطلق عمر إلى غرفة زيد يختار ما يناسبه فلبس سرولاً فضفاضاً أسود اللون وألقى على نفسه قميصاً طويلاً يصل إلى ركبته وخرج وهو يلف وشاحه.

رأى زيد شكل عمر الجديد فقال: الآن أنت مناسب للخروج معي، هيا تعال وساعدني.

حمل زيد تلك الأكياس المملوئة بالطعام على كتفه وأعطى كيساً لبكر وخرجا من البيت يتخفيان في الظلمة.

كان زيد يسير في الأزقّة دون ان يصدر اي صوت ويتبعه عمر متسللاً بخفة حتى وصلا إلى وجهتهما، منطقة نائية على أطراف المدينة.

تحوي في خيامها ومنازلها المتواضعة مئات من الناس الذين لم يعودوا يجدون اي شيء يؤكل، وقد أضرَّ بهم الفقر والحاجة وتحولت أيامهم إلى كوابيس يعيشونها.

كان زيد قد اعتاد أن يأتي لهم بالطعام كلما وجد نفسه يملكهة والفرصة سانحة، أما عمر فقد كان يمشي خلفه ولا يدري ماذا يصنع، ويكتفي فقط بمراقبة صديقه زيد.

دخل زيد إلى أحد البيوت المبنية من الطين وجلس يفتح تلك الأكياس ويقوم بتوزيعها على الناس، وقد تسامع الناس أن زيد قد عاد فصاروا يتوافدون إلى ذلك المنزل فرادا.

فهذا يأخذ خبزاً وآخر خضارا وتلك تأخذ نقودا وهكذا حتى نفذت كل تلك الأكياس، كل هذا وعمر يكتفي فقط بالمراقبة والانصات لكل التلك الدعوات التي تنطلق.

لم يخرج واحد من المنزل إلا ويحمل في يده ما يسد به جوعه وجوع أولاده، ولقاء ذلك كان الجميع يلهج بذكر زيد والدعاء له والثناء عليه.

أنتهى زيد من شطر عمله لي توزيع الطعام وحان الآن موعد جلبه، وهو الجزء الأصعب والاكثر خطورة.

أشار بيده لعمر كي يتبعه وخرج متوجهاً إلى السوق، كمن زيد في أحد الازقّة المظلمة يراقب الطريق ويتأكد من ان لا أحد يراقبه.

اختارا دكاناً ضخماً يبدو على مالكه الثراء الفاحش واقترب منه، أخرج ذلك الخنجر ودسه في ذلك القفل الحديدي، وبعد قليل من المحاولة أصدر القفل صوته المبشر معلنا انه فتح.

رمى زيد القفل على الارض وفتح تلك البوابة الخشبية ودخل ومعه عمر يتبعه، كان الهدوء يعم المكان والخوف هو ما يشعر به عمر فقط.

لم يسبق له أن عمل لصاً أو سارقاً وقد تربى طيلة حياته على ان هذا العمل من الاعمال المشينة والسيئة.

أمّا زيد فلم يكن لديه الوقت ليفكر في مثل ذلك الآن فقد همّ بوضع كل ما رآه أمامه من طعام ومال وأشياء غالية في كيسه الضخم.

والتفت إلى عمر مشيراً برأسه كي يبدأ العمل، ففتح بكر كيسه وبدأ بملئه بما يستطيع وبعد أقل من خمس دقائق كان زيد وعمر افرغا أغلب محتويات البقالية وخرجا تماما كما دخلا.

أغلق زيد باب الدكان وهب مسرعا نحو منزله فهاقد أقبل الفجر واقترب موعد خروج الناس من المنازل من أجل صلاة الفجر في المساجد.

كان عمر طيلة الوقت خائفاً وعذاب الضمير لا يفارقه، بالكاد استطاع البقاء هادئاً حتى وصل إلى المنزل، فتح زيد الباب وألقى الكيس عن كاهله بعد أن أرعقه بوزنه الكبير.

دخل عمر خلفه وألقى كيسه مشتت الذهن، نظر إليه زيد وقال: ما الذي دهاك يا بكر؟

قال عمر قلقاً وهو يمسح العرق عن جبينه: لست مرتاحاً لما نفعله يا زيد، أشعر أنني اقترفت ذنباً كبيرا!

ابتسم زيد وهو مقدر لشعور عمر سيزول عنك هذا الشعور عندما آخذك في الصباح في جولة في المدينة لا تقلق، يبدو أنك اتٍ من زمان عمّ فيه الخير ولم يعد أحد يسرق لحاجة!

أجاب عمر متأسفاً: بل على العكس تماماً، الحروب مشتعلة والأمراض منتشرة والفقر لا حد له ولكن_

زيد وهو يحاول انهاء ذلك العتب: أنت تكثر الكلام يا عمر ر وتجلب لرأسك التعب، قلت لك انتظر وعندما تشرق الشمس سوف أُريك ما الذي يجري هنا.


أنتظر زيد حتى أشرقت الشمس وعلا شعاعها، ثم بدل ثيابه وخرج من المنزل مصطحباً معه "عمر" إلى السوق.

كانت الجلبة قد حدثت وتجمهر الناس كلهم ينظرون ما القصة، وذلك الرجل القصير القامة، ضيق المنكبين ذو العنق الملتوية، يقف عند باب دكانه يصرخ ويولول.

يمسك بمقبض بابه ويهزه بكل قوته، ويضرب عليه، وينادي بين الناس "يا ويلي! يا ويلي! لقد سرقت دكاني!"

أما "زيد وصديقه عمر " فقد وقفا على جانب الطريق يشاهدون من بعيد صنيع ذلك الرجل، بعد أن رمى نفسه على الأرض، يمسك من ترابها ويضرب بها على رأسه جزعاً.

اقترب بعض الرجال ممن هم جيرانه في السوق يرفعونه عن الأرض، وقد اغبرت عمامته وتمرغ وجهه في التراب، ولا صوت يعلو فوق الهمهمة الجماعية قائلين.

"لا حول ولا قوة إلا بالله"!
"إنا الله وإنا إليه راجعون"!

استطاع بعض الرجل حمل ذلك البائع وذهبوا به إلى احد الدكاكين المجاورة ليخففوا عنه مصابه، أما الناس فقد تفرقوا كل منهم يضرب كفا بكف معلنين الأياس من قضية السرقة المستمرة هذه.

انفضوا وهم يحدثون بعضهم جزعين وأحدهم يقول بخوف واضطراب: ما لهذه المدينة يكثر فيها السطو؟!

والأخر يهمس خائفا بصوت مرتجف بعض الشيء: لابد انه صاحب الشرطة. هو من يتفق مع اللصوص ويحميهم.

ليجيبه الآخر مؤيداً: بلى؛ فلا يعقل أن تكون هذه هي الدكان _الثالثة_ هذا الشهر، ولا تتمكن الشرطة من الإمساك بأحد اللصوص!

أما "زيد" فقد كان يقف على قدم واحدة واضعاً الأخرى على الحائط، وقد لف ذراعيه على صدره يخفي ابتسامته تلك.

و"عمر" يشاهد ما يجري في فم مغلق ولا يتدخل أبداً، فلما انفض الناس وفرغ الطريق سمع "عمر" صوت حوافر الخيل وهي تضرب بالأرض.

وما هي إلا ثوانٍ معدودة حتى وصل إلى المكان _ثلاثة فرسان_ يمتطون الخيل بزي موحد جلدي السيوف على الخصور في مشهد مهيب لـ"عمر".

هرول أحد الحاضرين إلى حيث يجلس صاحب الدكان يكفكف دموعه وهو ينادي بصوته الجهور "حضرت الشرطة! أتى المأمور!"

سمع "صاحب الدكان" النداء فنهض من مكانه كلمح البصر وذهب إلى الدكان، كان في انتظاره ذلك الرجل البدين القصير بغدته التي أسفل عنقه تلك وزيه الذي يكاد ينفجر من كل تلك البدانة.

يقف متباهيا بنفسه بين الحاضرين، يتلفت ناظراً في وجوه الناس بكل كبر وعجرفة، ومن ثم قال بصوته العالي الذي أمتلئ بالغلظة: من منكم صاحب الدكان!

اقترب الرجل خائفا منه، وقد اجتمع في قلبه مهابة "صاحب الشرطة"، والتعب الذي أصابه جراء سرقة دكانه.

وقف أمامه يفرك كفيه ببعضهما ويكورهما ثم قال بصوت متردد: أانا_مكرراً الألف عدة مرات_ أنا هو "صاحب الدكان" يا حضرة "المأمور".

نظر الرجل البدين إلى الأسفل يبحث عن مصدر الصوت، وكانت بطنه المنتفخة تحجب الرؤية كأنما هي تله ضخمة!

دقق النظر فوجد ذلك الرجل القصير يقف أمامه مرتبكا، فقال بشيء من الغرور: متى حصلت السرقة أيها الرجل؟

يتبع
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي