20

خرجت قمر منذ الصباح الباكر متوجهة إلى الحقل الذي تتولى هناء العمل به ورعايته تساعدها فيه، وقد مضى عدة أشهر لم تكن قمر تمر بذات الطريق.

فهو يملك في قلبها ذكريات مؤلمة وجميلة في ذات الوقت، وعلى الرغم من أن فترة حبها لم تتعدى الأيام إلا ان قلب قمر الرقيق احتفظ بكل لحظة من تلك الأيام.

كلما فاض بها الحنين ذكرت تلك الايام الجميلة التي عاشتها وهي غارقة في الحب، وعادت بها الذاكرة إلى هناك، كيف لا وقد ملئ حب خالد قلبها شغفاً، ثم وبعد ذلك رحل دون أي مبررات أو حتى عذر.

رحل دون أن تسمع منه الكلمة التي تذوب القلوب لأجلها، رحل ولم تكتفي من عينيه وتأمل وجهه، ولكنها موقنة بأن ما لم يكن لها فلن يصبح حتى لو فعلت المستحيل للوصل إليه وأن ما كتب لها لن يفوتها مهما كان بعيداً وترى بينها وبينه بلاد كبيرة.

أكملت طريقها ومع كل خطوة تعود لها ذكرى تسعدها لحظة وتحزنها ساعات طويلة، وصلت إلى الحقل ووقفت تنظر إلى ذلك الكوخ المصنوع من القش.

إنه الكوخ ذاته والشجرة ذاتها تلك التي جلست في ظلها يوما وقد وقف خالد أمامها يتأملها وهي تزيح اللثام عن فمها لترتشف بضع قطرات من الماء

لم يكن يرتوي من رؤية عينيها البراقتين ولم تكن بالقوة الكافية التي تمكنها من النظر في وجهه مباشرة، فلطالما تهربت من النظر إلى وجهه مع شدة رغبتها لذلك وان تعانق عيناها ذلك الوجه الذي كان يجعل من خافقها يرقص فرحاً بين أضلاعها، وغالبا ما كانت تكتفي بمراقبته خلسة.

خرجت هناء من الكوخ لترى صديقتها تقف عند أول الحقل عن طريق الصدفة فلوحت لها بيدها كي تأتي.

رأت قمر صديقتها تلوح من بعيد فأقبلت إليها ليبدأ يومها الأول في الحقل من جديد، ولكن هذه المرة من دون وجود خالد.

أخرجت هناء إبريق من الشاي ووضعته في ظل إحدى أشجار الجوز الضخمة وافترشت قطعة قماشية لتجلس هي وقمر عليها مستمتعتان بذلك النسيم الصباحي العليل، تتبادلان بعض القصص والحكايات.


أما في المدينة "غرناطة" حيث يتجول هلال في الأزقة ضجراً يبحث عما يقضي نهاره فيه خطرت بباله فكرة غريبة، إذ لاح في ذاكرته أنه رأى هند وهي تقف مع فتيات ثلاث وواحدة منهن كانت تلك التي تغني على المنصة.

جعل يدور للفكرة في رأسه قليلا ثم قال في نفسه: " إن كانت متزوجة فلا حاجة لي فيها ولكن لي حاجة بفتياتها"

أكمل طريقه وهو يحدث نفسه يحسبه الناظر مجنوناً أكملت نفسه تحدثه وتقول "فإن كان لها ثلاثة من البنات فلابد أنها تطمح لتزويجهن من رجل ثري او تاجر غني"

أمسك بلحيته يمسدها باحثاً عن طريقة يفاتح هند بها ويكلمها عن نيته الزواج بإحدى بناتها الليلة، لم يكن الأمر سهلاً عليه فهو في الأمس كان يتودد لها طالبا قلبها ويرغب بالقرب منها أكثر.

وبعد يوم واحد سيريد بنتها بدلا عنها، ففكر في طريقة تجعل من هند طوع أمره ورهن إشارته وهو مرتاح البال دون ان تفتعل له مشكلة.

أراد أن يستفيد من هند وبدا بنتها ما استطاع فاحتار في اي شيء يبدأ، كان في البداية ينوي ان يجعل من هند نديمة وصاحبة له ريثما يرتحل من هذه المدينة.

تماماً كما كان يفعل مع غيرها في باقي المدن، أما وقد خطر له الزواج فيجب عليه ان يختار زوجة تناسبه، وهنا يأتي دور البنت.

قرر ان يتزوج من اجمل بنت لديها ويغري البنت وامها بمال وفير يجعلهم لا يقدرون على الرفض أبدا، فقد جرب من قبل ان يتزوج ولم يحافه الحظ في ذلك.

فهو على الرغم من ثرائه الفاحش رجل في الخمسين في العمر بدين هرم ذو شعر أشيب وهمة ضعيفة، فكيف ستقبل به فتاة بعمر بناته!

فهو يعلم بأن فتاة بهذا العمر ترنو للعيش مع شاب بمثل سنها يملئ حياتها حب وحياة، ولا تريد رجلاً هرما يعيش على تناول الأدوية والعقاقير.

من هنا بدأ التخطيط للنيل بواحدة من تلكم الفتيات وبينما هو يمشي إذ سمع صوت غناء أتٍ من بعيد ذهب يتبع الصوت في الأزقة ليجد نفسه امام حانوت ضخم.

فتح الباب فوجد أمامه جمعا غفيرا من الناس قد جلسوا على الطاولات يستمعون لذلك الصوت العذب الندي، إثارة الفضول فدخل وجلس على إحدى الطاولات.

كانت المغنية فتاة في عمر الزهور تقف على خشبة المسرح تغني وترقص وتتمايل وقد صار تحت اقدامها من المال ما تحسد على امتلاك ربعه.

تعجب هلال من الأمر وظل جالسا حتى انتهى الحفل وبدأ الناس بالخروج وحينها كاتت المفاجئة، صعد رجل إلى الخشبة ووضع يده على كتف الفتاة يضمها إلى صدره بكل خسة ووقاحة وتلك الإبتسامة الخبيثة بادية على وجهه المقرف المجعد.

ظل هلال صامتا يراقب فحسب وكانت تلك الفتاة تتأفف من تلك المعاملة المزرية والوقحة ولكن ليس بيدها حيلة أكثر من ان تتهرب من يد ذلك الرجل النذل، الذي حاول تحسس جسدها

نادى الرجل على الحاضرين قائلا: من يشتري!

نظر الحاضرين في بعضهم البعض وكان منهم الرجال والنساء وبدأ ذلك المزاد على الفتاة، هذا يدفع خمسين درهما واخر ينادي بمئة والاخر بمئتين.

وظلت الاسعار تتنافس والزبائن تتنافس على شراء تلك الجارية حتى فاز بها أحدهم بخمس مائة درهم!

كان مبلغا ضخماً جدآ حتى بالنسبة لهلال ولم تكن الفتاة ذات جمال باهر أو صوت يستحق كل ذلك المبلغ، فقد اعتاد أن يرى الجواري والعبيد تباع بعشرين وثلاثين وإن زاد الثمن مائة درهم في أغلب الحالات ولا يزيد عن هذا الأمر كثيراً.

نهض ذلك الرجل الذي اشترى الجارية وأمسك بيدها ليخرج معها من الحانوت فرحا مستبشرا بما حصل عليه، رأى هلال كل ذلك وهو لا يزال متأملا فقط.


لمعت في رأسه فكرة جهنمية من وساوس شياطينه جعلتها يكاد يقفز من على الارض فرحاً، جعلته يخرج من الحانوت ويسرع إلى الحلاق كي يتزين ويجمل نفسه فهذه الليلة سيكون لديه عمل مهم يخطط له مع شيطانه الأكبر.

وقد كان ينوي ان يتزوج ولكنه عدل عن رأيها واراد ان يشتري لنفسه جارية بابخس الاثمان، انتظر في منزله حتى مغيب الشمس وذهب ليجلس منظرا أمام قاعة الحفلات اليومية.

أما قمر فقد عادت إلى المنزل لتوها بعد يوم شاق قضته في العمل بالحقل لتجد والدتها تجلس المنزل على غير العادة.

وقفت أمامها مستغربة وقالت: امي؟ أراك هنا في المنزل!

جالسة على اريكتها ممسكة بكأس شراب الورد، رفعت هند رأسها لتنظر إلى ابنتها وقالت: وأين تريد مني أن أكون مثلا؟

تلعثمت قمر من كلام أمها فقالت لها: لا ادري، عادة ما تكونين في هذه الأوقات تجهزين نفسك للذهاب إلى تلك الحفلات الليلة، هل فكرت بكلام والدي؟!

ردت هند بعدم مبالاة: عن أي كلام تتحدثين!؟
سالتها قمر: ألم يخيرك بين الحفلات وبين المنزل؟
هند: اه تذكرت، لا لم افكر وليس هذا وقته.

استنكرت قمر جواب والدتها الذي لا يعير حياتهم أي اهتمام وقالت: إذا وقت ماذا الان؟
أجابتها هند بنبرة حادة دعيني وشأني يا قمر سنتحدث لاحقا.

لم تكن هند مرتاحة البال فقد شغلها التفكير هي أيضا بما ستفعله في ليلتها القادمة في الحفل.

استجابت قمر لكلام والدتها وذهبت إلى غرفتها كي تنال قسطا من الراحة، حيث كانت ماريا تجلس مع حور والصغيرة نور تغني لهم ما تحفظه من أغنيات وابيات شعر.

فتحت قمر الباب ودخلت دون ان تنتبه ماريا لقدومها ووقفت خلفها تستمع لصوتها العذب باندهاش، وأشارت لاختيها بأن تصمتا ولا تقاطعا ماريا كي تكمل تلك الكلمات العذبة وتسمعها.

أكملت ماريا الغناء حتى وصلت إلى البيت الاخير وما إن انتهت حتى سمعت بالتصفيق يأتي من الخلف، نظرت فإذا بقمر تتبسم وتصفق لها.

شعرت ماريا بالخجل الشديد واحمرت وجنتاها لأن قمر استمعت لها خلسة، لكن الفتاتين شاركتا بالتصفيق وسرعان ما تحول التصفيق إلى عناق جماعي.

اقبلت قمر وهي تقول: ممتاز! ممتاز! غناء رائع؛ لم أدري أن لك موهبة في الغناء من قبل!

شعرت ماريا بالخجل من مديح قمر وقالت: لا تبالغي في ثنائك علي يا قمر، في الحقيقة ورثت الصوت الجميل من أمي.

أبدت قمر أعجابها وقالت: ما شاء الله هذا أجمل غناء سمعته في حياتي!

سالتها نور: إذا ماذا كنت ستفعلين لو كنت معنا في غرناطة!

لم تفهم قمر قصد أختها فسألتها: وما الذي حدث هناك؟

أسندت نور رأسها على الجدار وهي تنظر نحو الفراغ بشرود والبسمة ترتسم على شفتيها عندما تذكرت ما حدث وقالت: لقد فاتك شيء لا يصدق في تلك الحفلة، كانت أروع من أن تصدق.

استغربت قمر من كلام نور ولم تفهم منه شيء: حفلة؟ احكي لي ما الذي حدث، انا لم افهم شيئا.

فبدأت نور تقص عليها ما حدث قائلة: قبل أن أتكلم يجب أن تأتي معنا في المرة القادمة، المدينة أجمل من أن تفوتك زيارتها.

لترد قمر بضجر: ألا تملين من مقدماتك هذه؟ سألتك عن الحفلة فقط، لا شأن بغرناطة كلها.

ضحكت نور بسخرية وقالت وهي تخرج لسانها لتغيظ أختها: أنت لا تستطيعين الذهاب ولهذا أنت تتظاهرين بأن غرناطة لا تهمك.

أمسك قمر أختها من شحمة أذنها ببعض الشدة وقالت: كفي عن تشغيل عقلك وأخبريني قبل أن أجعل أذنك كأذن الفيل.

أمسكت نور بيد قمر وهي تتألم وتقول: أه أه اتركي أذني سوف تنقلع!



يتبع.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي