6

تحمست الفتيات ونهضن إلى غرفتهن يقمن بتجهيز ماريا ايضا للخروج معهن، فهذه تحضر لها الحذاء، وتلك تأتي لها بالفستان، إلى ان تم الامر وتجهزن جميعاً.

عدن إلى والدهن ليعلمنه بخروجهن فقام بأخراج بعض النقود من جيبه ليعطيها الوسطى"حور" كي تشتري ما يتسلين به قليلا.

خرجت الفتيات الثلاث من المنزل يتجولن في أنحاء القرية الجميلة، الكثيرة الخضرة والمليئة بالناس، بعدما رأتها ماريا ليلة البارحة سوداء مظلمة خالية على عروشها.

أما هند فقد كانت جالسة عند نافذتها تنظر للطريق، تراقب ابنتيها اللاتي اصبحن شابات في عمر الشباب وتفكر في ما رأته البارحة في الحفل.

اغلقت الستارة بعد ان رأت ماريا وهي تقول مغتاظةً "اتمنى ان تدوسك حوافر الخيول، وتريحني من عودتك مرة اخرى"

طرق باب حجرتها ودخلت ابنتها الكبيرة قمر تحمل بيدها كوباً من الماء الذي طلبته والدتها منها، وضعته امامها على الطاولة و استدارت لتخرج من الغرفة مرة أخرى.

لكن نداء والدتها استوقفها وجعلها تلتفت إليها.

هند بنبرة حانية: قمر بنيتي.

قالت قمر: نعم يا امي؟


سألتها هند: ألم تفكري في ما قلته لك البارحة ليلا؟

تغيرت ملامح قمر إلى الانزعاج الواضح، وهي تنظر لوالدتها دون أن تجيبها بأي حرف.


في تلك الأثناء كان عمر قد استيقظ من نومه بعد أن قضى ساعات عدة وهو نائم من دون أن يدري، فزع من نومه فجأة ونهض تلفت حوله ليعرف انه هو الاخر في الحقيقة وليس حلماً.

ارتدى ما اعطاه اياه زيد البارحة من بنطال مصنوع من الكتان وثوب طويل يصل إلى الركبة يشبه المعطف الطويل وخرج من الغرفة منتعلا خفه ايضا.

نادى على زيد ليجده نائما على الأريكة بملابسه ذاتها وامامه بعض الأكياس المصنوعة من القماش الكبيرة الحجم وقد وضعها امامه.

كان عمر يشعر بالضياع؛ فهو لا يعرف كم الساعة وبالكاد يتذكر التاريخ الذي أخبره به زيد البارحة.

احس زيد بصوت خطوات على الأرض ففزع من نومه وفقد توازنه، ليقع على الأرض بعد ذلك في مشهد اضحك عمر نوعا ما.

نهض زيد يحك رأسه ويتلفت حوله وهو يتمتم بينما لا يزال نصف نائم: ماذا! من! ماذا هناك!

اوقف عمر ضحكاته بصعوبة وهو يقول: ما بك يا زيد هذا انا عمر أنسيتني!

وهو يتثائب قال زيد: ااه اهلا عمر، انا اعتذر، لست معتادا ان اسمع صوت احد غيري في منزلي.

اعتدل زيد في وقوفه ثم جلس على الأريكة ، يحاول الاستيقاظ جيداً وهو يقول: اخبرني يا عمر هل نمت جيدا البارحة؟

أومى عمر رأسه وقال: اجل هذه أول مرة أنام فيها بهذا العمق، اشعر بأنني نمت يومين متتاليين!

نظر زيد إلى عمر بطرف عينه وهو يلف تلك العمامة السوداء على رأسه، ويقول: هذا واضح لقد دخلت عليك البارحة ووجدتك نائما كمثل الاموات.

قال عمر بنبرة متلككة: في الحقيقة لا اعلم كم ساعة نمت، ولكن يبدو انني استغرقت كثيراً.

أجاب زيد على سؤاله: لقد نمت حوالي عشر ساعات او اكثر، أنظر إلى الساعة الرملية خلفك وستعلم.

تبسم عمر ساخراً من الحال التي هو فيها، وقال: ساعة رملية وظل على الحائط! لقد تيقنت انني عدت بالزمن الأن.

قال عمر متسائلا: لم تخبرني ما هو عملك یا زيد؟

اجاب زيد ساخراً: انا لا اعمل من الأساس يا صديقي.

نظر عمر إلى صديقه زيد يطالعه بتعجب وقال: لا تعمل؟ وكيف تعيش ؟

ضحك زيد من سؤاله وقال : إنها قصة طويلة، ما رأيك أن نتناول الفطور اولاً، أشعر أن معدتي ستأكل نفسها بعد قليل.

وافقه عمر الرأي قائلا: معك حق وانا اتضور جوعا ايضاً.

قال له زيد وهو يشير بيده إلى إحظى زواية البيت: إذاً افتح هذه الأكياس، واختر أي شيء تحبه، لا أدري إن كنت تأكل من هذه الأصناف.

تقدم عمر إلى الاكياس يفتحها ونظر في داخلها، فواحد يحوي خبزاً والآخر تمرا وعسلا والأخر جبنا ولباً، والكثير الكثير من أصناف الأطعمة.

نظر عمر إلى زيد نظرة تعجب وقال ما كل هذا الطعام يا زيد !؟ انه يكفي قبيلة بكاملها!


اختفت علامات المزاح من على وجه زيد وبدى عليه الجد قائلا: إنه من عملي.

قال عمر ساخراً عملك؟ هل انت طباخ مثلا؟

قال زيد وهو يثني تلك العصا الخشبية التي أمسكها قائلا: لا، ولكنني سرقتها من طباخ.

توقف عمر عن النظر في الأكياس، حول نظره إلى زيد بملامح مندهشة وقال: هل أنت لص؟

هز زيد رأسه نافيا وكأنه توقع تلك الاجابة من عمر قائلاً: ليس بالمعنى الذي فهمته يا عمر

لم يدرك عمر ما يقصده زيد فسأله: هلا شرحت لي إذا.

بدأ زيد يشرح وجهة نظره: انه قوت الفقراء، استرده لهم من الجشعين الأغنياء.

نهض عمر بعد أن سمع ذلك الكلام، التفت إلى زيد الواقف خلفه وعلى وجهه علامات الاستنكار والتعجب


نظر عمر إلى زيد مرتاباً مما سمعه وقال: كرر عليّ ما قلته يا زيد!!

أعاد زيد كلامه بكل أريحية وقال: أسرق من الغني وأعطى الفقراء، هذا عملي.

أجاب عمر ونظرات التعجب بادية على وجهه: عجبا لأمرك يا زيد لم أكن اتوقع هذا منك!

فعاجل زيد بالرد عليه: هون عليك الأمر ولا تسئ الظن فأنت لا فكرة لديك عما يجري خارج هذه الجدران.

أجاب عمر حازماً: مهما يكن؛ السرقة جريمة يعاقب عليها القانون ولا تجوز من الأساس.

لكن لزيد رأي أخر: أعلم هذا ولكن يحدث ذلك عندما أسرق لنفسي لا لغيري.

عمر بلا مبالاة: لا شأن لي بما تقوله يا زيد أنا حتى لا أدري لماذا أنا هنا، أتعلم أنا لم أعد اريد تناول الطعام.

تفهم زيد بأنه لم يفلح في أقناع عمر فقال له: هاقد بدأنا من جديد، أنت لن تقتنع بكلامي حالك كحال غيرك، لذلك دعني أريك بأم عينيك ما الذي يحدث في الخفاء.

أجاب عمر مستنكراً لما يقوله زيد: ما الذي تعنيه!

تنهد مستاء وقال زيد: لن أتحدث بحرف واحد أكثر الأن سننتظر حتى حلول المساء عندها ستخرج معي وترى ما الذي يدفعني لفعل مثل هذا.

عمر لم يرفض تلك الفكرة على العكس بل كان يرى فيها مغامرة تستحق التجربة: لا مانع لدي ولكن لازلت مشوشاً حتى اللحظة ولا أدري أي شيء عما يحدث من حولي.

اقترح زيد على ضيفه أمر وقال: أظن أنه عليك في البداية أن تعلم في أي مكان وزمان انت بالضبط، أليس كذلك؟

عمر موافق على ذلك: اجل، هذا ما أحتاجه الأن بالضبط.

وكان لدى زيد ما يقوله لينفع به عمر: اسمع اذا وسأحكي لك باختصار ما الذي يجري، نحن الان في الجزيرة الأيبيرية المعروفة "بالأندلس"

قبل ثلاث سنوات أرسل القائد موسى بن نصير جيوشاً لتفتح الجزر المحيطة في الأندلس

في الجنوب إشبيلية و قرطبة وغرناطة وفي الوسط طليطلة وفي الشمال فرقسطة وفي الغرب ليون وجليقيا وهذه أهم مدن الأندلس

وأرسل موسى بن نصير إلى الملك وهو الوليد بن عبد الملك قائد الدولة الاموية وقد وافق على فتح هذه البلاد في عام سبع مائة وثمانية.

وقد أتى جيشٌ صغيرٌ بقيادة طارق بن زياد، وعندما رآهم أحد الجنود أرسل إلى حاكم الأندلس لودريق يطلب المدد وقال عنهم في رسالته ادركنا فلا ادري إن كانوا من أهل الأرض أو من أهل السماء.

وحينها حدثت أول معركة بين طارق بن زياد بجيشه الصغير والملك المسمى "تودمير" معركة "الجزيرة الخضراء" واستمرت المعركة ثلاث ايام.

انتصر فيها طارق بن زياد وسيطر على منطقة الجنوب في الكامل، وبعد ذلك النصر ارسل موسى بن نصير جيشا قوامه خمسة آلاف مقاتل لإعانة جيش طارق.

فصار عند طارق اثنا عشر ألف مقاتل وخيم بجيشه عند نهر وادي غرباط وحدثت هناك معركة عظيمة.

معركة نهر وادي غرباط بين جيش طارق باثني عشر الف مقاتل وجيش لودريق البالغ في عدده مائة ألف مقاتل وانتصر فيها طارق في أكبر معركة عرفها الناس في ذلك العام.

واستمرت المعركة ثمانية أيام متتالية حتى انتصر جيش طارق في اليوم التاسع وهزم جيش لودريق وألقى لودريق نفسه في النهر فمات غرقاً.

ومنذ ذلك اليوم بدأت قوات طارق تفتح المدن واحدة تلو الأخرى وكانت أولى المدن هي قرطبة وتلاها كثير من المدن.

ومن ثم فتح طارق اشبيليا عاصمة الجنوب بالصلح من دون قتال وكان الاعداء يفرون من أمام جيش طارق.

وانتقل نحو الشمال فأتم فتح عاصمة الأندلس اشبيلية ومن ثم اتى موسى ابن نصير بجيش عدده ثمانية عشر ألف مقاتل.

ومن ثم طليطلة واستمرت المعارك ثلاث سنوات ومن ثم استقرت البلاد وانتهت الحرب وبدأت الحياة تعود وتسير الأمور نحو الازدهار.

وها نحن الأن بعد ثلاث سنوانت من فتح هذه البلاد.

يتبع.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي