22

كان المساء قد حل وعاد عمر ومعه صديقه زيد إلى حانوت يوسف الوراق، دخلا إلى الحانوت وكان لايزال يوسف يبحث فيما لديه من كتب ومراجع عن ذلك الكتاب الغريب.

رفع يوسف رأسه ليرى زيد مقبلا عليه، فنهض واقبل نحوه.

ألقى زيد التحية قائلاً: السلام عليكم ورحمة الله، كيف حالك يا عم
رد يوسف على صديقه: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بخير الحمد لله.

باشر عمر الحديث فوراً لم يكن يطق الإنتظار فسأل: هل من أخبار عن الكتاب يا عم؟!

أجابه يوسف ببعض اليأس من الردود التي حصل عليها فقال: مع الأسف يا بني، لقد عرضته على كل من اثق بهم وبأنهم أهل أمانة، لم يرى أحد هذا الكتاب من قبل ولم يصادفوا شيئاً يشبهه، وكأنه كتاب من خارج غرناطة! بل قل من خارج الأندلس كلها.

شعر عمر بالأحباط فقد كان ينتظر بشارة خير من يوسف وقد القى بكل توقعاته على ذلك الكتاب.

توجه زيد إلى ذلك الرف الموضوع عليه الكتاب وتناوله، نظر إلى عمر وقال: تعال معي يا عمر.

نظر عمر إلى يوسف ثم أعاد نظره إلى زيد وسأله: ولكن إلى أين؟
أمسك زيد بيد عمر وهو يقول: لا وقت لنضيعه، هيا تعال، تعلم ذلك ونحن هناك.

نهض عمر وذهب مع زيد فنادى لهما يوسف متعجباً: إلى أين يا زيد، هل وجدت شيء؟

التفت زيد إلى الخلف وقال ملوحاً له بالكتاب: سنذهب لنرى ما هي قصته.

خرج الشابان من الحانوت ثم خرجا من الحي كله متوجهين إلى صديق زيد القديم يعرفه منذ سنوات طويلة.

كان عمر يمشي بخطوات ثقيلة دون أن يعلم إلى أين يتجه أو ماذا يفعل ويكتفي بالسير خلف زيد فقط.

أسرع بخطواته ليجاري مشي زيد السريع حتى صار بمحاذاته، قرب وجهه وهو يلتقط أنفاسه التي تقطعت بسبب تلك السرعة وقال: إلى أين نحن ذاهبان الآن!؟

أجابه زيد دون أن ينظر إليه بل كانت عيناه في اتجاه واحد نحو هدفه وقال: إن لم يعلم أهل الحرفة قصة هذا الكتاب فسوف يعلمها أهل السحر.

صدم عمر مما سمعه وتوقفت قدماه عن المشي رغماً عنه في وسط الطريق واقفاً بدون حركة، فالتفت إليه زيد ثم عاد إليه كي يعرف سبب ذلك الوقوف المفاجئ.

أمسك زيد كتف عمر وهزه، ثم سأله: لماذا توقفت؟ ما الذي دهاك؟
كانت الحيرة بادية على وجه عمر، فسأل صديقه: زيد ؛ هل أنت جاد بما قلته!

أجابه زيد مؤكداً له ما سمع: ولم لا اكون جادا في ذلك، سنسأل ساحراً عنه.

تسللت الريبة إلى أوصال عمر وقال: هل تعلم ما يمكن ان يفعله الساحر بنا!؟
ضحك زيد مستهزءاً من خوف عمر ثم قال: لا تخف إنه مجرد مشعوذ دجال، نحن سنرى إن كان لديه معلومات عن الكتاب لا أكثر.

تنهد عمر وكأنه يريح صدره من ثقل وقع عليه ثم قال: لست مرتاحاً لهذا، ثم لسنا مضطرين إلى هذا الحد.

فقال زيد لصديقه عمر محاولاً التخفيف من تلك الأفكار التي تدور في رأسه: بلى نحن مضطرون وكثيراً ايضاً، هيا تعال معي دون ان تكثر من اسئلتك هذه.

هز عمر برأسه ومشى خلف زيد والقلق يعتريه، صحيح أنه لم يرى مشعوذا لكنه كان قد سمع عنهم عندما كان في زمانه، وعلم في تلك الأثناء عن ما يمكن ان يفعلوه من فظائع وأمور خطيرة

وصل زيد إلى المكان الذي كان يقصده ، طرق ذلك الباب الخشبي الكبير فانفتح من تلقاء نفسه وصوت صريره مزعج الأصم.

كان منزلاً صغيراً مهترئا على عكس منازل المدينة المتنوعة بألوانها وأشكالها، دخل زيد يمشي على حذر وخلفه عمر يمشي خطوة ويتراجع أخرى حتى وصلا إلى تلك الستارة القماشية.

أمسك زيد بها ونظر إلى عمر قبل أن يفتحها وقال تجلس كما يطلب منك دون أن تتكلم من تلقاء نفسك، اتفقنا!

ابتلع عمر ريقه بصعوبة بالغة واحنى رأسه موافقا على ما امر به زيد وكيف له أن يجرؤ على فعل غير ذلك وهو في مكان مثير للريبة والشكوك، دخل خلف زيد إلى الغرفة التي أشبه ما تكون بخيمة.

نظر عمر يحاول استراق الرؤية من خلف زيد يحاول أن يرى ماذا هناك، كان ذلك المشعوذ رجلا كبيرا عجوز طاعنا في السن.

بحجم صغير وملابس مهترئة وصحة متعبة، جالسا متكئا على كومة الصوف بجانبه وأمامه طبق كبير من الحديد قد أشعل فيه بعض الجمرات والدخان يملأ الغرفة.

جلس زيد أمام المشعوذ صامتاً دون أن يتكلم لبعض الوقت وأشار لعمر كي يجلس معه بصمت.

ظل المشعوذ صامتاً لبعض الوقت ثم بدأ بتلك الهمهمات التي تبعث على القشعريرة بالنفس وتبث الرعب في أوصال الجسد، بدأ صوته يعلو وعيناه تنفتحان ترسل المزيد من الخوف لقلب عمر المرتجف داخل أضلاعه.

علت الهمهمات وازداد الدخان في تلك الغرفة المظلمة، حاول عمر تشتيت نفسه قليلاً عن ذلك الرجل الغريب الأطوار وبدأ يجيل بصره أرجاء الغرفة لعل نفسه تهدا قليلاً.

كانت الجدران مليئة بالحيوانات المحنطة والجلود المسلوخة، خناجر وسيوف وكتابات غريبة، بالإضافة إلى جرات من الفخار عملاقة الحجم والكثير من العناكب التي خاطت بيوتها في كل مكان.

اعتدل المشعوذ في جلسته وقال بصوته الخافت الذي يثير الرعب في قلب من سمعه: ماذا تريدان!

ليجيبه زيد بكل ثقة وحزم: جئنا نرى إن كنت تعرف ما هذا الكتاب.

وضع المشعوذ بعض من الفحم لتزداد النار التي قام بأشعالها ثم قال له: اممم، دعني أرى ما لديك يا هذا.

مد عمر يده المرتجفة إلى المشعوذ حتى وصل إلى قربه، وضعه أمامه وعاد ليجلس مكانه، أخرج المشعوذ يديه من أسفل تلك العباءة التي كان يضعها على أكتافه.

أمسك بالكتاب وبدأ يتحسسه ويقربه من وجهه، عادت تلك الهمهمات إليه وبدأ يتكلم بما لم يكن بمقدور الشابين فهمه من هرطقات وتعاويذ غريبة.


رفع الساحر فجأة ونظر إلى عمر مباشرة فجأة عين عمر لي عين المشعوذ، فخفق قلبه وكأنه هبط من بين اضلاعه، كان المشعوذ أعور العين بشكل مخيف، مجعد الوجه وجلده طري متدلي.

همهم قليلا ثم قال: همم أنت صاحب الكتاب أيها الفتى.

أجاب عمر بصوته المرتجف ونبرته الخائفة: أاا_ أجل لقد وجدته مرميا في أحد الأزقة.

تبسم المشعوذ بخبث وفي صوته مكر وقال: لا تكذب أيها الفتى، من أين سرقته!

تلعثم عمر ولم يعرف بماذا يجيب فتدخل زيد وقال: سرقناه من أحد التجار، هل هو ثمين؟

تراجع المشعوذ وقال: ليس وهو على هذه الحال.

لم يفهم زيد قصد ذلك الرجل فسأله: ومتى يكون كذلك إذا؟!

أجابه المشعوذ بقوله: حين يمتلئ ما بين جلدتيه ذهباً ودماً

رد عليه زيد بنبرة فيها ازدراء: لسنا هنا لتقديم القرابين يا هذا، جئناك نرى إن كنت تعرف شيئا عنه فقط.

قهقه المشعوذ بضحكة الشريرة تلك وقال: لا احد يخرج من بيتي دون أن يقدم قربان أعواني!

كان عمر خائفا جدا إلى درجة أنه تجمد في مكانه وتصلبت قدماه على عكس زيد الذي يملك أعصابه جيدة وهادئة، دون أن يسمح لذلك المشعوذ من التلاعب به.

عاد زيد ليسأل عن الكتاب فقال: لم تقل، ما هذا الكتاب؟
أرد المشعوذ خداعهما فقال: إنه كتاب خاص بالجن والعفاريت، ولا شأن لكما به، سوف اخذه انا.

بدا الإستياء واضحاً على زيد، ثم قال له: ليس للبيع، هات الكتاب
كان المشعوذ يحاول زرع الرعب في قلبيهما حين قال: سأدعكما تخرجان حيين و سأعتبر هذا الكتاب الجميل قرباناً تقدمينه.

مد عمر يده إلى المشعوذ وقال: أعطني كتابي أنا أريده

حرك المشعوذ يده من أسفل العبائة وبلمح البصر أخرج سكيناً ضخمةً من أسفل العباءة يريد ضرب عمر، لكن زيد كان متيقظاً لمثل هذا فأمسك بيده خنجره ورمى به ليصيب كتف المشعوذ.

سقطت السكين من يد المشعوذ وبدأ يصرخ بشكل غريب ومخيف وبدى وكأن المنزل سينهار على من فيه.

انقض زيد على الكتاب وأمسك به من أمام المشعوذ ونهض ورفع قدمه إلى الخلف وركل بها وجه المشعوذ فرماه أرضا وملأ له فمه دماً.

علا نواح المشعوذ وصراخه فخرج زيد من الغرفة بعد أن ركل ذلك القدر الذي فيه الجمر ليسقط على الأرض.

ما إن خرج الشابان من الغرفة حتى بدأ الدخان يصعد من النوافذ، اشتعل ذلك المنزل وبدأ بالاحتراق، وعلى ما يبدو أن المشعوذ لم يتمكن من الخروج ولقي حتفه داخل تلك الجدران المقيتة.

مضى زيد وعمر مبتعدين عن المكان وتوجها إلى حانوت العم يوسف، أما منزل المشعوذ فقد كان صراخ الرجل يمنع أي أحد من الاقتراب خوفا منه من أي سوء قد يصيب أحدهم.

كان معروفا في المدينة بشره وخطورته وانتشرت حوله الشائعات والخرافات إلى أن أصبح الناس يتحاشون الاقتراب خوفاً منه.

دخل الشابان إلى الحانوت وقد بدى على وجه عمر أنه خائف بعد ان تحول للون الأصفر الشاحب.

استغرب يوسف من رجوعهما فسال: أراكما قد عدتما!

جلس زيد على كرسي قريب ثم قال له: لقد حصلنا على مبتغانا يا عم.

سأله يوسف لعله يفهم ما الذي قصده: اتعني انكما حللتما لغز الكتاب!؟

اغلق زيد عينيه قليلاً وهو يقول: تقريبا؛ يبدو أنه كتاب سحري وله قيمة كبيرة عند السحرة!

سأل يوسف: ولماذا لا يعمل ويعيد عمر إلى زمنه؟.

أخبر زيد صديقه بما قاله لهم ذلك الرجل : المشعوذ قال قولة لفتت نظري قال (يجب ان يملأ بالدم والذهب)

يوسف متسائلاً: قرابين؟

أومأ زيد رأسه: هذا ما يبدو عليه الأمر.

اقترح يوسف بشيء لعله يجد معهما: اترك الكتاب عندي الليلة أريد أن القي عليه نظرة ثانية اليوم.

وافق زيد على ذلك الطلب: حسنا كما تريد يا عم، على كل حال انا لدي عمل مهم الليلة.

نظر يوسف إلى عمر مستنكرا وقال: وأنت ما بك يا عمر؟ أراك شاحب الوجه لا حياة في وجهك ما الذي فعل بك هذا؟

قال عمر محاولاً أخفاء ما شعر به قائلاً: لا شيء يا عم ربما انت تتوهم

قال زيد بسخرية وهو يضحك: لا يوسف لا يتوهم، يبدو انك خائف من ذلك المشعوذ الغبي.

أنكر عمر ما حدث به زيد وقال : لا ليس الامر هكذا، لكنني لست معتادا على هذه الأمور يا زيد

ضحك زيد وهو يربت على ظهر عمر وقال: لا بأس عليك ستعتاد على هذا الأمر في الأيام القليلة المقبلة.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي