12

خرجت قمر بعد أن كادت تبكي بسبب تصرفات والدتها فما كان ظناً البارحة صار اليوم حقيقة! إنها حقا لا تنوي الموافقة على ذلك الزواج.

بل وتريد أن تبعدهما عن بعضهما البعض، مسحت قمر دموعها بطرف كمها وأكملت سيرها في ذلك الطريق الترابي الجميل، حيث أشجار الجوز الضخمة المليئة بثمار والصفصاف تخيمان على جانبي الطريق.

ونسيم الصباح العليل يعبث بالأوراق عازفاً لحناً من الجمال تتراقص له سنابل القمح الخضراء على طول الطريق، ابتهجت قمر بعد رؤيتها لذلك المنظر الجميل.

وتناست تعنت والدتها موقنة أن من كان له شيء في هذه الدنيا فلن يموت حتى يحصل عليه تماماً كما كان مقدراً له.

أكملت سيرها وأشعة شمس الصباح تخترق قبعتها المصنوعة من القش محاولةً التسلل إلى وجنتيها، بينما كانت عيناها تراقب تلك الجبال الخضراء الساحرة

كأنها كسور جميل يحيط بالقرية، إنها الطبيعة الخلابة في تلك البلاد ولا يمكن لبشر أن يراها دون أن يناله شيء من سحرها وتأسر قلبه.

بينما كانت تسير إذ تصادفت بذات الفتاة تلك التي تعمل خادمة لدى سيدها هاشم الجشع رأتها تسير امامها ببضعة خطوات فنادتها قمر ملوحة بيدها: هناااء! انتظريني.

التفتت هناء إلى الخلف لترى من يناديها ممسكة بخصلة شعرها الساقطة على عينها اليمنى لتردها إلى الخلف، رأت قمر تمشي خلفها فشعرت بالسعادة لرؤيتها وتوقفت لتنتظر وصولها.

بدأت قمر بالكلام بسعادة غامرة وقالت: صباح الخير، كيف حالك يا هناء
هناء ينبرة لطيفة ردت عليها: اهلا ومرحبا بقمر، الحمد لله بخير، كيف حالك انت؟
قمر بذات الطريقة ردت هي: الحمد لله بخير.

قالت هناء مستغربة: أراك قد خرجت باكراً اليوم
أجابت قمر وهي تعاود المشي بجانب صديقتها على مهل: قلت في نفسي أن اتمشى بين الحقول قليلاً قبل العمل؛ الجو جميل اليوم.

أمسكت هناء بيد قمر وقالت: أنت على حق الجو رائع، هيا تعالي أعرف أحد البساتين الجميلة المليئة بالفواكه سأدلك عليه.

مضت الفتاتان بين الحقول متجهتين إلى حقل خالد حيث كان هو واقفاً عند أوله منتظراً قدوم قمر التي ستكون زوجته بعد عدة أيام.

فقد أمضى ليلة البارحة بطولها وهو يفكر فيها ويعيد تجميع ملامح وجهها في مخيلته مستأنساً بما بقي من نبرة صوتها العذب في مسامعه وبقي يستحضر قسمات وجهها الخجول حتى الصباح.

رأى خالد الفتاتين قادمتين من بعيد، فاشرأب فرحا وتظاهر بأنه يعمل ريثما تصلان إليه، أما قمر فقد سرق لها انتباهها وهي تراقبه من بعيد قبل أن تتضح ملامحه جيدا بعد.

ظلت تراقبه وهي تخفي عينيها أسفل قبعتها المصنوعة من القش حتى وصلت إليه، ألقت عليه التحية وأكملت طريقها نحو الداخل.

رد خالد التحية ولحق بهما ليخبرهم بمهام اليوم في الحقل، حاول خالد هذه المرة التفريق بين الفتاتين ليستفرد بقمر قليلاً على هدوء وأختار لكل واحدةٍ منهن عملاً بعيداً عن الأخرى.

وقف على بعد بضعة خطوات وتنحنح ليعلمها بحضوره، فرفعت هي ظهرها واعتدلت بعد أن كانت تقتلع بعض الأعشاب الضارة من بين المزروعات.

ليبدء خالد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أعانك الله
ردت قمر بصوت خجول: وعليك السلام ورحمة الله، سلمك الله.

حاول خالد إيجاد أفضل عبارة يسأل بها فقال محتاراً: اممم كنت اريد ان اسألك فقط؛ هل تكلم معك والدك البارحة في شأن ما!؟

ظهر الخجل جليا على وجهها وقالت: امم أجل لقد اخبرني.

أجاب خالد بدهشة وقد ارتفع حاجباه: حقا!_ وما هو ردك على عرضي!

لم تستطع قمر الرد على ذلك السؤال واكتفت بصمتها الذي جعل قلبها يخفق ووجهها يشتعل من شدة الخجل.

علم خالد أنها تشعر بالخجل فأراد أن يريحها وقال: السكوت علامة الرضا، أليس كذلك!

لتجيب قمر وقد رمشت أجفانها وخفق قلبها بصعوبة: اه أجل.

كاد خالد ان يطير من شدة الفرح بعد أن سمع ذلك وتمنى لو يستطيع فيقبل عليها ليعانقها ولكنه أمسك نفسه بالكاد ليبقى مكانه.

تذكر أمراً أخر فسأل: ووالدتك! هل وافقت!؟

هنا عاد القلق إلى قمر لتجيب بصوت حزين: بصراحة لا أعلم ولكن يبدو أن هذا الزواج لم يرق لها كثيراً.

تعجب خالد مما قالته قمر وسأل مستنكراً: ولما ذاك؟! هل هناك خطب فيّ!؟

سارعت قمر قائلةً تنفي ما دار في رأسه: لا لا ليس الأمر هكذا ولكن_

ليتسائل خالد مجدداً: ولكن ماذا؟!

قمر بصوت حزين قلق: إنها والدتي، هي صعبة المراس قليلاً ولكني أظنها لن تمانع الأمر.

توجس خالد بعد سماع ذلك الخبر السيء وقال: لست مطمئنا لهذا، يجب أن أفعل أمراً ما يجعلها تقتنع بي!

قالت له قمر بنبرة فيها حيرة: لا أدري؛ لربما كان من الأفضل أن نترك الأمر للقدر، اليس كذلك؟

خالد: يقلقني ردة فعل والدتك، ولكن الحل بيدك أنت
قمر متسائلة: ما الذي تعنيه؟

أوضح خالد ما قاله: أقصد أنك أعلم الناس بها، ويفترض أن تبحثي عن السبب الذي يجعلها تتوقف عن القبول لنقوم نحن بدورنا ونتخلص منه.

لم تستطع قمر ان تخبر خالد بما قالته والدتها عنه وكيف تفكر هي في هذه الأمور، اكتفت بهز رأسها ملمحة بأنها ستعمل على ذلك.

خالد وهو يحاول أن يخبر قمر بما يرغب فقال لها: اسمعي أنا لا أريد ان تعملي وخاصة إن اصبحت زوجتي ولكن أحب أن أراك كل يوم لذلك، يجب أن تحصلي على موافقة والدتك في أسرع وقت اتفقنا!

لتظهر تلك النبرة المتشائمة على قمر وهي تقول: على رسلك يا خالد، نحن حتى الأن لم يحدث أي شيء رسمي بيننا.

قال خالد بحزم ومنهياً الجدال: وإن كان، منذ ان رأيتك أول مرة علمت أنك لست من اللواتي قضين أعمارهن في العمل.

كانت قمر تهز برائسها موافقة على كل حرف يقوله خالد ثم أردف قائلاً: ولا اريد ان تفعلي ذلك، ولهذا يمكنك الجلوس أو فعل شيء مريح بالنسبة لك، ريثما يتم الأمر ونجتمع في منزل واحد.

عموماً سأقترح هذا في زيارتي القادمة لكم وأري والدتك أنني قادر على تأمين حياة كريمة لك.

ذهب خالد وبقيت عبارته الاخيرة تتكرر في مخيلة قمر "بيت واحد!" أحقا سيحدث هذا! هذا ما تحلم به قمر وتتمناه

لقد ملك خالد قلبها بأسرع مما كانت تتخيل، ربما لإنها لم تعجب بغيره ولم يخفق قلبها لأحد قبله، أو ربما لأنه آتى من الطريق الذي تتمناه كل فتاة ويجعلها تفتخر امام الناس.

مرت ساعات العمل على عجل في ذلك اليوم وعادت قمر إلى منزلها، هناك حيث تنتظرها والدتها التي أمضت النهار بطوله تفكر في طريقة تفسد ذلك الزواج السيئ.

عادت قمر إلى المنزل بعد يوم حافل مليء بمراقبة ملامح وجه حبيب قلبها وعشيق روحها، دخلت إلى المنزل لتجده هادئا كأنه قد خلا من أهله.

دخلت إلى غرفتها مباشرةً وبدلت ثيابها بعد أن اغتسلت ومن ثم مشطت شعرها، دخلت هند إلى غرفة ابنتها فوجدتها تمسك بتلك المرأة الصغيرة في يدها وفي يدها الاخرى: مشطها الخشبي تمشط شعرها الحريري به.

التفتت قمر إلى والدتها بامتعاظ وقالت: أمي؟ اين كنت لقد ظننتك خارج المنزل!
لتجيب هند بجفاف وجفوة: كنت نائمة قليلا، أخبريني كيف كان عملك اليوم؟ هل أزعجك ذلك الشاب؟!

لتجيب قمر لامباليةً: كان يوماً عادياً كغيره طبعاً
تأملت هند ابنتها بانزعج خفي وقالت: وتتحذلقين أيضاً، يا لك من فتاة برة بوالدتها.

ثم أردفت قائلةً: وخالد، ألم يكلمك بشأن الزواج!؟
تركت قمر تمشيط شعرها وقالت بعد أن تنهدت: اكتفى بالسؤال عن ردنا وقلت أننا لانزال ننتظر موافقتك يا أمي.

همهمت هند وخرجت من الغرفة منزعجةً وذهبت لتجلس على سريرها وقد شبكت أصابعها تحاول أن تجد ما يمكن أن يبعد خالد عن ابنتها.

أما مأمون فقد كان خارج المنزل يعمل في إشعال السرج في شوارع القرية ومعه ابنتاه ترافقانه "حور واختها نور"

عاد إلى منزله في أول الليل ليجد هو الأخر منزله هادئا كأنه لا أحد فيه، بحث عن هند فلم يجدها وأرسل نور لترى إن كانت قمر قد عادت، فوجدتها نائمة في غرفتها.

عادت البنت لتخبر والدها بذلك فجلس مأمون في الصالة ينتظر عودة هند من الخارج، وبعد قرابة الساعة عادت هند وقد كانت خارج المنزل،

لم تتخطى العتبة حتى ناداها زوجها فذهبت إليه.

كان مأمون جالساً على الأريكة يحدق في السقف وهو يحاول السيطرة على أعصابه ففالت بنبرة هادئة تخفي ورائها بركاناً مشتعلاً غضبا: أين كنت يا هند؟

أجابت هند مرتبكة قليلاً: مأمون أنت هنا!

أشار مأمون بيده لتكمل هند دون أن يسمح لها بالتهرب من الجواب فابتلعت ريقها بصعوبة وقالت: لقد كنت_ كنت عند إحدى جاراتنا، لماذا هل هناك شيء؟!

أجاب مأمون متصنعاً: لا ولكنني لقيت خالداً في الطريق وسألني عن ردنا واخبرته اننا موافقون.

تبدل ارتباكها إلى غضب وقالت في لحظة تحول: كيف قلت! من قال أنني موافقة على ذلك البستاني!؟

نهض مأمون غاضبا ووقف امام زوجته وصرخ بعد أن تلاشى هدوئه المزيف أمام بركان غضبه العارم كخيط عنكبوت: لا أمر يعلو على أمري في هذا المنزل يا هند! التزمي حدك قبل أن ألزمك اياه انا بتطريقتي هل تفهمين!

لزمت هند الصمت بعد أن سكنها الخوف من مأمون وقد بدى غيظها وكرهها، أكمل مأمون قائلا: سيأتي خالد الأسبوع المقبل وسنبدأ في إعداد مراسم الزفاف، استعد لذلك جيداً، وإياك وأن تفكري في حركة خبيثة من حركاتك تلك..

استدار مأمون غاضبا وتوجه إلى غرفته بينما بقيت هند في مكانها ترتعش من شدة الغضب والحنق تتوعد لذلك الزواج وقد نوت أن لا تدعه يتم ولو على جثتها.


مضى الأسبوع ذاك على عجل وتوقفت قمر عن الذهاب للعمل تحضيراً لزواجها والشوق لا يترك لها عيناً تغفو منتظرة قدوم يوم خطبتها، أما هند فقد قامت بما عليها وأراحت ضميرها الذي يفيض شراً.

حيث ذهبت إلى إحدى جارتها ودفعت لها بعض الدراهم لتلبي لها طلبها، حملت تلك المرأة ما حدثتها به هند وذهبت إلى حقل خالد.

وقفت ببابه متظاهرة أنها إحدى المتسولين تطلب المعونة منه، سمع خالد صوتها عند أول حقله فخرج إليها يرى ماذا تريد.

ومعروف عنه الشهامة والكرم بين كل أهل القرية وقد علم أنها تطلب ما يساعدها على العيش فحمل إليها ما استطاع من الثمار مصحوباً ببعض الدراهم، فقبلت منه وأخذت تدعو له بالخير والعوض والبنين والصلاح.

رأى خالد عليها علامات الصلاح فطلب منها أن تدعو له بالتوفيق بالزواج، فرفعت يدها إلى السماء وبدأت تدعو وهنا كان دورها.

يتبع
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي