10

قبل عام من الزمن

كانت قمر قد بلغت التاسعة عشر من العمر وهو العمر الذي يجعل من أي فتاة في المدينة جاهزة لتكون زوجة لأحد الشباب.

كانت هند في ذلك الوقت تسعى جاهدةً في تزويج ابنتها لأكثر الشباب ثرائاً وسلطة في المدينة، فقد كان هذا هو المعيار لدى هند في قبول الزوج المتقدم لابنته أو رفضه ولا يعنيها أي شيء آخر.

وبعد كثير من الشباب الذين تقدموا في طلب قمر لزواج، وكانت جميع طلبات الزواج المرفوضة من قبل هند توقف الشباب عن التقدم للزواج من قمر، وأصبحت في نظر الجميع فتاة لا تسعى للزواج إنما تريد البقاء بدون رجل في حياتها.

وكانت قمر كحال غيرها من الفتيات تحلم ببناء أسرة صغيرة لها من زوج عطوف يحبها ويدللها وأبناء يزينون حياتها.

أصيبت قمر باليأس بسبب تعنت والدتها ورفضها لكل من تقدم للزواج بها، وتحول الحلم إلى كابوس مزعج بالنسبة لقمر يؤارق خاطرها.

أما هند فقد كانت ترى أن بقاء قمر في منزل أهلها خير من أن تتزوج برجل فقير كما فعلت هند عندما تزوجت بمأمون وظنت بأن حاله قد يتغير مع مرور الزمن.

لم تكن هند تبوح بهذا الرأي علناً خوفاً وحرصاً على مشاعر مأمون ولكنها كانت لطالما تلمح لهذا الأمر وهو كان يشعر بذلك، وفي أحد الأيام حصل مالم تكن تتوقعه قمر.

كانت تعمل في أحد الحقول المجاورة مع بعض الفتيات في الزراعة كي تساعد عائلتها في مصاريف البيت والمستلزمات وكان مالك الحقل شاباً يافعا في الثلاثين من عمره، لم تكن قمر قد رأته عن قرب ولكن هذا كل ما تعرفه عنه سمعته من الفتيات الآتي يعملنا معها.

وكانت قد أنهت أسبوعها الأول في العمل لديه وحان وقت استلامها أجرتها، جلست مع باقي الفتيات تحت ظل شجرة كبيرة في الحقل ينتظرن وصول الشاب من أجل أخذ مالهن قبل الانصراف والعودة إلى بيوتهن.

كانت الفتيات كلهن معجبات بذلك الشاب ولا حديث لهن أثناء العمل سواه، كيف يمشي، كيف يتكلم، هامته الممشوقة، وجسمه القوي الضخم، عضلاته المفتولة إلى غير ذلك من ما كان يشد انتباه الفتيات و يلفت نظرهن، سلب البابهن.


وصل الشاب إلى المكان وجلس في كوخه المصنوع من القش يقوم بتقسيم الغلة على الفتيات وبعد قليل من الوقت نادى على الفتيات كي يأتين ويأخذن أجورهن.

بدأت الفتيات تتوافدن إليه تباعاً واحدة تلو الأخرى حتى وصل الصف إلى نهايته وكانت قمر هي الاخيرة، وقد كان يبدو عليها أنها لم تعمل من قبل.

ولا زالت محافظة على رقتها وجمالها ولم يفسد ذلك العمل تحت أشعة الشمس لساعات طويلة، مدت يدها البيضاء الرقيقة لتأخذ المال من يد ذلك الشاب.

لاحظ هو يدها الرقيقة وقد أرتسمت عروقها أسفل جلدها الشفاف من شدة بياضه، وضع المال ورفع رأسه ينظر في وجهها الملثم بذلك الوشاح الذي لفته على وجهه كي تحفظه من الحرارة

لم يتمكن من رؤية وجهها بالكامل، إلا أنه حظي بنظرة قريبة لعينيها الواسعتين وقد كانتا تبدوان براقتان تجذبان نظر أي رجل لهما قد يراهما.

تناولت قمر النقود وعادت لتستقيم واقفة وتخرج من كوخ القش، تنحنح الشاب وقال وهو يناديها: يا آنسة!

توقفت قمر ونظرت إليه لترى ماذا يريد.

نهض الشاب من مكانه واقترب منها قائلاً: هل ستأتين في الأسبوع المقبل؟!

توقفت قمر للحظات واجابته بالقبول ثم خرجت من الكوخ، وما إن خطت في الخارج حتى كادت تقع متعثرة بإحدى الفتيات!

نظرت قمر إلى الآسفل وقالت متعجبة: ما الذي تفعلينه يا فتاة!

رفعت تلك الفتاة رأسها إلى الأعلى وهي تجلس القرفصاء وقالت: آسفة أضعت اجرتي وأنا أبحث عنها.

انحنت قمر إلى الأسفل تساعد الفتاة في البحث عن نقودها ولكن لم تفلح فقد غارت النقود في التراب وبين الحشائش على الأغلب.

كانت فتاة صغيرة في مثل سن نور أخت قمر الصغرى، لم تستطع ان تتمالك نفسها فجلست على الارض، وبدأت دموعها تنزل حزنا على أجرتها التي ضاعت وضاع تعبها كله أيضاً.

اقتربت قمر منها وامسكت يدها تساعدها بالنهوض من على الأرض وجعلت تواسيها كي تهدأ قليلاً.

قمر بنبرة لطيفة قالت: كفي عن البكاء يا صغيرتي، أنا متأكدة من أننا سنجد نقودك، لم يذهبوا بعيداً بتأكيد سنعثر عليهم

ردت الفتاة وهي تبكي محاولة كفكفة دموعها قائلة: أنت لا تعلمين ما سوف يفعل هاشم بي إن علم بالأمر!

قمر مخففة عن الفتاة بقولها: مهما يكن، البكاء لن يعيد لك مالك يا صغيرتي اهدئي قليلاً!

حاولت الفتاة الكف عن البكاء وهي تشهق وتعتصر مقلتيها وتمسح الدموع من وجنتيها الحمراوتين، سمع صاحب الحقل بعض الجلبة خارج الكوخ فخرج ليرى ما الأمر.

نظر فوجد ذات الفتاة "قمر" تقف وقد ضمت فتاة صغيرة إلى صدرها تواسيها قليلا، تعجب الشاب من ذلك المنظر واقترب، "ماذا هناك!" لعله يفهم ما الأمر وماذا حدث.

التفتت قمر إليه وقالت: الفتاة تقول أنها أضاعت مرتبها!

اقترب الشاب يحاول أن يبحث للفتاة عن ما أضاعته، ولكنه لم يفلح هو الآخر فما كان من قمر إلا أن أخرجت مرتبها واقتسمه مع تلك الفتاة علها تساعدها قليلا.

أعجب الشاب بعمل قمر وشكر لها ما فعلته في سبيل إسعاد تلك الصغيرة، وكتعبير منه عن إعجابه قام بتعويضها وأعاد لها راتبها كاملاً، أما تلك الفتاة المسكينة فقد ذهبت وهي تحاول أن تجد عذراً لها كي تشرح لسيدها عن سبب إضاعة المال.

مضت قمر في طريقها عائدة إلى منزلها وانقضى ذلك اليوم على الرغم من أنها بقيت طيلة اليوم تفكر في تلك الفتاة والشاب ايضاً على حد سواء، دون ان يخرجوا من رأسها


في اليوم التالي خرجت قمر منذ الصباح الباكر لتعمل في الحقل المجاور لمنزلها، وهي في الطريق التقت عن طريق الصدفة بذات الفتاة التي أضاعت نقودها في يوم أمس.

ترافقت الفتاتان في طريقهما إلى العمل تتبادلان الاحاديث، لاحظت قمر أثار صفعة أو ما شابه ذلك على وجه تلك الفتاة، فعلمت أنه على الأغلب قد حصل لها مشكلة ما بعد ما فقدت مالها في الأمس.

بدأت قمر في السؤال: لم تخبريني ما اسمك؟
ردت الفتاة ببتسامة لطيفة: اسمي هناء
قمر وهي تحاول بدأ حديث قالت: اسم جميل، لم تخبريني ماذا حصل معك البارحة بعد أن عدتِ إلى المنزل؟!

هناء بصوت حزين مرتعش: في الحقيقة حدث ما كنت أخشاه
قمر وعلى وجهها من الأسى لما حل بتلك الفتاة قالت لها: يبدو على وجهك آثار الضرب!

ظهر الحزن على وجه هناء بعد أن مدت يدها على خدها تتحسس أثر الضربة.

ربتت قمر على كتفها وقالت: هل انت بخير يا هناء!
هناء والحزن يعتصر قلبها قالت: لقد ضربني هاشم البارحة ولم يصدق أن النقود ضاعت مني واتهمني بالسرقة أيضاً.

قمر مستنكرة ما سمعته سألتها: ومن هو هاشم ذاك! اخ لك؟
هناء والدموع أغرق مقلتيها: لا، إنه مالكي؛ لقد اشتراني من تاجر عبيد قبل فترة، واعيش عنده ويجعلني أعمل في الحقول والمزارع.

بنبرة فيها اسف سالتها قمر :إذاً أنت لا أهل لك!
هناء بصوتها المرتجف: كان لي ولكنهم توفوا في الحرب قبل عام تقريباً وقام أحد التجار بخطفي رغماً عني.

شعرت قمر بالحسرة على حال هناء، فقالت لها: ااه يا لك من فتاة مسكينة يا هناء، أعلم بأن لكل أمرء من اسمه نصيب لكن، أنت على عكس أسمك لا تملكين من الهناء شيئاً!
تمالكت هناء نفسها وسألتها: وأنت هل تعيشين مع اهلك؟

أومأت قمر وقالت: أجل أنا أعمل لكي أساعد أبي.
هناء: من الجيد أن تفعلي ذلك، ثم أنك لن تجدي أحداً كخالد؛ إنه من خيرة أصحاب الحقول في القرية ويتعامل مع عماله برحمة وحق على عكس أغلب الأغنياء هنا.

اكملت الفتاتان كلامهما حتى وصلتا إلى الحقل حيث كان خالد يجلس في كوخه منتظراً وصول الفتيات ليبدأ العمل لهذا اليوم، كان خالد شارد الذهن قليلاً يحدق في الفراغ دون أن يدري ما الذي حدث له.

منذ أن رأى تلك العينان وهو شارد الذهن لا تغادران مخيلته منذ البارحة، سمع خالد ذلك الصوت من الخارج، فهب منتصب القامة وخرج من الكوخ.

رأى أمامه قمر وهناء تقفان عند باب الكوخ.

كان خالد متفاجأ بذلك فقال: قمر! أهلاً أهلاً_ لقد اتيتِ بأمر اليوم!
أجابته قمر : لقد وصلت أنا وهناء قبل قليل.
كان خالد يشعر بالسعادة فقال: أهلاً ومرحباً بكما، تفضلن بالجلوس ريثما أحضر لكن أكواب الشاي.

جلست الفتاتان بجانب حوض أرهار الزنبق الأبيض ريثما يعود خالد معه أكواب الشاي بانتظار وصول بقية الفتيات للعمل.

كان الشابان يسترقان النظر لبعضهما دون أن يلاحظ أحدهما الأخر، جلس خالد في كوخه ينظر لقمر ويتأمل وجهها المدور كالبدر وقد أزاحت اللثام عن وجهها كي تشرب الشاي.

مرت الأيام وقمر تعمل في حقل خالد، يوماً بعد يوم إلى ان زاد إعجاب خالد بقمر وقرر.

انتهى الأسبوع الثالث من عمل قمر في حقل خالد، في ذلك اليوم وعند غروب شمسه، قرر خالد أن يتبع السبيل الصحيح، وحزم أمره وركب على صهوة حصانه متوجهاً إلى منزل قمر.

طرق الباب ووقف منتظراً أن يفتح له، فتح الباب وقد كان واقفاً على جنب الباب ينظر نحو الطريق، سمع صوت صرير الباب وهو يفتح فالتفت.

رأى أمامه تلك الفتاة الجميلة تقف وقد ظهر وجهها أمامه كاملا لأول مرة كأنه بدر التمام.


توسعت عينا قمر عند رؤيته فقالت: خالد!
خالد خجلاً : السلام عليكم، كيف حالك يا قمر
قمر والدهشة لم تكن قد فارقت وجهها: أهلاً_ وعليكم السلام ورحمة الله، هل هناك خطب ما؟!

تلعثم خالد ولم يكن يجد ما يقوله: لا ليس هناك شيء؛ ولكنني أريد أن أتكلم مع والدك، هل والدك هنا؟!
أومأت قمر رأسها ثم قالت: إنه في الداخل، انتظر حتى اناديه لك.

دخلت قمر إلى المنزل مسرعة ونادت على والدها كي يأتي ويرى ماذا هناك، عاد مأمون وابنته تلحق به ووقفت خلف الباب تتنصت عليهما.

مد خالد يده وصافح السيد مأمون بحرارة، أما مأمون فقد جذبه من يده وادخله معه إلى المنزل متجها نحو غرفة استقبال الضيوف.

لحقت قمر بهما تحاول معرفة سبب مجيء خالد إلى منزلها، في الغرفة وخلف الباب المغلق جلس خالد ومأمون يتحدثون بصوت خافت.

قال مأمون مرحباً به: قد نورت منزلنا يا خالد أهلاً بك.
خالد: حياك الله يا عم؛ في الحقيقة انا أتيت اليكم في طلب أرجو أن لا تردني خائباً.

مأمون رافعاً أحد حاجبيه: أن شاء الله طلبك مجاب يا خالد تفضل، أرجو أن لا تكون قمر قد تسببت بمشكلة ما!

سارع خالد بقوله: لا على العكس من ذلك، في الحقيقة ابنتكم قمر مهذبة ومؤدبة بشكل كبير.

وأنا قد نويت أن اسلك الدرب الصحيح وقد اعجبت بقمر وأتيت إلى منزلكم طالبا يد كريمتكم للزواج.

سمعت قمر الواقفة خلف الباب ذلك الكلام فخفق قلبها وشهقت وضعت يدها على فمها، ولم تدري ماذا تصنع فهبت مسرعة إلى غرفتها وأغلقت خلفها الباب.

أما مأمون فقد سر كثيرا بما سمع من خالد من مدح لابنته وأيضاً الطريقة التي يفكر فيها خالد.

أكمل الرجلان حديثهما وانتهت الزيارة بعد توافق بينهما على أن يأخذ مأمون الموافقة من قمر ووالدتها ومن ثم تبدأ الامور الخاصة بالزفاف.

يتبع
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي