16

تسائل هلال وهو يسند ظهره إلى الكرسي قائلاً: والآن اخبريني إلا تريدين الخروج في جولة معي حول المدينة!؟
هند وهي تجمع كفيها بالقرب منها: جولة؟

هز رأسه وقال لها هلال: أجل جولة ترفيهية قصيرة.

تذكرت هند أمر الفتيات حينها وأنهن في جولتهن التي قاربت على الانتهاء.

لاحظ هلال نظرة هند الشاردة بعيداً عنه فقال: هند! هل انت هنا! هند!

تنبهت هند وقالت: أجل أجل، بطبع هنا إلى أين عساي أن اذهب.

ملئ هلال كأس الشراب ومد يده نحوها قائلاً: أين سرحتي في خيالك!

هند بنبرة يملئها الارتباك: لا شيء تذكرت ان صديقتي في جولة أيضاً وقد اتفقنا على ان نلتقي بعد ساعة من الأن في ساحة المدينة.

ليجيب هلال متعجباً: وأين المشكلة عندما يحين الوقت سأرسل معك الخادم والعربة يوصلك أنت وصديقتك إلى المنازل.

لم تترك له مجال لعرض خدامته أكثر فقالت: شكراً لك يا هلال أنت كريم وشهم ولكن_

صمت هلال قليلاً ثم سألها: ولكن ماذا!؟

بنبرة فيها ارتباك وتلعثم قالت له مبررة: الأمر أن_ صديقتي اتت بالعربة الخاصة بزوجها ويجب أن أعود معها ايضا.

هز رأسه وقد بدا عليه من الحزن ما بدا بسبب ما قالته له هند، لكنه قال لها: فهمت الآن، لا تريدين مني أن أوصلك.

حاولت هند أن تبدد هذا التفكير عن رأس هلال فقالت له: لاااا ليس الأمر كذلك ولكنها صديقتي لا اريدها أن تحزن.

ببتسامة مصطنعة قال هلال: حسنا لا بأس لقد كنت متشوقاً لهذه الليلة ولكن يبدو أنها قد انتهت باكراً هذه المرة!

قالت له واعدة بتعويض عن الذي فاته: أعدك في المرة القادمة سنستمتع اكثر
سُر هلال بذلك الوعد وما أسعده أكثر كان اهتمام هند بما يشعر وما يدور داخل رأسه فقال لها: حسنا أنا بانتظار وعدك.

هزت هند برأسها ونهضت من على الطاولة، لم تكد تلتف عائدة حتى رأت الفتيات الثلاث وهن يقفن في وسط الساحة!

كاد قلبها يتوقف من الخوف ولم تدري ماذا تفعل فارتبكت، حاولت إخفاء ذلك كله ومضت مبتعدة عن الطاولة، خبأت عقدها في ملابسها ونزلت إلى حيث الفتيات.

كانت الفتيات الثلاث يقفن يستمعن لتلك الموشحات الجميلة والمغنية تقول:

"يا ليل الصب متى غده! أقيام الساعة موعده!
رقد السماء فأرقه حزن للبين يردده"

شدت تلك الابيات ماريا فهي سمعتها من قبل وتحفظ كامل الابيات أيضاً وهي من أجمل الأغاني التي تحبها، تحمست ووقفت بجانب المغنية تنشد معها باقي الابيات.

"نصبت عيناي له شركاً في النوم فعز تصيده"


التفت الجميع لصوت تلك الفتاة الغريبة وكان أعجابهم واضحاً بها وبصوتها وعلى صوت التصفيق الحار من كل اتجاه فانتبه هلال ثم ادلى برأسه ليرى ما الأمر.

رأى ما جعله يتعجب أكثر من صوت فتاة جميل.

نظر هلال متعجباً ليرى أعجب مما كان يظنه!

كانت هند في تلك اللحظة تسير ناحية بناتها اللاتي يقفن مذهولات وهن يستمعن لغناء ماريا، ذلك الغناء العذب والصوت الشجي، جعل كل من القاعة يلتفت إليها.

لم تدري هند من التي تغني في البداية فهمّت مسرعة لتمسك بيدي ابنتيها لكي تخرج بهما إلا أن نور أوقفت والدها مشيرة إلى خشبة المسرح قائلة "أمي انظري إلى ماريا إنها هناك!"

التفتت هند إلى المنصة فوجدت ماريا تقف بجانب تلك الغانية تنشد معها ابيات الشعر! تجمدت هند في مكانها وهي محتارة فيما عليها فعله.

توقفت الفتاتان في تلك اللحظة عن الغناء وعلى تصفيق الجمهور الحار يملأ القاعة، كان من بين المصفقين هلال!

ذاك الذي كانت عيناه تراقبان كل ما يجري، صديقته هند تقف برفقة فتاتين فاتنتين وتلك الغانية الجديدة التي لفتت أنظار كل من كان في الحفل!

بقي في مكانه يراقب ما ستفعله هند التي كانت مرتبكة أشد الارتباك فهي وعلى الرغم من جرئتها لم تكن مستعدة لدخول بناتها عليها فجأة إلى الحفل.

ولحسن حظها أنهن لم يرينها تجلس برفقة ذلك التاجر، تنفست الصعداء عندما علمت أن بناتها لم يلاحظن شيئا وأرادت أن تخرج بهن قبل أن يراها هلال.

أشارت هند بيدها لماريا كي تأتي إليها، لكن ماريا لم تستطع، كانت المغنية تمسكها من يدها تحيي بها الجمهور.

والمال يتساقط عليهما من كل اتجاه، كل يمسك بما لديه من دراهم ويرميها على الفتاتين، ولحسن حظ ماريا كانت ترتدي مثل ثياب أهل غرناطة فظنها الجميع منهم.

نزلت ماريا بعد كل ما حدث من على المنصة بعد أن نالت من الخجل ما الله به عليم بعد تلك القبلة التي نالت عليها من المغنية وجعلت وجنتيها تتوردان بشكل جنوني.

قبل أن تبتعد ماريا أمسكت تلك المغنية حفنة من المال بالقدر الذي استطاعت أن تحمله وألقت به في قبعة ماريا وحملتها إياهم كتعبير على امتنانها وشكرها.

هرولت ماريا إلى صديقاتها وأسرعن ليخرجن من القاعة بعد أن عاد كل شيء لما هو عليه قبل دخولهن، أما هلال فقد رأى كل شيء وعلم أن تلكم الفتيات هن على الأغلب بنات هند.

فقد كانت رغم كل ما تتصنعه من فتوة ورشاقة يبدو عليها الكبر في السن ولا يختلف رجلان بأنها امرأة ربما اربعينية أو أقل بقليل.

استمر بملاحقتها بعينيه حتى عبرت الباب، في الخارج وبعيداً عن الضوضاء وقفت الفتيات الثلاث برفقة هند التي كانت مرتبكة لا تدري من أين ستبدأ بالكلام.

بادرت نور الاصغر بين اخوتها بالكلام وقالت متعجبة: أمي! ألهذا المكان تأتين في كل ليلة!

ظهر الارتباك جلياً على هند وقالت متلعثمة: أنا! اجل_ اجل أنا اتي إلى هنا برفقة بعض نساء القرية للتمتع قليلاً.

وبكل عفويةٍ وبرائة قالت نور لها : المكان جميل ومعفم بالنشاط، لم لا نأتي معك في كل مرة!
حاولت هند إنهاء الكلام بأسرع وقت فقالت: أنا أحب أن تأتين ولكن والدكن هو من يمانع.

تسائلت حور مستغربةً: أمي؟ أين هن صديقاتك لما لسن معك؟!

شعرت هند بالارتباك وجعلت تعيد خلات شعرها لمكانهن واجابت: إنهن_ لقد_ لقد بقين في الداخل لم تنتهي السهرة بعد.

قالت لها ماريا بنبرة بريئة: يبدو أننا قطعن عليك متعتك يا خالة! أليس كذلك؟
تبسمت هند باصطناع وزيف قائلةً: لااا لا أبداً وبالذات أنت، الم تري كيف أن كل من في القاعة رحب بك!

حدقت ماريا بالسقف عندما تذكرت أمراً وقالت: اه تذكرت! لقد أعطتني تلك المغنية بعض النقود انظرن!

أخرجت ماريا تلك القبعة لتريهن ما فيها من نقود وكانت كمية ضخمة ربما تساوي أجرة عامل لمدة شهر كامل!

حدقت الفتاتان بالنقود وكميتها فتعجبن أشد التعجب ونظرن في بعضهن أما هند فقد كانت تشعر بأشد الحسد من تلك الطفلة الصغيرة ماريا.

استطاعت في دقائق أن تجني ثروة لم تكن هند تتخيل ان تجنيها في شهر كامل حتى! وحتى مأمون يحتاج لأسابيع من العمل حتى يجني مبلغاً كهذا.

لتقول هند وهي تكتم غيظها وتتظاهر ببعض اللطف: أنه مبلغ جيد ويبدو أن ماريا تملك صوتاً جميلاً وأداءً تحسد عليه!

قالت ماريا بكل براءة: خالة هند! ما رأيك أن تحتفظي أنت بالمال أخشى أن يضيع مني.

تظاهرت هند بالامبالة وأخذت النقود لتضعهم في حقيبتها ومن ثم قادت معها الفتيات باحثة عن عربة تعيدهن إلى القرية.

توجهت الفتيات ومعهن هند إلى المنزل بعد أن قضين ليلة جميلة غريبة غير معهودة وخاصة لماريا، أما هند فقد كانت مشغولة البال تفكر في هل يا ترى رآها هلال أم لا.

وهلال الذي رأى تلك الفتاة وظنّها ابنة لهند بدأ يفكر في حيلة ما يبدل هند بإحدى تلك الفتيات وقد وقع بصره على الصغرى ماريا

نهض من مكانه وعاد إلى الغرفة التي يسكن فيها في احد فنادق غرناطة ليهجع إلى النوم حاله كحال مأمون الذي نام متعباً بعد أن انتظر عودة الفتيات طويلا ولم يأتين.

توسد ذراعه ونام على الاريكة منتظراً إياهن بينما كنّ على الطريق عائدات إلى المنزل، أما ماريا الصغيرة فلم تعر أي اهتمام لقصة الغناء والمال، وكان كل ما يشغل تفكيرها في ذلك الحين هو جمال المدينة وروعتها.

وصلت العربة إلى أمام المنزل وترجلت الفتيات منها، دخلن إلى المنزل وكل واحدة منهن تحكي للأخرى ما رأته وما جذب انتباهها.

دخلت هند إلى غرفتها على عجل بعد أن رأت زوجها نائماً على الأريكة، جلست على السرير وأخرجت ما بحوزتها من المال، رمتهم على السرير كي تعدهن.

خمسون، ستون، تسعون، مئة! مئة درهم! كانت تلك الكلمات تخرج من فمها همساً دون أن تصدق نفسها والذي تراه.

مئة درهم، هذا مبلغ ضخم لا يحلم به عشرة من رجال أهل القرية! أخرجت ذلك العقد من صدرها لتتفحصه، كان ذهبا خالصاً وعلى الاقل يساوي خمسين درهما ايضا.

شعرت هند لأول مرة بطعم الثراء وبدأت تفكر في كم ستكون حياتها أجمل إن استمرت على هذا النحو!

عمل مأمون في الشهر الواحد لم يكن يجني اكثر من عشرين أو ثلاثين درهماً فكيف إن أصبح كل يوم لدى هند مبلغ كهذا!

تجاهلت هند كل الضوابط والمبادئ ونسيت كل ما يمكن أن يمنعها عن ذلك، وجلست حتى الصباح تفكر في طريقة تستثمر ذلك.

أما الفتيات فقد انطفأن كما تنطفئ الشموع من شدة التعب، ونامت كل واحدة منهن كلمح البصر وبقيت قمر فقط تجلس في سريرها تقرأ في كتاب الشعر خاصتها وتؤنس ليلها.

في الصباح التالي استيقظ مأمون على صوت ابنته قمر وهي توقفظه لصلاة الفجر، احضرت له الماء وجعلت تساعده في الوضوء.

بعد قليل اشرقت الشمس فتتابعت العائلة تستيقظ فرداً فرداً، لم تطق نور الفتاة الصغرى صبراً فامسكت بيد ماريا وذهبت إلى والدها كي تروي له كل ما جرى في ليلة البارحة.

ومأمون يجلس مستمعاً لابنته باهتمام ويبدي لها التفاعل، وصلت نور إلى النقطة التي دخلت بها مع أختيها إلى الحفلة وبدأت تروي لوالدها كيف غنت ماريا في الحفل.

وحكت له عن ذلك الكم المهول من المال، الذي حصلت عليه ماريا لقاء غنائها بضعة أبيات فقط، شعر مأمون بالتعجب وأثنى على ماريا ومدحها على موهبتها.

تسأل عن المال الذي جنته ماريا فأجابته ابنته أن والدتها أخذتهم خشية الضياع، لم يرق لمأمون الأمر فأرسل نور تنادي على والدتها.

حضرت هند لترى ما الذي يريده مأمون فقام بسؤالها عن مال ماريا وبالفعل أقرت هند بأنها أخذتهم لكي تحفظهم لها.

هز مأمون برأسها محاولا تصديق ما تقوله زوجته وأمرها بأن تحضر المال، انصاعت لأمره مرغمة وذهبت إلى غرفتها، اغترفت بكفها بعض المال وعادت بهم إلى زوجها.

لم يلقي مأمون بالاً إلى الكم ولكنه قام بوضعهم في كيس قماشي صغير وأعادهم إلى ماريا حيث أنهم من حقها.

اغتاظت هند من فعل زوجها وحمدت ربها أنها لم تهطيه كامل المبلغ وأبقت لها قرابة النصف وربما قد يكون أكثر..
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي