21

جلست نور تحكي لقمر عما حصل معهن في ليلة البارحة وخاصة دخولهن لتلك القاعة الضخمة وغناء ماريا هناك وذلك الترحيب الحار الذي لقيته من الحضور.

وقمر تجلس مستمعة بكل اهتمام لما تقوله اختها عن ماريا، وقد كانت ماريا تتلون خجلا من قمر، ولما وصلت نور إلى الجزء الخاص بالنقود، اخرجت ماريا من جيبها كيسا مليئا بالنقود والقطع الذهبية.

دهشت قمر لرؤية ذلك الكم الكبير من المال واثنت على ماريا فعائلة قمر عائلة ريفية متواضعة لم تشاهد قمر هذا الكم الكبير من المال في منولهم قط.

سمع صوت طرق على الباب فهبت ماريا مسرعة لترى من الطارق، وعندما فتحت الباب وجدت العم مأمون قد عاد من عمله باكرا في ذلك اليوم.

سألها مأمون: لماذا تفتحين انت الباب يا ماريا؟ اين هن الفتيات؟

اجابت ماريا بكل برائة: الست واحدة من بناتك الان!

تبسم مأمون ووضع يده على شعرها يمسدها لها بحب ودخل ليلقي عن كتفه عدته الخاصة بالعمل، دخل مأمون ونظرات السعادة بادية في عينيه.

فلما رأى زوجته هند جالسة على الاريكة امامه فتبدلت بسمته إلى عبوس مجحف ودخل يكمل طريقه إلى الداخل.

لاحظت هند ان زوجها صار يعاملها بكل جفاء وحدة لكنها لم تتنازل ان تسترضيه او تسأله عن السبب، دخل مأمون إلى غرفته وارسل ماريا كي تنادي على قمر.

اتت قمر إلى والدها وامسكت يده تقبلها احتراما له، فاشار مأمون إلى قمر كي تجلس بجانبه.

التفت إليها وقال: هل حدثت امك بما قلته لك؟

لم تدري قمر ماذا تقول لوالدها، فهي لم تأخذ الجواب الشافي من امها بعد ولم ترى إن كانت ستعاود الذهاب ام لا.

نظر مأمون إلى ابنته وقال: ما بك؟ تكلمي مهما كان رأيها فقوليه.

تلعثمت قمر وقالت بنبرة مترددة: اممم في الحقيفة يا ابي، امي قالت انها لن تذهب اليوم ولكنها لازالت تفكر فيما اظن في الامر.

ضرب مأمون بيديه على فخذيه وقال متهكما: تفكر! وهل الامر يحتاج تفكيرا! تلك المرأة فقدت عقلها او ان احدا ما قد سحرها ولا شك!

كانت قمر تحاول التخفيف عن أبيها فقالت: هون عليك يا ابي ربما هي تفكر كيف ستعتذر من صديقاتها مثلا او ما شابه ذلك، هذا كل ما في الامر!

نهض مأمون من على السرير وقال وهو يخرج من الغرفة: فلتفكر ولتعلم انها إن ذهبت فلا عودة لها إلى هنا أبدا.

وخرج من الغرفة غاضبا يريد الوضوء لأجل الصلاة، اما قمر فقد ذهبت إلى المطبخ تعد لوالدها العشاء فقد اقترب اذان العشاء.

في تلك الاثناء كان هلال يقف عند باب الصالة منتظرا وصول هند هذه الليلة، انتظر وطال انتظاره ولكن احدا لم يأتي، فكر فيما يمكن ان يكون قد حدث لهند حتى امتنعت عن المجيء.

قال في نفسه متحيرا "لربما لا تريد ان تأتي وقد انكشف امر بناتها! او انها لم تجد عربة توصلها!

نهض هلال من على الكرسي ونادى على خادمه غاضبا: ايها الخادم! تعال إلى هنا.

اقبل الخادم مهرولا ليرى امر سيده، وقف امامه مطأطأً رأسه وقال: امر سيدي هلال!

هلال: اريد ان اسألك؛ كنت قد ارسلت معك امرأة قبل بضعة ايام لتوصلها إلى منزلها، فهل تعلم اين يقع ذاك المنزل؟!

أجاب الخادم سيده بالقول: إن لم يخب ظني فهي تسكن في قرية مجاورة للمدينة تدعى "ام الصنوبر" يا سيدي

شرد هلال في تفكيره قليلا ثم قال: والمنزل هل تعرفه وتحفظ مكانه؟

الخادم: اجل يا سيدي اعرفه جيدا.

أمر هلال خادمه وطلب منه قائلا: اسمع إذا احضر العربة إلى هنا اريدك ان توصلني إلى هناك هيا.

انحنى الخادم طوعا لأمر سيده وهب مسرعا ليحضر العربة، اما هلال فقد ابتاع بعض الاقمشة والعطور والحلويات وحملها معه، ثم صعد في العربة متجها إلى منزل هند.

كانت هند تجلس في الصالة خلف الباب وقد نوت ان لا تذهب إلى غرناطة مرة اخرى بدون ان تأخذ معها بنت من بناتها تبحث لها عن زوج يليق بها.


كانت العربة تسير من طلقة بين البساتين والحقول بعد ان خرجت من اسوار غرناطة قاطعة بذلك نصف الطريق، اما مأمون فقد صلى فرضه وذهب ليتناول طعام العشاء فلازال لديه عمل هذه الليلة.

بدأت الرياح في الهبوب وتتسبب احيانا في انطفاء السرج او وقوعها وقد تسبب حرائقاً فأصبح من المهم ان يخرج ليتفقد السرج في كل ليلة مرة او مرتين.

انهى تناول طعامه وخرج حاملا عصاه ليتجول بين المنازل، وكانت القرية كالعادة هادئة لا تخلو من بعض العربات التي تنقل النسوة من وإلى المدينة.

ذلك المنظر الذي لطالما ازعج مأمون وجعله يحس بأن القادم اسوء، فهو تفلت وانحلال من عادات وتقاليد قريته المحتشمة، وانزلاق نحو جو المدينة المنحل اخلاقيا.

كانت عربة هلال قد اقتربت من القرية وبدأت تسير في شوارعها بحثا عن منزل هند، وفجأة راى الخادم المنزل ذاته فاسرع بالحصان متجها إليه.

اوقف العربة والتفت إلى الخلف وقال: سيد هلال لقد وصلنا، ها هو المنزل يا سيدي.

بقي هلال في العربة وقال: اذهب إلى المنزل واطرق الباب واطلب هند واخبرها ان صديقة لها تنتظرها خارجاً.

نفذ الخادم امر سيده ووقف عند الباب يطرقه، كانت هند لاتزال في مكانها فنهضت وفتحت الباب ظانةً ان زوجها هو الطارق.

تفاجئت برؤية ذلك الشاب الأحدب الظهر، انها تعرفه وقد رأته مرة قبل الان، انه خادم هلال.

اطلت هند برأسها خارجاً فرأت العربة تقف بالقرب من المنزل، وعادت لتنظر إلى الداخل لتتأكد من ان لا احد يراقبها.

الخادم: هل السيدة هند موجودة؟!
اندهشت هند وقالت: انا هي ماذا تريد!؟
أومى الخادم وأضاف: هناك شخص ما يربد رؤيتك.

ظهرت علامات الارتباك على وجه هند واحمر وجهها وقالت: هل سيدك هلال هنا!

هز الخادم برأسه إلى الاعلى والاسفل مومئاً بنعم، ازداد قلق هند فهي تخشى ان يعود زوجها او يخرج احد من الداخل ويراها تقف مع الخادم.

على عجل قالت له هند: قل لسيدك انني قادمة امهلني لحظة.

انحنى الخادم وعاد إلى سيده يخبره وجلس هلال منتظرا وصول هند متشوقا.

خرجت هند من المنزل بعد ان اغلقت الباب خلفها ووضعت المفتاح معها وتوجهت إلى العربة والقلق يعتريها متوترة تحظث نفسها قائلة "يا إلهي ما الذي اتى به إلى هنا الأن!"

"ارجو ان لا يكون هناك مشاكل او شيء ما" طردت كل تلك الافكار من رأسها وهي تسير حتى وصلت إلى العربة وهي تأخذ شهيقا و زفيرا تحاول ان تهدء نفسها قليلا.

اصطنعت ابتسامة عريضة وامسكت بستارة العربة ونظرت إلى الداخل، كان هلال يجلس في العربة وينظر ناحية هند.

ارتبكت هند عندما رأته وقالت: هلال! أاا اهلا سيد هلال، اهلا ومرحباً.

تبسم هلال وقال: ما بك قد ارتبكت كانما رأيتِ شبحا يا هند؟

حاولت هند تبديد جو الارتباك فقالت وهي تضحك باصطناع: لا لا ابدا، ولكنني لم اتوقع رؤيتك هنا في هذا الوقت المتأخر.

ببتسامة مصطنعة قال لها هلال: لا بأس، اتيت لكي أطمئن عليك لقد قلقت عندما لم تأتي إلى الصالة اليوم، فقلت في نفسي اذهب وارى لماذا لم تأتي.


قالت هند وهي تحاول أخفاء رهبتها: لقد أنرت القرية بحضورك يا سيد هلاا، في الحقيقة ليس هناك ما يقلق ولكنني كنت مشغولة قليلا ولم اتمكن من الذهاب اليوم.

تظاهر هلال بأنه صدقها وقال: ان كان هذا ما في الامر فلا بأس إذا
هند محاولة أن تجد لنفسها طريقة للمغادرة: كنت اريد ان ادعوك للدخول ولكن انا مضطرة للإعتذار منك هذه المرة.

هلال: لا عليك انا لم اتي للدخول كنت اريد رؤيتك والاطمئنان عليك فقط، بالمناسبة احضرت لك هدية صغيرة ارجو ان تعجبك.

هند: انت تتعب نفسك يا سيد هلال ليس هناك داع للهدايا ارجوك.

التف هلال إلى جانبه واخرج تلك القماشة والملفوفة واعطاها لهند وهو يقول: ليس هناك شيء من قيمتك، انها قطعة من الحرير الطبيعي قلت في نفسي انها ستكون فستانا جميلا عليك.

تناولت هند الهدية والخجل يعتريها وهي تتبسم وتشكر هلال وهي تقول: حسنا لن اضيع وقتك بالوقوف هنا.

هلال: حسنا تصبحين على خير، ليلة سعيدة.

هزت هند برأسها وأومأت مبتعدة عن العربة لكن هلال امسك بيدها فجأة فتوقفت بعد ان خفق قلبها قفة كادت تسقطه من مكانه، التفتت إليه مرتبكة دون ان تتكلم.

نظر إلى يدها ثم إليها ويده تتسلل اسفل كمها متجهة نحو الاعلى، توقف ثم نظر إلها وهمس قائلا: هل سوف اراك غدا؟!

تلعثمت هند وتخدرت يدها وهي تحاول سحبها من قبضة هلال وقالت بصوت مرتجف: أاا_ اجل، اجل اظن ذلك.

افلت هلال يدها وهو يسحب كفه عائدا إليه ثم ابتعدت هند عن العربة وتوجهت عائدة إلى منزلها وقلبها يخفق اشد من ضرب الصخر، كانت متوترة إلى حد الهذيان.

اما هلال فقد امر خادمه ان يستدير عائدا إلى غرناطة وهو يراقب هند وهي تسير عائدة إلى منزلها، لحسن حظها دخلت قبل ان ينتبه لغيابها اي احد.

وضعت هديتها بجانبها وجلست على الاريكة وهي تلهث وقلبها يخفق في اضلاعها تحاول التقاط نفسها، كان مشهد يد هلال وهي ترفع لها الكم واصلة حتى عظمة الكوع لا يفارقها.

شعرت بشيء من الخوف وانتابها المزيد من الخوف في حال كان احدهم قد لاحظ غيابها او رأى العربة تقف امام المنزل.

حاولت طرد تلك الافكار وفتحت القماشة لترى ماذا احضر لها هلال هذه المرة، كانت قماشة من افخر انواع القماش التي لا تحلم امرأة ان ترتديها حتى.

وبعض الاشياء الاخرى وزجاجة عطر فاخر رائحته لا تقاوم، استفاقت هند من نشوتها ونهضت لكي تخفي ما احضر لها هلال معه هذه المرة.

وبينما هي في غرفتها إذ عاد زوجها من الخارج، دخل المنزل غير مدرك لما كان يجري في غيابه، وتوجه إلى غرفته لكي ينال قسطا من النوم.

اما الفتيات فقد نمن جميعا بعد ان قضين ليلة مليئة بحكايات ماريا عن زمنها وعجائبه التي لم تكن تصدق.

اضطجعت هند بجانب زوجها دون ان يتكلم احدهما بأي حرف يحاولان النوم، اما هند فقد شغل بالها معرفة هلال بمنزلها فماذا لو_

لم تجرئ على إكمال الفكرة التي خطرت ببالها حتى وحاولت طردها مشغلة نفسها بما عليها فعله لتقنع زوجها بأن يسمح لها بالذهاب إلى الحفل غدا.


أما هلال فقد عاد بعربته نحو المدينة وقد حقق اولى خطواته لي خطته الشيطانية، وقرر ان يحتفل هذه الليلة بما يناسبها من مجون وملذات وشهوات.

امر خادمه ان يتوجه إلى الصالة ليرى ان كان هناك من الفتيات ما تناسبه لقضاء ليلته تلك، وعندما وصل دخل وهو يتفحص كل من تقع تحت ناظريه.

قاده البحث إلى تلك الفتاة الصغيرة، كانت تبدو اصغر منه سنا بسنين عديدة وربما في عمر بناته، اقترب منها ليحون حولها كالافعى ويبدأ في بث سمه.

اما هي فقد كانت اشد خبثا منه وعلى دراية بالرجال الذين هم من امثاله، وتعلم جيدا كيف تتعامل معهم.

وقف امامها حاملا كأسه منتفخا متفاخراً وجعل يرمقها بنظراته تلك، لم تكن هي الاخرى افضل منه حالا ففلباسها ينم كثيرا عن ماهيتها وما الذي تبحث عنه.

جعلت تتأمله بدون اهتمام او حتى تأثر ثم اشاحت بصرها عنه فجأة، تعجب هلال لفعلها فاقترب منها وقال: مساء الخير، ارى القمر وحيدا هذه الليلة!

لترد الفتاة بنبرة صوتها المشبوهة تلك قائلة: وهل يجتمع مع القمر احد مثلا؟

تبسم هلال بخبث وقال: اجل هناك نجمة تزينه في عيون الحاضريت.

ضحكت الفتاة وقالت باستهزاء: نجمة! انا ارى امامي غيمة كبيرة فقط_

اخرج هلال من جيبه كيس نقود صغير وجعل يهزه ويضرب به من كف لأخر وهو يقول: عندي من هذه النجوم الكثير.

تبسمت الفتاة ابتسامتها الصفراء وقالت: الأن علمنا عن ماذا تتحدث ايها الغيمة.

كان هلال يراقبها ويتفحص كل موضع شبر من جسدعا المكشوف بنهم وشراها بينما كانت هي تدقف على عدفها فقط وقالت: سمعت انها ستمطر الليلة.

فهم هلال مرادها، وقال: اجل الغيمة ستغطي القمر، ما رأيك ان نذهب ونعد كم لدي من الذهب؟

اجابت الفتاة بتردد وقالت: لا احب العد احب القبض اكثر.

لم تكمل الفتاة كلامها حتى وقف احد الخدم بينها وبين هلال فجأة مقاطعاً حوارهما، ونظر إلى الفتاة وقال: سيدي ارسل في طلبك.

واشار الخادم في يده نحو المنصة حيث يقف ذلك الأمير الفارس مرتديا درعه، فالتفتت الفتاة إلى حيث اشار الخادم بيده وقالت وتلك الابتسامة الخبيثة على وجهها: امر مولاي الامير.


مضت الفتاة مع الخادم إلى حيث يقف الفارس، أما هلال فقد وقف مكانه متجمدا مصدوما بما جرى للتو.

لم يدري بماذا يتكلم او ماذا يفعل؛ هذه اول مرة يأخذ احدهم شيئا من بين يديه دون ان يستطع هو فعل اي شي لمنع ذلك.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي