9

وقف الخادم أمام السيدات ونحنى معبراً عن الاحترام، التفت إلى إحدى السيدات وقال: سمو الأمير يدعوكِ لمشاركته هذه الأمسية سيدتي.

كانت هند تصعق مع كل كلمة ينطق بها ذلك الخادم موجها كلامه لغيرها، بعد أن كانت متيقنة أنه قادم إليها وجلست تنتظره.

قاطع تلك الصدمة التي وقعت هند بها وقوف السيدة بكل دلال ملبية دعوة الأمير، حملت حقيبتها الصغيرة من على الطاولة.

التفتت تلك المرأة إلى هند بعد أن لاحظت عليها آثار الصدمة والحسد وقالت مستهزئة بهند وتلك الضحكة الصفراء باديةٌ على وجهها: أراك لاحقاً يا صديقتي.

لوحت بيدها لهند وهي ترسم على وجهها تلك الأبتسامة المليئة بالغرور ومشت مع الخادم مبتعدة عن الطاولة متوجهة إلى الأمير.

كانت هند تراقب تلك المرأة وهي تمشي مع الخادم ممسكاً بيدها نحو المنصة حيث يقف الأمير منتظراً إياها.

شعرت هند بالغيظ الشديد والغيرة بشكل لم يسبق لها أن شعرت بكل ذلك ولم تعد هند تستطيع الجلوس في مكانها بعد ما حصل فنهضت غاضبة من على طاولتها وخرجت مسرعة وهي تضرب بقدميها على الأرض من القاعة.

وقفت خارج القاعة بجانب الباب الرئيسي، بينما كان ذلك الأمير يرحب برفيقته لهذه الليلة بعد أن وضع يده على كتفها واصطحبها معه نحو الداخل حيث غرفته الخاصة.

أما هند فقد وقفت تنتظر قدوم أي عربة كي تعود بها إلى ديارها من حيث أتت، بعدما فسدت تلك الليلة وتمنت أنها لو لم تأتي من الأساس، وبينما كانت تقف عند باب القاعة إذ بأحد التجار قد وصل إلى القاعة في ذات الوقت.

نزل من عربته وتلفت حوله قليلاً كأنه قد أتى لأول مرة إلى هذا المكان، حدث ذلك بينما كانت هند تراقبه فقد لفت ذلك التاجر نظرها بمظهره الأنيق والترف الذي يبدو جلياً عليه.

كان قد أتى بعربته وحيداً لا يرافقه أحد، نزل من عربته مرتدياً ملابس فاخرة ذات طراز رفيع وغالية الثمن، بدا عليه أنه ليس من المدينة وغريب عن المكان جديد في هذا الحي.

اقترب ذلك الرجل من هند ووقف مقابلاً لها يريد الحديث معها فقال لها بنبرة حانية: عذرا أيتها السيدة، هل لي أن اسألك سؤالاً؟

التفتت هند إليه متعجبة ماذا قد يكون محتاجاً منها وقالت: نعم ماذا تريد؟
رد الرجل الغريب عليها مستفسراً: كنت أريد أن أسأل إن كانت هذه هي قاعة السمر في غرناطة أم يوجد غيرها!؟

أشاحت بناظريها عنه بطريقة فظة وأجابته هند: أجل إنها هي وهذا الباب أمامك، وأشارت له بيدها نحو الباب المفتوح.

إلا أن أسئلة الرجل لم تنتهي بل كان يريد ما يقوله: اعذريني سيدتي فهذه أول مرة آتي بها إلى هنا.

وهي تنظر بعيداً عن وجهه قالت له هند: لا مشكلة، أهلا وسهلا بك يمكنك الدخول.

حاول أن يتحدث أكثر فسألها ويستطيل وجوده: هل_ هل أنت لوحدك؟ أم تنتظرين أحداً ما؟!

ارتسمت ابتسامة خفيفة على وجه هند دون أن تنفرج شفتاها ثم قالت متظاهرةً بعدم الأهتمام: لا، أنا وحدي ليس معي احد.

وضع الرجل يده على لحيته يمسدها وقال: هل ترغبين بمرافقتي في هذه الأمسية؟ ما رأيك ان نتعرف على بعضنا قليلاً؟

لم تجب هند بشيء في البداية واكتفت بقلب شفتاها معبرة عن عدم الإمتناع، وفي ذات الوقت عدم القبول فقال مضمراً ما في نفسه من الخبث: إذاً تفضلي معي من فضلك.

تبسم الرجل ومد يده ليصطحب هند التي لم تمانع واكتفت ببعض الدلال فقط، قبل أن تدخل معه نحو الداخل، قبلت هند ووضعت راحة كفها بيده متبسمة ودخلت مع التاجر إلى القاعة.

كانت هند تشعر بزهوة كأنها انتصرت بمعركة ما، وهي تمشي بجانب ذلك الرجل الثري والخادم يلحق بهما من الخلف السعادة بادية على محياها.

تلفت الرجل يبحث عن مكان ليجلس فيه ومعه رفيقته لهذه الليلة "هند" ولكنه لم يجد أي طاولة فارغة فأشارت هند بيدها نحو الأعلى لترى الرجل ذلك الطابق الثاني حيث الجناح المخصص لكبار التجار وأهل الطبقة الثرية.

أكمل الرجل مشيه نحو الأعلى حيث أشارت له وهي معه تتبختر في مشيها معه بين النساء، وصل الرفيقان إلى الجناح وجلسا على طاولة مميزة تطل على القاعة بأكملها قريبة من الشرفة.

وبدأ الرجل بطلب ما لذ وطاب من شتى أصناف الطعام والشراب وامتلأت الطاولة أنام هند والرجل الثري ليبدأ بعدها بالحديث والتعارف بين بعضهم البعض.

بدأت هند الحديث بسؤال الرجل: لم تعرفني عن نفسك، من أنت ومن أي البلاد أنت؟!

أجابها ذلك الغريب بفخر واعتزاز بعد تنحنح ممسكاً بياقة ثوبه: أسمي هلال وأنا أعمل تاجر حرير معروف في مدينتي وبين كل تجار الحرير في الأندلس أيضاً.

ثم أضاف يكمل لها حديثه عن نفسه بمزيد من التفاخر وقال: أما عن البلاد فأنا من إشبيلية وقد نزلت بمدينتكم غرناطة اليوم استريح من سفري.

و أود أن أشتري بعض البضاعة من هنا لأتجهز بها للرحيل عما قريب، وأنت لم تخبريني ما هو أسمك يا سيدتي؟

راق لهند ما قاله عن نفسه فقد تأكد ظنها بأنه غني حقاً، ثم بدأت هي تحدثه عن نفسها: أسمي هند وأنا من غرناطة متجاهلة أي تفاصيل قد تعكر صفوة الجلسة.

وتابعت الحديث مع هلال بسؤال آخر: كم ستكون مدة بقائك عندنا في غرناطة؟ أرجو أن لا تكون قليلة!

بعد أن ارتشف من ذلك الكأس الذي كان أمامه قال لها هلال: في الحقيقة لا أدري ربما أبقى أسبوع وربما شهر، يعتمد هذا على حركة السوق عندكم وكم يتوجب عليي من التريث من أجل تجارتي.

هنا دار حديث عن الحياة وكيف تبدو فقالت هند: السوق هنا منتعش هذه الأيام وسيزداد رواده في بداية الشهر القادم عند انتهاء الصيف و الأسعار سوف ترتفع.

لاحظ هلال بأن لهند نظرة جيدة في مجال التجارة، فسألها: يبدو ان لك خبرة في هذه الأمور، هل تعملين في التجارة؟!

ضحكت هند من سؤاله الغريب وقالت: لا أنا لست كذلك ولكنني ارتاد الأسواق كثيراً وأحب شراء الأقمشة بكافة أنواعها وخاصة الحرير منها.

بدا هلال معجب بكلام هند وحديثها فقال: إذا سيكون لك مني هدية من أفخر أنواع الأقمشة بالإضافة لهذه.

مد يده داخل جيبه واخرج هلال منه زجاجة صغيرة باهرة في الجمال فيها من التفاصيل الكثير ثم مد يده يعطيها لهند، مدت هند يدها لتأخذ تلك الزجاجة الغريبة.

كانت هند مستغربة من هذه الزجاجة فسألته: ما هذه يا سيد هلال؟!
هلال ضحك من أثر الدهشة الظاهرة على وجه هند وقال: افتحيها وسوف تعلمين ماذا قد وضع فيها.

فتحت هند الزجاجة لتفوح منها رائحة عطرة زاهية ملأت المكان بعبيرها، وكانت زجاجة من العنبر الفاخر.

قربتها هند منها لتستنشق أكثر من تلك الرائحة الأخاذة، وكانت من أجمل ما استنشقت من العطور في حياتها.

قال هلال متسائلاً اممم ما رأيك بها؟
هند وهي تبدي إعجابها قالت: إنهاا_ إنها رائعة جداً يا لها من رائحة جميلة.

فاحت رائحة العطر في المكان وبدت السعادة من عيني هلال بما قالته ثم أجابها: إذا هي هدية مني لك.

لم تكن هند تتوقع مثل هذا فقالت: لا أستطيع أن أقبل هدية كهذه، لابد وأنها مهمة بالنسبة لك.

ضحك هلال وقال: إنه عطر نسائي وقد اعجبتني وقلت في نفسي ستكون لصاحبة النصيب و ها هي الأن بين يديك لذلك إنها من نصيبك وقد اصبحت، لك هنيئاً لك، على الرغم من أنها لا تليق بمقامك.

أجابت هند بتململ: يبدو أنك كثير التعرف على النساء فأجاب هلال قائلاً: لا أبداً ولكنني قلت أنها أجمل من أن تباع.

شعرت هند بالخجل وقالت بعد أن احمرت وجنتيها: لا أدري ماذا أقول لك، شكراً جزيلاً لك، إنها هدية رائعة.


كان في جعبة هلال المزيد من المفاجأت التي أعدها للفتاة التي سيلتقي بها الليلة أياً كانت فقال: انتظري حتى تري ما لدي من أقمشة لك، هذه الزجاجة لا شيء.

أجابت هند مبدية رفضها وقالت: لا هذا كثير وتكفيني زجاجة العطر هذه، أنا لست طالبة الهدايا والماديات.

أكملت هند وهلال تلك الأمسية وهما يستمعان للغناء و يشاهدان رقص الفتيات على المنصة والوقت يمضي مسرعاً دون أن تنتبه هند لذلك.

وبعد مضي أكثر من ساعتين تنبهت هند إلى أنها تأخرت على موعد عودتها وفي الغالب قد ذهبت العربة دون أن تأخذها معها.

نهضت من مكانها فجأة كأن شيء لسعها مسرعة تريد اللحاق بالعربة كي تعود إلى بيتها، فأمسك هلال بيدها يسألها عن ما حدث لها فقصت هند على مسامعه الأمر.

تبسم هلال وأشار لهند بالجلوس مهوناً الأمر عليها الأمر بعد أن طمأنها بأنه سيجعل أحد خدامه يوصلها إلى منزلها عند انتهاء السهرة.

وافقت هند على عرضه مضطرة فعلى الأغلب لم يعد هناك أي عربة متوجهة إلى قريتها، ولكنها طلبت من هلال أن يسمح لها بالذهاب فالوقت كان قد تأخر ويجدر بها المغادرة.

وافق هلال على طلبها ونهض من على كرسيه لكي يصطحبها نحو الخارج، استوقف لها إحدى العربات الخاصة به وأمر السائق بأن يوصلها إلى المكان الذي تريده حيث يكون.

وقام بإرسال أحد خدامه معها لمرافقتها حتى يطمئن عليها، شكرت هند هلال على معروفه ذاك معها وصعدت بالعربة متوجهة إلى منزلها.

كان هلال يقف عند باب القاعة وانتظر حتى ابتعدت هند عن المكان فظهرت على وجهه تلك الإبتسامة الصفراء الخبيثة ثم عاد وعدل ملابسه ليدخل ويكمل سهرته بالأسلوب الذي يريده وكما يحلو له.

أما هند فقد كانت عائدة إلى منزلها وفي رأسها تعود وتدور كل تلك النظرات الجميلة التي رأتها في عيني هلال وهو يكلمها، لم تكن تقدر على أن تخرج عيناه من رأسها، فقد تربع على عرش أفكارها مسيطر عليها.

شعرت بأن هلال ذاك رجل كالذي كانت تبحث عنه يجعلها تعيش في ترف وبذخ كما تريد وتتمنى، ولكنها في ذات الوقت كانت تفكر في منزلها وفي مأمون الذي بات شديداً في المعاملة فجأة وبدون أسباب تستحق ما يفعله.

لم يكن مأمون قبل الآن يعارضها بذلك الشكل ويكتفي بإنكاره ونصحه لها في عدم ارتياد مثل تلك الأماكن المشبوهة التي تذهب إليها.

إلا أن حاله قد تبدل في الآونة الأخيرة وقد بدا أكثر قسوة وحزما بالتعامل مع الأمر وهذا ما لا تريده وترضاه ووصل الأمر بمأمون ان يرفع يده على هند ويضربها لذات السبب.

وصلت بها العربة إلى أمام المنزل وتوقفت عند دارها، همت هند بنزول ممسكة قبضة الباب بعد أن تجهزت لما هو قادم.

دخلت بهدوء تتلفت حولها ولا أثر لأحد على عكس ما كانت تتوقع.

أكملت سيرها بعد أن تنفست الصعداء وتنهدت كي تذهب إلى غرفتها ظانةً أن زوجها خارج المنزل، على غير عادته.

استوقفتها تلك الكلمة التي سمعتها من مكان ما "أمي"

التفتت حولها لترى من المنادي، كانت قمر مستلقية على الأريكة بعد أن تعبت من الإنتظار وغالبها النعاس قبل أن تصل والدتها ويبدو أنها استيقظت للتو.

نظرت هند لابنتها بتعجب وقالت: قمر! ما الذي تفعلينه هنا؟!

أجابتها قمر وهي تعتدل في جلستها وتمسح آثار النوم عن وجهها: كنت انتظر عودتك لكنك تأخرت كثيراً هذه المرة!

لم يعجب هند كلام ابنتها فاقتربت منها وقالت باستنكار: ومن جعل منك رقيبة عليّ مثلاً!

ردت قمر مستغربة من انفعال أمها الغير مفهوم فقالت: ليس الأمر كذلك، ولكنني كنت قلقة عليكِ هذا كل ما في الأمر.

هند لم يعجبها ما قالته قمر فسألتها بذات النبرة الحادة: هل أصبحت أنت الأم وانا الطفلة أم ماذا؟

أكملت هند طريقها نحو غرفتها وهي تتمتم غاضبة لكن قمر لم تدعها تكمل خطواتها حتى قالت: امي! أبي في الداخل وهو من أمرني أن انتظر عودتك.

هند وهي ممتعضة ترفع حاجبيها: هكذا إذا وماذا يريد والدك الحنون؟!

قمر تشرح سوء الوضع لأمها بحزن وأسى: أمي الأمر جد كله ولا مزاح فيه، لقد كان أبي مستائاً جداً هذه اللية عندما عاد ولم يجدك هنا.

شعرت هند حينها بأن الأمر ليس كما تفكر فسألت: أكملي، ماذا قال والدك؟

اردفت قمر تحاول نصح والدتها: إنه يقول أن اليوم هي فرصتك الأخيرة ويجب ان تختاري بينه وبين حفلاتك وسهراتك الليلية التي تخرجين إليها.

اغتاظت هند وشعرت بالغضب الشديد من كلام زوجها الذي أصبحت تعتبره كسجان لها لا أكثر، لم تستطع أن تقول شيئاً فهي في النهاية لا ملجأ لها إلا هذا المنزل.

وقفت قمر قبالة والدتها لترى ما سيكون جوابها على ما أخبرتها به، وانتظرت لكن هند حافظت على صمتها لبرهة من الزمن ومضت إلى إحدى الغرف الفارغة بعيداً عن قمر ووالدها كذلك.

علمت قمر حينها أنه ليس من السهل إقناع والدتها بالعزوف عن الذهاب لتلك الحفلات، وأنها على الأغلب مقبلة على مشكلة كبيرة ستكون عواقبها وخيمة.

توجهت إلى غرفتها حيث الفتيات نائمات، والقت بنفسها في فراشها لتحاول النوم هي أيضاً، لم تستطع ذلك وكان كلام والدتها يحوم حول رأسها كطائر النورس.

وتعود تلك الأحداث القديمة إلى ذاكرتها _
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي