15

الشوارع مرصوفة بالأحجار السوداء والجدران مطلية بابهى الألوان، والزهور تتدلى من النوافذ على المارّة، أما السماء فلا سماء، فقد كانت الشوارع والأزقة عبارة عن أقواس حجرية ممدود فوقها أجمل انواع الاقمشة.

لحماية المارّة من المطر وحر الشمس، وبعد قليل من المشي وصلت الفتيات إلى "قصر الحمراء"

كان مهيباً من الخارج بأسواره العالية وفخامة بنائه، والمشاعل تضيئه من كل جانب يشعر الناظر إليه بالهيبة والرعشة.

كانت ماريا مذهولة من ذلك المنظر الرائع ولم تنتظر روح حتى تملأ ماريا عينيها منه حتى أدخلتها إلى داخل القصر.

وكان أول ما رأته تلك الساحة المستطيلة الشكل، تتوسطها بركة صغيرة يحيط بها تماثيل الأسود الحجرية!

دخلت الفتيات إلى القسم المفتوح والمخصص للزوار حيث تلك القاعات الكبيرة بخزفها وألوانها الأخّاذة، وكلّ تلك الأعمدة المزينة بالنقوش الفنية.

استمرت جولتهن في المكان إلى أن وصلن إلى قسم الحدائق حيث كان "قصر الحمراء" يشتهر بجنّاته الخضراء المذهلة والتي تجذب الماس من أصقاع الأرض لمشاهدتها.

توجهت حور بالفتاتين إلى إحدى أجمل حدائق القصر "جنة العريف" تجاوزت حور الحراس والأبواب ووصلت إلى تلك الحديقة الباهرة بجمالها.

تختلط بها الاشجار الخضراء مع برك المياه ونوافيرها الرائعة بتلك الاعمدة الرخامية التي تحيط بالحديقة حاملة فوقها الاقوأس الضخمة.

أكملت الفتيات التجول فيها ورائحة الزهور تفوح من كل حدب وصوب فالزنبق قد امتلأ ماءً من تلك النوافير وفاح عبير الريحان يملأ المكان بأكمله.

وصلت الفتيات بعد قرابة النصف ساعة إلى آخر الحديقة حيث ذلك البناء الفخم تزينه أجمل الرسوم والنقوش وحوله تماثيل الأسود والطيور الجارحة.

وقفت ماريا تتأمل كل ذلك الجمال ونسيت أنها في زمن ليس بزمنها بل ظنّت أنها صارت ربما في المستقبل، أما حور فقد انشغلت تقرر المكان الذي ستذهب إليه بعد هذا القصر وجنّته الخلابة.

فلمعت في رأسها فكرة جعلتها تمسك بيد الفتاتين لتخرج بهن من أسوار القصر على عجل.

خرجت حور من القصر ووقفت في ذلك الزقاق تتلفت حولها.

نظرت نور إلى أختها وقد بدا على محياها من الخوف ما كانت تحاول إخفائه وقالت: ماذا بك يا حور؟ وكأننا غرقنا في بحور التيه.

بنبرة مليئة بالثقة أجابت حور أختها: بالطبع لا أنا حور وأعرف غرناطة شبراً شبراً، ولكن انتظر لحظة.

تأملت حور في ذلك الزقاق تراءى لها أشياء قد غابت عن رأسها،ثم تذكرت أنها مرت به في آخر زيارة لها أدركت أين يكون هو الطريق المطلوب، أمست بأيدي الفتاتين ومضت في نحو ذلك الاتجاه.

استغربت ماريا ما تفعله حور فسألتها: إلى أين نحن ذاهبات الآن يا حور!
ردت عليها حور بدون أن تلتفت إليها قائلة: لا تقلقي سترين ذلك بنفسك، لكن عليك أن تتحلي بالصبر قليلاً.

لم يكن لدى ماريا متسع من الوقت لترى كل شيء، فقد اذهلتها تلك الحضارة العريقة والمباني الضخمة بالإضافة لكل ذلك الاهتمام بالتفاصيل والنقوش في كل مكان وكأنها لوحات فنية تزيد من رونق المكان وروعته.

وصلت حور إلى نهاية الزقاق إنه أعرق حي في غرناطة كانت عيناها تلمع من شدة الانبهار بما ترى وقالت: إنه "حي البيازين!" هذا الحي العريق الخيالي المنظر يسرق الألباب وتستهويه القلوب، وينجلي فيه الكدر وتطمئن به النفس.

بمنازله الفخمة والشوارع المضيئة مكان من عالم آخر لا يشبه شيء مما نعرف مميز بذاته، وجميع تلك القطع الفنية من زجاج ملون فسيفساء وخزف، إضافة لوجود تماثيل حجرية التي تزين الحي عند باب كل منزل وتزيد من رونقه وبهائه.

والمساجد تملأه كيف ما نظر الرأي وكل من تلك المساجد قد بني بشكل ينافس ما قبله يختلف بالتصميم والبناء حتى تحول الحي إلى لوحة فنية كاملة فيها من الألوان ما يسر الناظرين، ويسحر قلوب العابرين.

فقد بني الحي ابتداءً من أعلى هضبة واستمر نزولاً مع مجرى النهر كعقد لؤلؤ يتدلى على سفح رابية خضراء جميلة، وفي نهاية الحي المسجد الرئيسي الكبير حيث يتجمهر المصلين خارجه بعد فراغهم من أداء صلاة العشاء.

استمرت الرحلة لدى الفتيات خروجاً من "حي البيازين" إلى أمكان بيع الملابس والمحال التجارية ثم المقاهي وتجول بين المنتزهات، لفت نظر ماريا أحد الأسواق الغريبة عنها لم تعهد شيء كالذي رأته ، فوقفت تتأمله لقد كان خارجاً عن المألوف.


كان يبدو كسوق للبشر بدل اللباس أو الطعام كما كانت معتادة أن ترى في زمنها وقبل الوصول إلى هنا، التفتت الفتاتان إليها وعادتا أدراجهما.

مستغربة من تأملها الطويل سألتها حور: إلى ماذا تنظرين يا ماريا؟

ماريا والدهشة قد تربعت على وجهها: إلى ذلك السوق وكأنه غريب بعض الشيء، انظري كأنهم يبيعون الناس، أم أن فهمي للأمر خاطىء!

أجابتها لتأكد له ما تراها قالت حور: أجل أنه سوق الخدم والعبيد ما ترينه صحيحاً.

بنبرة ملؤها الاستنكار سألت ماريا: سوق للعبيد! ماذا تعنين بكلامك هذا؟ كيف يمكن للأنسان أن يكون سلعة يباع بثمن معين.

تنهدت حور وهي لا تفهم سبب تلك الدهشة العجيبة وقالت: إنه ببساطة مكان يشتري فيه الناس فتيات وشبان ليقوموا بخدمتهم في منازلهم، أو لربما في العمل وأشياء أخرى.

شعرت ماريا بالخوف من ذلك الكلام ولم تكن تشعر بالراحة لما سمعت ثم قالت: وكيف يكون هذا! اعني انه كيف أصبح هؤلاء خدماً أو عبيد كما قلتي.

اقتربت نور تتكلم بسخرية وكثير من التهكم على ما تسأل عنه صديقتهم وقالت: ماريا، عزيزتي المسافرة عبر الزمن، اليس في عصرك خدم وعبيد!

اجابت ماريا مشوشة الافكار قليلا وهي تحاول جمع ما يمكن من تلك الذاكرة المبعثرة ثم أجابتها: لا أدري ولكن ليس في مصر أشياء كهذه، أو سوق مثل هذا حيث يكون الإنسان هو التاجر والسلعة أيضاً.

قالت لها حور محاولة جعل الأمر أكثر قبولاً:في مصر القديمة كان يوجد أشياء تشبه التي رأيتها، وحتى قبل قرون قليلة كان يوجد ولكن يبدو أن في زمنك الذي كنت تعيشين فيه لم يعد هناك عبيد.

نور مستغربة سألتها: زمن عجيب! كيف تسير الأمور من غير عبيد! من يقوم بأعمالهم.

كانت أجابة ماريا مدافعة عن زمانها وأنه أفضل من الحال التي يعيشون فيها: كل شيء يسير على ما يرام، انا حقا أشعر بالاسى على هؤلاء الناس الذين يعملون عبيد مقابل شيء مادي.

ربتت حور على كتفها لعله يعود لها من تلك السكينة القليل: الكل يشعر بالاسى عليهم ولكن هذه هي القوانين ويجب علينا أن نطبقها.

انهت نور ذلك الحديث الطويل بقولها: هيا دعونا نذهب من هنا قبل ان ينقلب فرحنا هذا إلى حزن نندب فيه على ما حصل.

وافقت حور على مقترح أختها ثم قالت: أنت محقة يا اختي هيا بنا نمضي في طريقنا

مشت الفتيات الثلاث ذاهبات إلى آخر محطة في تلك الرحلة الآتي بدأنها.

أما هند فكانت قد وصلت إلى القاعة، من فور وصولها بدأت تبحث عن صديقها هلال الذي كان بدوره شعر بالملل ويأس من قدوم هند، فنهض من على الطاولة يبحث عن أحد ما يشاركه هذه الامسية.

لم تعثر هند على هلال وذهبت لتجلس على طاولتها القديمة، هناك حيث التقت بصديقتها القديمة، تلك التي طلبها الأمير في المرة الماضية.

شعرت هند بالفضول قد تمكن من رغبتها لمعرفة ما حدث بينها وبين ذلك الأمير، وجدت تلك المرأة فرصة سانحة للتفاخر فبدأت بالكلام عن ذلك الأمير، كرمه وقوته وجماله وسلطته.

أبحرت في كلامها عنه متغاضية أنها كانت تجربة لليلة واحدة فقط ولم تلتفت إلى أنه تم التخلي عنها في النهاية.

كان ذلك الأمر معتاداً عليه في غرناطة خلال ذلك العصر وربما لشدة فقر الناس وحاجتهم أو ربما البزخ والكثير من العطايا التي كانت تعرض عليهن في لقاء عمل كهذا.

بينما كانت تلك المرأة تتكلم والجميع منصت شعرت هند وكأن في داخلها شيء ما يحدثها بغيرة شديدة منها ولم تعد قادرة على الجلوس أكثر، فقررت النهوض من على الطاولة كي تتجول في القاعة وتشغل نفسها عما كان يزعجها.

وفي إحدى الزوايا البعيدة عن الأنظار يقف هلال مع امرأة ما يحدثها وتحدثه وكان واضحاً بأنهما منسجمان في ذلك الحديث، وأن بينهما من التفاهم الكثير، وفي تلك اللحظة صدفه حظه من القدر ووقعت عيناه على ذات الرداء الأصفر.

أمعن النظر قليلاً إلى أن علم من تكون ، ترك تلك المرأة الواقفة معه وهي تثرثر وانطلق إليها، أمسك بيدها من الخلف فالتفت إلى الوراء متوجسة وتراه واقفا أمامها!

بشيء من الخوف قالت هند: هلال! هذا انت!
هلال وكأنه وجد كنزه الذي ضاع منه: أجل أنا، ولكن أين كنت أنت!

تلعثمت هند في كلماتها محاولة أن تجد ما تقوله: انا كنت هنا ولكنني لم أجدك في الأعلى!

أومأ برأسه ثم قال هلال: أجل صحيح؛ لقد انتظرتك مطولاً ثم ظننت أنك لن تأتي فنزلت إلى هنا، لعلي أخفف عن نفسي قليلاً.

بدا الخجل واضحاً على محياها ثم قالت له هند: آسفة لقد تأخرت قليلا اليوم، لكن الأمر خارج عن استطاعتي.

سألها هلال كي يطمئن: ما سبب ذلك التأخير يا هند؟ هل مسك سوء أو ضرر؟

تنهدت هند وقالت بضجر: قصة طويلة دعك منها الأن.

قال هلال محاولاً إسعادها بقدر ما يستطيع: ما رأيك أن نجلس قليلاً؟ عندي لك مفاجئة صغيرة

رسمت على وجهها تلك الإبتسامة الرقيقة ثم قالت: بطبع نجلس لا ضير في ذلك.

مشت هند برفقة هلال إلى إحدى الطاولات وجلسا يتبادلان أطراف الحديث قليلاً، وفي أثناء حديثهما أخرج هلال علبة صغيرة من جيبه ووضعها امام هند على الطاولة.

حدقت به تارة وبالعلبة تارة أخرى مستغربة من الأمر ثم سألته: ما هذه العلبة يا هلال؟!

هلال بعد أن حمر وجهه خجلاً فهو لا يجد الكلام في مثل هذه المواقف: إنها لا شيء، مجرد هدية متواضعة أتمنى أن تعجبك.

شعرت هند بالإمتنان والشكر فقالت بحب: انت تتعب نفسك كثيرا يا هلال!

أخفى هلال تلك الإبتسامة التي كانت ستثير توجس هند قائلا: لا ليس هناك مشكلة، افتحيها لنرى

أمسكت هند تلك العلبة بحماس داخلي وهي تتظاهر بالهدوء وأن لأمر ليس بكل هذه الأثارة، فتحت العلبة ونظرت في داخلها لترى ذلك العقد الذهبي الضخم في حجمه.

ذهلت هند لما رأته، وفتحت فمها متعجبة من حجمه الكبير وجمال ذلك العقد الذهبي ، أمسكت به ورفعته تتأمل شكله وكيف صنع بعناية وهي تتناوب في نظرها، نظرة لهلال وأخرى للعقد.

كان براقاً جداً على شكل سلسلة ثقيلة الوزن في وسطها نجمة خماسية مزينة بالألماس والمجوهرات.

ابتلعت ريقها لتخفف من ذهولها وتعيد لنفسها بعض التركيز ثم قالت: هلال! ما كل هذا!
لم يعد هلال بمقدوره أن يخفي تلك الإبتسامة التي كادت تخنق أنفاسه فقال: هل أعجبك!

قالت هند بكل دهشة وعيناها تلمعان: إنه_ إنه مذهل جداً.

كانت علامات السعادة على وجه هلال واضحة للناظرين: يسعدني أنه نال إعجابك.

فكرت هند قليلاً ثم أعادت ذلك العقد الذي خطف نظرها إلى تلك العلبة المخملية التي كان فيها ثم قالت: ولكن أعذرني لا أستطيع أن أقبله منك.

فتح هلال عيناه على مصراعيها رافعاً حاجبيه ثم قال: لا لا_ يجب أن تقبليه ليس بإمكانك الرفض يا عزيزتي.

هند ببعض من الخجل قالت له: ولكنه! ولكنه باهظ الثمن يا هلال!

بنبرة ماكرة قال لها هلال: إنه لك وأنت تستحقين أفضل من ذلك بكثير.

رسم على وجه هند إبتسامة رقيقة: يا إلهي، انت تحرجني كثيراً يا هلال!

وهو يبتسم بخباثة قال لها: هل ترتدينه لنرى كيف سيبدو عليك أم لا!
أومت هند بأنها سوف ترتديه ثم قالت: بلى سأفعل، ولكنني متنة لك حقا يا هلال.

لم يعجبه ما قالت هند لذا نهض هلال من مكانه بدون أن ينطق بأي كلمة وأخرج العقد من تلك العلبة، ثم وقف خلف هند ممسكاً بشعرها بخفة،ووضعه على كتفها ثم أحاط بعنقها وهو يلبسها ذلك العقد.

انحنى قليلاً واقترب من أذنها محيطا بكتفيها وهمس لها قائلاً: لا أدري هل العقد من زينك أم أنه من تزين بك، لقد أصبح أجمل بعد أن عانق عنقك.

كانت محرجة جداً منه ولكنها في الداخل تشعر أنها تذوب كقطعة سكر في فنجان من القهوة، بسبب وقوفه الطويل وراء ظهرها قريبا من أذنها.

وبالكاد تستطيع ان تبقي نفسها هادئة بينما كان قلبها يطرق كالملهوف لرؤية من يحب ألف طرقة في تلك اللحظة ولربما يزيد عنها.

أنهى هلال وضع العقد وتركه متدلياً على عنقها وعاد ليجلس مقابلاً لها ، وجعل يتأملها ويتأمل ذلك العقد وهو يزين رقبتها بحب.

أما هند فكانت تشعر بالخجل الشديد وغير أنها لم تكن قادرة على النظر في عينيه، إلى أن أصبحت وجنتاها حمراوتين اللون تورداً.

وشعرت بحرارة لا توصف وقلبها يخفق بشدة كأنما يريد الخروج من بين أضلاعها يقفز في أحضان من أشعله حباً. أنت كريم وشهم يا هلال.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي