13

التفتت إليه وقالت: يا سيدي من التي خطبتها!
ليحيب خالد قائلاً: إنها ابنة مأمون السرجيّ
تظاهرت تلك المرأة بالدهشة وقالت: لا تقل ذلك يا سيدي!

تعجب خالد من قولها ولم يفهم سبب ذلك الاستنكار: وما الضير في ذلك يا أمة الله؟
بدأت المرأة تظهر المسكنة والصدق سمعت عنهم أخبار لا تسر صديقاً ولا حتى عدواً.

شعر خالد بالغرابة ولم يصدق ما تقوله تلك العجوز قصرخ: ماذا تقولين أيتها العجوز الخرفة؟!

لتجيب المرأة بمسكنة ولعثمة مصطنعة: أنت تعلم أنه لا يجوز أن نغتاب الناس يا سيدي.

بدأ خالد يغضب ويصرخ على المرأة العجوز: أخبريني ما الذي سمعتيه!؟

تظاهرت المرأة بالإمتناع وهمت بالذهاب وهي تقول: اعذرني يا سيدي لا دخل لي هذه امور خاصة

نجحت تلك العجوز في زرع الشك في قلب خالد وفعلت ما طلب منها لكن خالد لم يكن ليسمح لها بالذهاب دون أن تكمل كلامها.

أمسك بيدها بغضب وقوة ليرى ما الذي تعلمه عنهم فشعرت بالخوف ولم تتمكن من الإفلات منه.

نظر خالد في وجهها غاضبا وهو يصرخ: تكلمي يا امرأة قبل أن أفتك بك!

أرادت العجوز الأفلات فبدأت تهذي وتتكلم بأي شيء حتى يفلتها، فاتهمت الفتاة أنها قد تزوجت قبل ذلك وأنها فرت مع عشيقها كي ترغم أهلها على الموافقة.

وأشاعت عنها الكذب والإفتراء وطعنت في عفتها وأمانتها وشرفها، وأضافت فوق كل ذلك أن مأمون ذاته يريد تزويجها إياه طمعا في ماله وممتلكاته.

لسوء حظ قمر كان خالد ذو قلب طيب ليس له خبرة بالنساء وكيدهن، فصدق ما قالته تلك العجوز وتركها تذهب في حال سبيلها بعد أن أفسدت عليه قلبه

شعر خالد بالسوء والإحباط بعد أن سمع ذلك عن قمر، كيف لا وقد أحبها من كل قلبه وظن أنها ستكون شريكة حياته المثالية، وكل ما يحلم به قد وجده فيها

دخل في همه وغمه ولم يستطع أن يفكر في أي شيء، جلس يعيد التأمل فيما كان على وشك فعله.

حل المساء وآتى الموعد المنتظر، جلست قمر وقد ارتدت أبها حللها وقد تحملت عناء السفر إلى سوق غرناطة لتشتري فستاناً جديدا كي تستقبل فيه خالد.

أذن المغرب وغابت الشمس ومأمون جالس هو وابنته ينتظران خالد، تأخر بضعة دقائق و قمر جالسة تنتظر وصوله وهي تتخيل كيف سيكون مظهره.

منتطيا صهوة جواده بزيه الجميل وجسمه الممشوق الجذاب، لقد تأخر نصف ساعة الأن وبدأ الخيال الجميل يفارقها ويساورها الشك.

تأخر ساعة! فساعتين!، بدأ التوتر ينهش قلب قمر ويجعلها تفقد الامل شيئا فشيئا من حضوره، أيقنت انه لم ولن يحضر لسبب ما.

فشعرت بخيبة الامل والخوف من الفشل أمام والدتها، لقد كانت واثقة جدا به وقد رأت بعينها كيف كان متحمسا لخطبتها في اسرع وقت ممكن.

ما الذي جرى! لماذا لم يحضر! ما الذي منعه من الحضور!

كل تلك الاسئلة بدأت تدور في رأسها طالبة اجوبة فورية لها، لكن قمر لم تكن في وضع يسمح لها بالتفكير كثيراً.

اكتفت بالصمت والدعاء لعله يأتي ويعتذر عن تأخره بعد قليل.

أما مأمون فقد كان يزرع الأعذار لخالد ويهدئ من روع ابنته: لعله تاه، لعله حدث معه ما اشغله، لعله لعله _

هند تجلس في زاوية الغرفة وقد امتلأت سعادة وفرح بل وشماتة ايضا، كيف لا وقد افسدت هذا الزواج برمته ببعض الكلمات فقط، أخفت كل ذلك متظاهرة بالبرود والسكون.

أما قمر فلم تعد تستطيع تحمل خفقات قلبها اكثر كان يبدو أنه سوف ينخلع من مكانه بضرباته تلك، اشتعلت الحرارة في جسمها وكأنها على وشك الإغماء.

أمسكت بطرف فستانها ونهضت إلى غرفتها قبل أن تبدأ دموعها بالنزول أمام والديها، بدا وكأن خالد كان يهزأ بها أو ربما يكذب فقط.

ناداها والدها عدة مرات لكنها لم تستمع وهمت مسرعة بالانصراف نحو غرفتها قبل أن تبدأ بالبكاء والنحيب.

دخلت إلى غرفتها وانفجرت بالبكاء وألقت بنفسها على السرير، في حين كان والدها يراقبها كيف كانت تركض وهي تشهق محاولا دفع بكائها.

شعر مأمون بالحزن على ابنته التي انفطر قلبها حزنا بعد الذي جرى من خالد، ولم يستطع فعل اي شيء فهو الذي كان يطمعها ويمنيها خيراً في خالد.

نظرت هند إلى زوجها بتلك النظرة المستعلية وكأنها تقول "لقد أخبرتكم أنه زواج فاشل"

رأى مأمون نظرات زوجته فقال لها غاضبا: لا تحدقي بي هكذا يا امرأة! غداً سأذهب إليه وأرى ما الذي منعه من الحضور!

نهض من مكانه وذهب ليرى ابنته وبقيت هي في مكانها تتنفس الصعداء وكأنها خرجت منتصرة في معركتها.

طرق باب الحجرة ووقف خارجاً ينتظرها أن تأذن له، سمعت هي الطرق من الداخل ولكنها لم تكن بمزاج يجعلها يمكن أن تتحمل حرفاً واحداً من أي أحد.

خاصة إن كان ذلك الأحد شامتاً بزيّ ناصح أمين، تكرر الطرق ونادى عليها والدها من الخارج فمسحت دموعها وهدّأت نفسها قليلاً.

أجابت قائلة والغصة تخنق صوتها: تفضل بالدخول يا أبي.

فتح مأمون باب الحجرة وأتى ليجلس بجانب ابنته يؤنسها، فقد كانت في حال يرثى لها، جلس مأمون بجانب ابنته يضمها لصدره وهي لاتزال تحشرج وتأن.

نظرت بعينين دامعتين إلى والدها وقالت بصوتها الحزين والدموع تملأ وجنتيها: أبي! لماذا يحدث هذا لي! هل استحق هذا برأيك!؟

لم يعلم مأمون بماذا يجيب ابنته فقال وهو يمسح دموعها من على خديها: يا ابنتي يا قمر ليس كل ما يحدث في الحياة يكون جزاءً وفاقا.

بل كثير من الأمور تحدث لنا على أنها ابتلاء وفتنة لنا ليختبر الله قوة إيماننا وثباتنا فقط، ومن ثم يعقب ذلك تيسير عظيم وأجر كبير، فلا تقلقي.

أنا على ثقة من أن خالد يحبك وما منعه من القدوم إلا أمر جلل أو خطب ما، وسوف أسير غداً صباحاً إليه، كرمى لعينيك هاتين وأرى ما الذي جرى له وعند إذ نقطع الشك باليقين.

هدأت قمر بعد سماعها لكلام والدها وجففت مدامعها واثقة بأن أمراً ما سيحدث ويغير هذا الأمر الذي أُجبرت على عيشه فجأة وبدون سابق إنذار.

نهض مأمون بعد أن طبع قبلة صغيرة على جبين ابنته وهو يتبسم لها لكي يشعرها بالاطمئنان وخرج من الغرفة متوجها إلى عمله في إشعال سرج القرية.

أما قمر فنهضت تبدل ثيابها لتنال قسطاً من الراحة بعد هذا الإرهاق الذي نالها، كان في الغرفة أختيها حورو الصغرى نور تستمعان وتشاهدان أختهما وهي تتعرض لكل ذلك الألم.

انطبعت في نفوسهما ثغرة سوف تظل مرافقة لهما إلى الأمد البعيد وسيكون من شأنها تغيير مسار حياتهما في المستقبل.

انتظرت هند خروج زوجها من المنزل وعاجلت بارتداء ملابسها وتوجهت إلى منزل جارتها العجوز، تلك التي اقنعت خالد بكل ذلك الزور والبهتان عن قمر حتى جعلته يعرض عنها وأكثر بعد.

طرقت الباب ووقفت تنتظر أن يفتح لها بينما كانت عيونها تراقب الطريق خوفا من أن يعود مأمون فيراها ويكشف أمرها.

فتحت العجوز الباب ودخلت هند إليها والابتسامة لا تفارقها بعينين تقدحان الشرار، عانقت جارتها ذلك العناق السريع المعروف لدى الناس وقبلتها بخفة وقالت متحمسة: ها؟ بشريني ما الذي جرى معك! قولي ما عندك؟

لتجيب العجوز والابتسامة الخبيثة على وجهها: جرى ما كنت تريدن طبعاً يا هند.

فرحت هند بسماعها للخبر لتنظر لها بدهشة وتشير لها لكي تكمل، لتردف العجوز قائلةً: أجل ونجحت خطتي وبصعوبةً أيضاً.

اجابت هند مستخفة بالأمر: عن أي صعوبة تتكلمين كل ما كان عليك هو قول بعض الجمل لا أكثر.

لطمت العجوز على جبهتها وقالت ساخرةً: سهولة!، عن أي سهولة تتكلمين يا هند!، لقد كاد ذلك الشاب أن يقتلني!

استغربت هند من تلك الملمة وقالت: يقتلك! أحقا ما تقولين؟!
العجوزومؤكدة كلامها قائلة: أجل ولولا أنني كذبت عليه وخدعته لما تركني أذهب أبداً.

ثار فضول هند ولم تستطع الإنتظار لتقول: ما الذي جرى معك!، أخبريني.

بدأت العجوز تروي ما حصل معها قائلةً: ذهبت إليه متظاهرة بأنني متسولة وعندما بدأت اللمز في قمر والتكلم عنها بسوء جعل يكذبني ثم صار يستفسر ويعيد كلامه ويسأل عن المزيد.

لم أدري بماذا اخبره، وحاولت التنصل، ولكنه غضب كثور هائج، إنه شاب ولكن عقله بحجم حبة الفول، يصدق كل مايسمعه.

أمسك بمعصمي وشدني إليه وألحَّ بالسؤال وأجبرني على الكلام حتى يفلتني، وبالفعل لبّيتُ أمره وأخبرته بما يمكن أن يبعده عن قمر إلى الأبد.

شعرت هند بالتوجس والريبة وقالت: لست مرتاحة أبداً، كلامك هذا يبدو وكأن فيه البلايا!
العجوز بتململ: ليس تماماً ولكن خالد بالغ في ردة فعله قليلاً فقط.

تسائلت هند بقلق: ما الذي قلتيه له حتى عدل عن الزواج بقمر!
أجابت العجوز ببعض الخوف: قلت انها كانت متزوجة قبل الآن وأنكم تطمعون بماله ولمزت قليلاً في عفة قمر وسمعة المنزل.

صدمت هند بما سمعته من فم تلك العجوز وصرخت بفضب: ما الذي تقولينه أيتها العجوز الخرفة! لقد دمرت سمعة ابنتي وسمعة منزلي!

ارتبكت العجوز قليلاً بعد ما رأت من هند الغضب العارم وقالت متلعثمة: و_ ولكنك _ ولكنك قلت أنك تريدين أن يعدل عن الزواج بها ويبتعد عنها نهائياً!

لترد هند بكل غضب: أيتها الساقطة! قلت لك أن تخبريه أنها ليست جميلة أو أنها صعبة المراس مثلاً؛ من سمح لك بأن تتكلمي في عفتها وشرفها! من!؟

لترد العجوز غضابةً مستنكرة: وما بك تصرخين كحمار ينعق! أنت من قالت أبعديه عنها وأنا نفذت أمرك لا أكثر!

هند والغضب يأكل قلبها: يا لك من غبية! انها ابنتي أيتها العجوز... ابنتي! كيف سأفسد سمعتها بهذا الشكل بين الناس! أتعلمين ما الذي سيفعله خالد! سيقوم بنشر هذه الخبار عن ابنتي وسيقول الناس في بناتي كلهن ذات الكلام!

العجوز وهي تحاول التخفيف عنها قالت: لا تقلقي فلن يفعل ذلك.
لترد هند مستنكرةً: وما ادراك أنت!
لتضحك العجوز قائلةً: ذلك الشاب الأرعن، لقد سمعته يحدث نفسه أنه سيترك الزواج من أصله! ولن يثق بامرأة أخرى بعد اليوم.

هدأت هند قليلاً إلا أن شعورها بالذنب بدأ منذ تلك اللحظة، فمعروف لدى هند أن في تلك القرية شيء واحد لا يتغير وهو "لا سر يبقى مدفوناً"

خرجت من ذلك المنزل وعادت مسرعة خشية أن يعود زوجها فلا يجدها، ذهبت إلى غرفتها واستلقت بالفراش متظاهرة بأنها نائمة، لم تكد تغمض عينيها حتى سمعت صوت الباب.

كان مأمون قد أنهى عمله وعاد إلى المنزل، وضع حاجياته عند العتبة ودخل هو الآخر إلى غرفته لينال قسطاً من الراحة.

انقضى الليل وأتى الصباح، واستيقظ الجميع منذ الصباح الباكر، أما قمر فقد نهضت من فراشها متعبة وتوجهت إلى المطبخ لتساعد والدتها في تحضير الطعام.

أما هو فقد خرج منذ الصباح الباكر وتوجه إلى حقل خالد لكي يرى ما المشكلة عنده، وصل إلى الحقل مع أول بزوغ الشمس وإشراقتها.

تجول قليلاً فيه فلم يرى حركةً أو يسمع صوتاً في المكان، ذهب إلى ذلك الكوخ المصنوع من القش، وقف عنده منادياً على خالد، كرر النداء لكن أحداً لم يجبه.

نظر داخل الكوخ فوجده فارغاً، وقف متحيراً في مكانه، فخالد يسكن هنا ولا مكان آخر له ليذهب إليه!

حمل أذيال الخيبة بعد أن تأكد من أن خالد كان ربما يلعب ويتسلى ونوى عائداً إلى المنزل، وفي طريقه للعودة استوقفته تلك الفتاة "هناء"

رآها قادمة إلى الحقل فاستوقفها وسألها عن خالد لتجيبه هي بأن خالداً رحل عن القرية منذ مساء البارحة فقد أتى إلى منزلها وأعطاها كمية من المال على أن تهتم بالأشجار والمزروعات لوحدها إلى حين.

تأكد مأمون من شكه وعاد إلى منزله غاضباً من خالد وحزيناً على ابنته التي تعرضت لتلك الطعنة القاسية، فتح باب المنزل ودخل بوجهه العابس وملامحه الكئيبة.

رأت قمر والدها وقد عاد بملامحه تلك فعلمت أن المصيبة قد كانت كما توقعت، على العكس مما كانت توقعه عند عودته.

لم يكلم مأمون أي أحد وتوجه إلى غرفته ليبقى منعزلاً لبعض الوقت، أما قمر فقد اشفقت على والدها ولم ترد أن تُحزنه أكثر، فتظاهرت بالقوة وعدم الاكتراث.

وتناست الموضوع ولم تسأل والدها حتى عن الأمر، فقد ظنت أنه وعلى الأغلب فخالد كان يعبث بمشاعرها أو ربما أراد فقط أن يقوم بتجربة لا أكثر.

لم تحزن قمر على نفسها فهي تعلم أنها من أجمل وأعفّ وأطهر بنات القرية وقد أتاها كثير قبل خالد وعلى الأرجح سيأتيها بعده ايضاً.

طوت صفحة الزواج منذ ذلك اليوم تاركةً الأمر لله فهو من خلقها ويدبر شؤونها، وقررت العودة إلى ما قبل خالد، من مساعدة أهلها في المنزل وخارجه.

كان الجميع يظنها محض صدفة أو حظ سيء لا أكثر ما عدا هند، فهي من صنع ذلك الحظ ويبدو أنها ستندم كثيراً في المستقبل على ذلك.

أما خالد فقد شعر بخيبة أمل شديدة وفقد الثقة بالجميع فقرر الابتعاد عن القرية وأهلها ليكمل حياته بأسلوبه الجديد.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي