8

كان يمشي ببطئ دون ان يلتفت إلى احد بينما لفت انظار الجميع إليه دون استثناء، وصل إلى المنصة وجلس على ذلك العرش المخملي الاحمر اللون واضعاً خوذته أمامه على الطاولة، ومعه بعض حاجاته الاخرى

وعلى جانبيه يقف خادماه بكل استعداد، فتقدم مالك القاعة ووقف عند حافة المنصة مناديا بأعلى صوته متباهيا بضيفه وقال: ليصفق الجميع للأمير وصاحب السمو الملكي!

على صوت التصفيق بين الحاضرين والتحيات تنطلق من هنا وهناك وعاد جو الطرب والغناء إلى القاعة وبدأت تتوافد الفتيات إلى المنصة لتظهر كل واحدة منهن ما لديها من مهارات في الرقص والغناء أمام الأمير لعلها تنال إعجابه، ويحل عليها رضاه

بعيداً عن غرناطة والحفل نعود إلى تلك القرية حيث انهة مأمون عمله وعاد متجها نحو منزله، فتح الباب ودخل يريد الذهاب إلى غرفته لكن ندائاً من قمر اوقفه.

التفت مأمون إلى الناحية التي أتى منها الصوت فوجد الفتيات وقد جلسن لتناول طعام العشاء.

نادت قمر على والدها مرحبةً به: تفضل يا أبي لقد وصلت في وقتك.

ليجيب مأمون قائلاً: لست جائعا يا ابنتي، تناولن انتن الطعام، بالهناء والشفاء.

استمر مأمون في المشي متجها إلى غرفته لكنه توقف وعاد للنظر ناحية الفتيات وقال مستنكرا: اين هي والدتكن؟ لاتزال تحبس نفسها في الغرفة؟!

بعد صمت لبضعة لحظات قالت قمر بصوت خافت ومرتبك: لقد خرجت قبل قليل يا أبي.

خاب ظن مأمون وقال وهو يمسح على وجهه ليكتم ما استطاع من غضبه: هذه المرأه لم يعد في رأسها عقل ولا حتى ضمير هل يعقل أنها هند ذاتها، إني أشك في هذا.

أجابت قمر بنبرة صوتها الحزينة معتذرةً: أسفة يا أبي ولكن حاولت منعها والتكلم معها ولكنني لم أفلح.

تنهد مأمون بيأس وقال: لاعليك يا ابنتي ليس خطأك ان والدتك قد فسد عقلها واخلاقها ويبدو أن الكلام لم يعد ينفع معها، هي تفعل ما يحلو لها فقط.

قمر محاولة تبديل الحال الذي هم عليه: ولكن الن تتناول الطعام يا ابي؟

أجاب مأمون وهو يخلع معطفه بكل هدوء وكأنه قد استنفذ كل محاولاته: لقد كنت أريد الذهاب إليها كي أكلمها بهدوء وأعيدها لرشدها، أما وقد ذهبت مرة اخرى وعصت كلامي بكل تلك البرودة فلم يعد للكلام نفع بعد الآن معها.

أكمل حديثه وهو يمشي لا مبالياً: حينما تعود لا يفتح لها أحد الباب، لم أعد اريد رؤية هذه المرأة بعد الآن ليس لي حاجة بها بعد اليوم، ولا يشرفني أن تكون فرداً من عائلتي، دعوها تذهب لتجد مكان يناسبها بعيد عنا

نهضت قمر من مكانها واسرعت إلى والدها تمسك بكفه وهي تقول بصوت حزين وترتجيه: اتفعل هذا يا أبي! إنها أمي لا تجعلها أهون الناس عليك أرجوك.

أبعد مأمون يد قمر ابنته عنه وقال معتذراً: اعذريني يا قمر فوالدتك لم تبقي لي اي خيار اخر، هذا ما يجدر بي فعله

ارتسمت على وجه قمر علامات الحزن وهي تترجى والدها وتقول: أعطها فرصة اخيرة أرجوك يا أبي، اعدك انني سأكلمها وأجعلها تعود عما هي عليه، أرجوك يا أبي فرصة أخيرة بعد.

تنهد مأمون وقال متعباً: كما تريدين يا قمر سأفعل ذلك كرمةً لعينيك فقط لا أكثر، ولكنني واثق من أنها ستعاود الذهاب مرة اخرى، ولكن لن أرفض لك طلبك.

قبلت قمر يد والدها ورفعتها إلى جبينها ممتنةً له وهي تشكره على موافقته ليذهب هو إلى غرفته كي ينال قسطاً من الراحة.

أما قمر فقد عادت لتجلس مع أخوتها دون أن تكمل تناول الطعام وقد شرد بها الذهن تفكر في حال أمها السيء.

تنبهت ماريا لما يجري ولكنها لم تكن تستوعب الامر كاملاً فقالت: قمر! ما بال والدتك؟ لماذا تحصل هذه الخلافات؟ هل كل شيء على ما يرام؟

نظرت قمر إلى ماريا بحزن وقالت بعد أن تنهدت: إنها قصة طويلة لا تشغلي بالك يا عزيزتي، تناولي طعامك قبل أن يبرد.

لم تحصل ماريا على أجابة مرضيةً فقالت: هل تشرحين لي من فضلك؟!

تظاهرت قمر بعدم سماع ما قالته لها ماريا فماذا ستجيب وما الذي سوف تقوله لها، تسائلت قمر في ذاته وهي تفكر في إجابة لذلك السؤال البدهي من أحد غريب عن عائلتها.

اكملت الفتيات تناول الطعام وتوجهن إلى النوم بينما بقيت قمر تنتظر عودة والدتها، تلك التي تجلس ومن حولها أربعة أو خمسة رجال مع كل رجل امرأة لا أحد يعلم إن كانت زوجته أم لا.

أما ذلك الأمير فقد كان منهمكا في أن يجد لنفسه فتاة يقضي بعض الوقت معها قبل رحيله عن المدينة وعودته إلى بلاده، كي يستمتع في وقته.

فهو أمير من "القوط" وهم الاعداء الذين يشنون الحملات على بلاد الأندلس وقد استطاعوا بعد كثير من المكر والحيل والكذب على الأهالي السيطرة على عدة ممالك من البلاد.

وقد وقع تحت حكمهم كثير من المدن التي كانت تشكل مع غرناطة عقداً فريداً يشبه عقد اللؤلؤ في تماسكه وانسجامه ولكن هذا العقد انحلت عقدته وتناثر ليتحول فيما بعد إلى ممالك صغيرة متناحرة ومتقاتلة في ما بينها.

يحكم كل مملكة ملك من ملوك الطوائف وكل واحد منهم يطمع في مملكة الاخر وها هو عدوهم يدخل لمدنهم حتى دون قتال وكما سماه هو لهم "صلح أمن" أي أنه أعطى كل من بقي تحت حكمه الأمن.

وتعهد بحمايتهم واعطائهم حرياتهم أو هذا ما يبدو عليه الأمر، أما الأهالي فجلهم قد صاروا مثل هند؛ غارقين في الملذات والشهوات، التي لا تقودهم إلا إلى طرق الضياع والانفلات

ولم يعد هناك من يحمي البلاد ويذود عنها ويدافع عن حرماتها.

نهض الأمير "فرناندو" من على كرسيه بعد أن اتخم بمشاهدة النساء والفتيات اللواتي كن يحاولن لفت نظره لعل إحداهن تحقق مأربها.

بنيل حفنة من المال أو قطعة من المجوهرات متغاضية عن الثمن الذي تدفع لنيل ذلك.

تجول الامير قليلاً على المنصة الخشبية وكانت مرتفعة حوالي المترين يرقب الحاضرين بنظره ثم أشار لأحد خادمه فأسرع نحوه.

همس فرناندو بأذن الخادم وأشار بيده إلى إحدى الطاولات فهب الخادم مسرعاً إليها يحمل رسالة الأمير.

خفق قلبها وارتعش جسمها فجأة، كانت هند تجلس على ذات الطاولة التي أشار إليها الأمير، رأت الخادم اتياً نحوها مهرولاً.

فاعتدلت في جلستها وبدلت ملامح وجهها المتململة منتظرة وصول الخادم إليها، فها هو حلمها يكاد يتحقق وقد ارسل الامير ذاته في طلبها.

بعد ان كان أقصى أحلامها تاجر غني مثلا يدعوها لشرب كأس أو فنجان قهوة مثلا تجني من خلاله مئات الدراهم.

وصل الخادم إلى الطاولة المقصودة ووقف قبالته وهند تستعد لترد بشكل لبق على دعوة الأمير.

طردت كل ذلك الحماس والإنفعال وتظاهرت بالهدوء والإتزان وعدم الإهتمام لأمر الخادم وحدقت بعيداً رافعةً رأسها بعزة وأنفة.

وكأن الامر لا يعنيها إلا أن الحقيقة كانت مغايرة فهي تتوق إلى كلمة واحدة تجعلها أقرب إلى الأمير الثري.

كان لدى هند أهداف كثيرة تحققها من هذه الرغبة العارمة التي اجتاحتها.



يتبع.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي