5

بكل الغضب الذي يعتلي ملامح وجهه الخائبة، وقف امامها جامحاً، وامسك برقبتها يضغط عليها بكل قوته، وهي تحاول ان تفلت من يديه، ووجها بدأت يتحول إلى اللون الأحمر، بينما عيونها تكاد تخرج من مكانها.

كان يحاول خنقها وهو يقول مغلقا على اسنانه: ستعلمين من هو الرجل هنا، أيتها المرأة الفاسدة.

بدأت هند بالسعال والاختناق أكثر، حتى لم تعد تستطيع أن تلتقط نفسا ابدأ، خارت قواها وافلتت يده وعلا انينها مشرفة على الموت.

لم تحتمل ابنته الموقف والانتظار معا، فهبت مسرعة من مكانها لتفلت يد والدها عن عنق امها، ركضت وهي تصرخ خائفة: ابي، ابي! ارجوك توقف ارجوك!

لكن مأمون كان في عالم اخر، لا يستوعب من يصرخ ولا يستمع لأحد، وصلت قمر إلى يد والدها وبكل قوتها حاولت فتح قبضتها الملتفة حول عنق والدتها.

نجحت في اللحظة الاخيرة بفك اصابع والدها عن عنق امها، لتسقط هند أرضا وهي مشرفة على الموت، اخذت ذلك الشهيق المرعب معلنةً نجاتها وعودتها إلى الحياة.

وقمر تبكي وتتلفت بين امها وابيها، لا تدري ماذا تفعل، لم تحتمل ذلك المنظر فأجهشت بالبكاء والنحيب وهي تقف بينهما.

كان يجب على هند ان تدرك تماماً ما تتفوه به، فبمجرد طلبها الطلاق هذا ليس أمراً صعباً لتحصل عليه، ولكن الذي أوصلها لهذه الحالة طريقتها.

أن تستفز رجلاً شريفاً وشهماً برجولته، لهو أمراً لن تكون عاقبته سهلة أبداً.



اما مأمون فقد استفاق من غضبته، ليجد زوجته مرمية على الارض تتنفس بصعوبة بعد ان ظن انه قتلها، التفت إلى ابنته ليجدها تجلس القرفصاء إلى جدار المنزل، وهي تغطي وجهها وتبكي بحرقة.

شعر بالغضب والاستياء، استدار إلى الخلف ممسكا بذلك الكرسي الخشبي، صرخ غاضبا "اللعناااا_ اللعنة عليك يا هند"

ورمى بذلك الكرسي على الجدار ليتحطم إلى قطع واجزاء متفرقة، وهند لا تزال مرمية على الارض تحاول التقاط انفسها واستعادة وعيها.

خرج مأمون من المنزل صافعاً خلفه الباب بكل قوة حتى كاد ينخلع من مكانه، تاركا المنزل بمن فيه، وبقيت قمر وامها على الأرض بحالة مأساوية.

استهلك الأمر من قمر بعض الوقت، حتى استطاعت التوقف عن البكاء والنهوض من مكانها، لتذهب إلى أمها وتعينها قليلا.

امسكت بيدها تساعدها على الجلوس ؛ بعد ان احضرت لها كوبا من الماء كي تشرب، امسكت هند الكوب وشربت منه ثم نهضت متوجهة إلى احدى الأرائك.

جلست عليها وهي تحاول ان تهدأ وتفكر فيما جرى، كانت مصدومة جدا من ردة فعل مأمون القاسية، والغير معهودة ابدا، لم يسبق له ان ضربها، وها هو اليوم يكاد يقتلها خنقا.

بالطبع، هذا ما سيفعله أي رجل لو كان مكانه، فمن الصعب جداً مراقبة شخص تحبه كثيراً يتغير إلى الأسوء، على الرغم من أن مأمون كان يخفي الكثير ويحاول كبت غضبه منذ بداية انحرافها عن طريقها الصحيح.

جلست قمر بجانب والدتها وعم الصمت لبضع دقائق قبل ان تنهض قمر لتعود إلى غرفتها دون أن تنطق أي كلمة، استوقفتها والدتها وهي تقول: لماذا كنت تتجسسين علينا يا قمر؟

أجابت قمر والدتها دون أن تلتفت: لم اكن افعل، ولكن والدي سبقني لفتح الباب.

قالت هند وكأنها لم تصدق ما سمعته: ولم لم تعودي إلى غرفتك؟

ردت قمر بنبرة فيها لا مبالاة: كنت اعلم انكما تتشاجران لذلك وقفت أرى كيف ستكون الكارثة.

استنكرت هند ما قالته ابنتها: كارثة؟ وما ادراك اننا سنتشاجر؟

تنهدت قمر واخبرت والدتها: عندما عاد أبي من العمل كان يبدو عليه الغضب والانفعال الشديد لأنه لم يجدك هنا.

مسحت هند بيديها على وجهها، وقالت بعد ان تنهدت: وما به اليوم وكأنه يراني اخرج لأول مرة؟ ثم انني لست وحدي، نساء القرية كلهم يذهبن إلى هناك.

ردت قمر على تبرير والدتها: ولكنهن لسن متزوجات من مأمون.

لم يعجب هند ما سمعته، فقالت: ماذا تعنين يا قمر؟

حاولت قمر اختصار الجدال مع والدتها وقالت: اعني، انه ليس كل الرجال مثل ابي، انه من الطبقة المحافظة.

وانت تخترقين هذه الطبقة ممزقة اياها بأفعالك، وهو لن يقف مكتوف اليدين أمام افعالك الغير مناسبة له، وتتوهمين انه سيكون مثل غيره من الرجال في هذه القرية.

رفعت هند حاجبها وقالت: افهم من كلامك انك توافقين على ما فعله والدك العزيز قبل قليل يا قمر؟!

أضافت قمر: لا يا امي ولكن ايضاً يجب ان تراعي مشاعره، انت ايضا تغيرتي، لم نعد نعرفك.

بكت قمر في نهاية كلامها، وكلامها جعل الأخرى تستاء كثيراً، ربما من نفسها وربما مما جرى، ولكن بالتأكيد كلمات قمر تشعرها بالبغض من نفسها.

نهضت هند غاضبة من ابنتها بعد ان توهمت انها منحازة إلى والدها وقالت: انت ابنته، وافهم انك ستكونين في صفه.

قالت قمر وعيناها تمتلئ بالدموع: لم افهم، هل نحن الان صرنا صفين يا امي؟

اكملت هند طريقها متجهة إلى غرفتها، دون ان تعلم بما حصل في منزلها اليوم اثناء غيابها، اما قمر فبقيت جالسة على الكرسي منتظرة عودة والدها من الخارج.


مضت ساعة تقريبا وإذ بالباب يطرق؛ كان مأمون قد عاد إلى المنزل بعد أن قضى بعض الوقت خارجاً، محاولاً ان يهدأ قليلا، قبل ان يرتكب جريمة ما هذه الليلة.

وبالفعل هذا كل ما يجب أن يفعله الشخص الغاضب، أن يترك المكان فقط ثم يعود بعد أن يتخلص من نوبة غضبه الجامحة.

فتحت قمر الباب لوالدها دون أن تتكلم بشيء، وبوجه خالٍ من التعابير والمشاعر، نظر مأمون في وجه ابنته ثم مضى بعد ان ربت على كتفها وقال: احضري لي وسادة وبطانية سأنام هنا الليلة.

هزت قمر رأسها موافقة دون أن تقول أي شيء وذهبت لتحضر ما طلب والدها من غرفتها، فتحت الباب بهدوء وحمدت الله على ان الجميع نيام، ولم يسمع احد منهم على الاغلب ما جرى خارجاً.

كانت ماريا هي الاخرى تغط في نومها العميق غير مدركة لما جرى قبل قليل، اخذت قمر البطانية وعادت إلى والدها لتعطيه إياها وتخلد إلى النوم هي الأخرى.

بات مأمون ليلته مضطجعا، يتأمل حال زوجته الذي انقلب رأساً على عقب منذ عمله في هذه القرية، فقد صارت كثيرا ما تذهب إلى المدينة المجاورة، وتكون صداقات هناك، وهذا هو على الارجح هو سبب تغير اطباعها للأسوأ.

كان هم مأمون الوحيد هو أن يربي بناته بعيدا عن ثقافة المدينة المنحلة والمتهالكة اخلاقيا، هناك حيث المجون والرقص والخمر والغناء.

كل تلك الأشياء جعلت من مأمون رجلا لا يختلط بالناس؛ فقد علم انه لم يعد يصلح للعيش بينهم ومن الأفضل ان لا تعيش عائلته ايضا في ذلك الجو.

ثم قاطع تفكيره امر اخر، وهو "ماريا" ترى ما قصتها؟ وما الذي أتى بها؟ ورد ذلك السؤال على ذهنه، لكن سرعان ما دفعه عن ذهنه قائلا: الأيام كفيلة بأن تظهر كل شيء.


أما قمر، لم يكن في وسعها إلا أن تغمض عيناها التي تتسرب منها الدموع، تتذكر ماشهدته دون توقف، الأن هي تشعر أنها تعيش مأساة قد حدثت في منازل كثيرة.

وبالنسبة لحالتهم القديمة، فقد كانت النوع النادر، وها هي تراقب أسرتها الجميلة والصغيرة تبدأ بالتفكك.


لو كان بيدها لفعلت المستحيل لتعيد الأمور إلى مجاريها، ولكن حب الشهرة والمال والاختلاطات أعمى والدتها، لتحول مبتعدة عن طريقها الصحيح.


أنقضت ساعات الليل وحل الصباح على تلك القرية المتواضعة، ليعلن عن بدء يوم جديد استهلته العائلة باجتماعها حول مائدة الإفطار التي تعدها البنت الكبر قمر.

استيقظ الجميع إلا واحداً فقط، كانت هي ماريا فقد نامت عيونها البارحة وعلى امل ان تكون قد رأت كابوسا مزعجاً وسينتهي عند ساعات الصباح.

كان صياح الديك اعلى من ان يتركها نائمة تحلم بعودتها للمنزل، فأيقظها معيداً إياها إلى الواقع الحزين.

فتحت عيناها تتلفت حولها لتجد نفسها في ذات الكوخ الخشبي فعلمت ان الأمر ليس حلما، بقيت في فراشها جالسةً تضم ركبتيها إلى جسدها الصغير وقد اسندت رأسها لركبتها يائسة من الحياة.

كان كل ما يشغل بالها هو أين اخاها عمر! وهل سيكون من الممكن اجتماعهم أم لا؟

فتح باب الغرفة لتدخل نور الأبنة الصغرى في العائلة، وقفت عند الباب هنيهة ثم ابتسمت ودخلت مقتربة من سرير ماريا

واضعة يدها على كتفها تربت بلطف وقالت: ماريا هل انت بخير يا صديقتي!

رفعت ماريا رأسها بثقل وكأبة لترد عليها بكلمات أثقل: الحمد لله لا بأس.

أشارت نور بيدها وقالت: إذا هيا تعالي معي
لم تفهم ماريا وقالت: إلى اين سنذهب!
ابتسمت نور واجابتها: إلى الصالة الكل مجتمعون وهم بانتظارك، هيا.

حاولت ماريا اختلاق عذر لها وقالت: دعيني اجلس قليلا يا نور هذا أفضل

لم توافق نور على هذا وأصرت قائلة: لا،يجب ان تتناولي الفطور، انت لم تأكلي شيئا منذ البارحة، ثم امي تريد ان تراكِ ايضا، هيا.

ردت ماريا بالقول: شكرا لك، لكنني لا اشعر بالجوع.


الحت نور على ماربا حتى اقنعتها بترك السرير والذهاب معها، توجهت البنتان إلى الصالة حيث يجلس الجميع حول مائدة الطعام ينتظرونها.

أما هند فقد كانت تتأمل تلك الفتاة الغريبة، وترى فيها كل ما اخبرتها عنه قمر قبل قليل، بعد ان حكت لها قصتها الغريبة.

وقفت ماريا على بعد عدة خطوات تضم يديها إلى بعضهما وقالت: السلام عليكم_

رد مأمون وزوجته قائلين: وعليكم السلام، تفضلي يا ماريا

تقدمت ماريا بخطوات خجولة لتجلس بجانب نور واختها حور بدأت قمر بتوزيع الخبز على الجميع وعلى صوتهم وهم يرددون قول "بسم الله"

لتمتد الأيادي بعدها ويبدأ الجميع في الاكل، كانت ماريا تشعر بالتخمة على الرغم من أنها لم تأكل شيئا منذ وصلت إلى هنا ولكنه الهم والحزن اثقل كاهلها.

حاولت الفتيات الترويح عنها قليلا بمداعبتها والمزاح لتحاول أن تأكل بضع لقيمات يقمن صلبها.

كانت هند تنظر لها نظرة غير التي ينظرها الجميع لها، على الرغم من صغر سنها ولطافتها، إلا أن هند لم تعجب بها ولم تستلطفها أبدا.

مضى الوقت وشبع الجميع، يتراجعوا مبتعدين عن المائدة ونهضت البنتان حور ونور الصغيرة تقومان بتنظيف الأطباق وغسل الصحون.

اما مأمون فقد جلس ملتحفاً بطانيته بعد أن قضى ليلته في هذه الصالة الكبيرة التي جعلته يشعر بالبرد، أشار لماريا أن تأتي وتجلس بجانبه ليحدثها قليلا.

لبت ماريا أمر مأمون وأتت إليه لتجلس وتحكي له قصتها، وكيف أنها قد عادت في الزمن إلى الوراء قرابة الخمس مئة عام.

اما مأمون فقد كان يستمع مندهشا مما تقوله هذه الفتاة وهي تصف زمانها المتقدم بعماراته وتقنياته، وكل ما لا يمكن ان يتصوره عقل في ذلك الحين.

استرسلت ماريا في الحديث ومأمون يستمع إلى أن وصلت إلى العائلة، فحكت له عن أخيها عمر ووالداها وجدها، ومأمون منصت.

اما هند فقد استمعت لأول الحديث غير مسرورة،ثم نهضت متوجهةً إلى غرفتها وهي تتمتم وتقول في ذاتها "هذه الفتاة الغريبة الأطوار من اين اتتنا الأن"

لم يعجبها قدوم فتاة غريبة إلى منزلها، خاصة وانها كما كانت تصفها قمر في كلامها "محتشمة ومؤدبة"

استفزت تلك الكلمات هند وجعلتها تنفر من ماريا من اول لحظة، وتتمنى ان تذهب بسرعة قبل ان ينقضي النهار حتى، ولا ترى وجهها ذلك مرة اخرى.

أما مأمون فقد اعجب كثيراً بما سمعه من ماريا الصغيرة، عن اخلاق عائلتها وطريقة حياتهم وعاداتهم التي أحس بأنها مستمدة من عادات أجداده.

بدأ مأمون في الحديث بعدها موضحا لماريا بعض الذي يجري حولها قائلا: أنت الأن يا صغيرتي في بلاد الأندلس وفي عام ألف وأربع مئة وتسعين.

والأندلس يا صغيرتي، ارض فتحت في عهد دولة الأمويين واستمرت بعد زوال ملكهم كدولة صغيرة مستقرة.

ونحن في مملكة غرناطة، اجمل واروع ارض عرفها الزمان على الرغم من الواقع الذي نعيشه نحن في هذه الأيام لكننا واثقون بأن الفرج قريب بإذن الله.

جلست ماريا تستمع لما يقوله مأمون باهتمام وكأنها تكمل حكاية جدها التي كان يريد أن يرويها لها.

أبحر مأمون في الكلام عن بلاد الأندلس وممالكها، لعله يشرح قليلا من الواقع لماريا كي تستطيع العيش فيه، وانتقل ليعدد لها أسماء أكبر المدن والممالك، الأمر الذي كان يعرفه حتى الأطفال الصغار آنذاك.


قال مأمون في سرده عن البلاد: ونحن يا صغيرتي، بعد أن كنا في عز ومتعة ايام الدولة الأموية، تغير بنا الحال منذ عدة قرون حيث انتهى الحكم الأموي هنا وبدأت البلاد تتقسم إلى دويلات وممالك.

ومن تلك الدويلات قرطبة، وغرناطة، وطليطلة وإشبيلية والكثير من الممالك التي يحكمها ملوك الطوائف ونحن هنا في غرناطة، تحت حكم أل زيري وهم الملوك هنا والناس تدين لهم بالولاء.

قالت له ماريا: اتمنى لو كنت اعرف تاريخكم يا عم لابد ان هذه البلاد في عصري مزدهرة جداً.

رد عليها ما تمنت أيضا وقال مأمون: اتمنى ذلك فقد اتعبت الخلافات والمناوشات الداخلية الناس وكثرت عليهم الهموم والغموم، ولكن لا تبتئسي سأجعل ابنتاي تصطحبانك في رحلة حول القرية للترفيه عن نفسك قليلا.


رحبت ماريا بالفكرة، ووافقت متأملة ان تجد أخاها عمر في الأرجاء، في تلك الأثناء عادت الفتاتان حور ونور بعد أن انتهين من اعمالهن وجلستا عند والدهما، وهو يخبرهم بما عليهن فعله من اصطحاب ماريا في نزهة.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي