الفصل الثاني أمنية الجد الغريبة

عائلة رائف الاستقراطية ذات النفوذ والسلطة، عائلة عريقة النسب ولهم تاريخ وجذور مما يجعلهم يعتزون بأنفسهم ونسبهم كثيرا. كما إنهم يهتمون لصورتهم في المجتمع ومكانتهم كثيراً.

وبسبب مكانتهم وشهرتهم هذه كانت الصحافة والأخبار دائماً ما تلاحق أخبارهم وتتحدث عنهم.
وكنتيجة لذلك فإن عشاء العمل الذي أقامه رائف مع الراقصة الاستعراضية نال اهتمام كبير من الصحفيين، حيث نُشرت في اليوم التالي صور لرائف في بعض القنوات التي تهتم بشئون المشاهير ورجال الأعمال وهو يتناول العشاء مع راقصة استعراضية. وبدأت تخمينات قنوات الإشاعات أن هذه حبيبته، حيث إن العشاء كان تحت ضوء الشموع ولم يكن موجود به إلا رائف والراقصة. فأثار هذا غضب العائلة وخصوصا الجد الذي قرر إنه حان الوقت ليتخذ موقف صارم من تصرفات حفيده التي لم تعد تعجبه مؤخراً.

كانت المسؤولية على رائف كبيرة والعيون على حياته الشخصية أكبر. فبسبب شهرة عائلته ونفوذهم كان محط اهتمام الصحافة منذ بلوغه سن المراهقة، حيث كان حينها لا يمر أسبوع دون أن تظهره الأخبار ذلك المستهتر والغير مسؤول وتهمل جميع نجاحاته وإنجازاته. وهكذا مع الوقت أخذ رائف مناعة ضد هذه النوعية من الأخبار ولم يعد يتأثر بها.

استدعاه جده في اليوم التالي من انتشار الأخبار حول عشائه مع الراقصة شوشو، وكان الجد ميكائيل غاضباً جداً، حيث في ذلك الصباح وحده قام بكسر كؤوس الماء لشرب الدواء كلها، وكان الخدم في حالة استنفار وخوف.

بعد أن شرب كوب الماء والدواء من يد حفيده رائف، قال ميكائيل بصوته الرخيم:
"ألا تقدر المكانة الإجتماعية التي تشغلها العائلة!؟"

كان ميكائيل يبدو هادئ ظاهريا ولكن الغضب في عينيه هو ما يوضح لرائف مدى استيائه.

عندما اتصلت جدة رائف به وأخبرته عن مدى غضب جده ورفضه لأخذه الدواء، قطع رائف اجتماعه وخرج متجهاً لمنزل العائلة فوراً.

تنهد الجد عندما لم يسمع رد من حفيده. فرائف لا يحب من يتدخل في حياته حتى وإن كان جده. ولا يسمح مطلقاً لأحد بأن يتدخل. وبالتأكيد أن ميكائيل يعرف هذا تماما. ولكن رائف منذ مدة وهو تحت عيون الصحافة وتتصيد له الأخطاء، وعليه أن يتصرف بشكل ما. ويعتقد ميكائيل أنه عثر بالأمس على الحل الذي سيبعد العيون عن حفيده وكذلك يصلح ذلك الخطأ الذي ارتكبه منذ سنوات!

”العائلة مستاءة منك للغاية!“

زفر رائف بملل، فرغم احترامه الشديد لجده إلا أنه غير مستعد لمناقشة حياته الشخصية مع أي كان، حتى وإن كان جده!

قال بهدوء غاضب يماثل هدوء جده المزيف تماماً وقد ضم أصابع يديه في قبضتين:
"لم أفعل شيء يسيء إلى العائلة، وحياتي الشخصية تعنيني وحدي!"

استفزت هذه الكلمات ميكائيل فخرج عن هدوئه المزيف وضرب بقبضة يده على الطاولة بقوة فانقلب فنجان القهوة التي أمامه وهو يقول بصراخ غاضب: "هرااااء".

ولكن رائف تجاهل صوت جده الغاضب وقال بهدوء: "سأستدعي إحدى الخدم للتنظيف" ثم استدار نحو الباب.

شعر ميكائيل بالإحباط وتنفس بعمق وهو يرى حفيده الصعب المراس يتوجه نحو الباب بلا مبالاة. لم يقلل رائف أدبه على جده أبدا منذ طفولته. ولكن بإسلوبه هذا يوقف الجميع عند حدودهم دون أن ينبس ببنت شفة.

ارتفعت شفة ميكائيل بسخرية، فهو نسخته المصغرة.

مرآته، وكأنه يرى نفسه الشابة أمامه.

قبل أن يفتح رائف الباب قال ميكائيل بصوت مهزوز تصاحبه تنهيدة حزينة: "أمامي عام واحد فقط وأموت حسب ما يتوقعه الإطباء"

تجمد رائف في مكانه ثم التفت ببطئ نحو جده وعيونه متسعة. وهذا فقط ما كان إشارة إلى أن رائف يهتم. يهتم بجده، يهتم بعائلته!
فهو شخص محب عائلته بشكل كبير رغم برودته الظاهرة أمامهم، وعدم قدرته عن التعبير عن مشاعره.

وكان ميكائيل يعلم ذلك. فكيف لا يعلم وهو نسخته المصغرة ويذكره بنفسه، ذلك الشاب الذي يتعامل بعنفوان ولا يرضخ للمشاعر أبدا، باستثناء من سكنت قلبه زوجته ورفيقة دربه سيلا.

لذلك ميكائيل كان قد تجهز بشكل ممتاز لهذا الأمر ووضع خطة لن تفشل.

ركض رائف نحو جده وجثى أمام الكرسي المدولب الذي يجلس عليه ميكائيل، تأمل جده بعيون غير مصدقة فجده يبدو بصحة جيدة جداً.

"هل هذا صحيح يا جدي!؟" قال رائف بلهفة.

"نعم يا بني“ أجاب الجد بتنهيدة عميقة تعكس تأثره الواضح ثم أكمل: ”وقد كنت أخبئ هذا الأمر على الجميع. لا أريد أن أرى نظرات الشفقة، كتلك التي في عينيك الآن"

رمش رائف عدة مرات وهو ينظر في عيون جده، ثم استعاد رباطة جأشه ووقف واتجه نحو النافذة ينظر للخارج بعد أن وضع يديره في جيوبه وقال بإصرار: "سآخذك لطبيب آخر، سنبحث عن افضل الاطباء حول العالم ونذهب للعلاج، مهما كلف الأمر أو طال لا يهم"

هز ميكائيل رأسه بنفي وقال بصوت هامس منخفض لا يكاد يُسمع يوحي بأنه فاقد للأمل تماماً: "لا أمل يا بني، لقد رأيت العديد منهم. وكلهم يؤكدون نفس الأمر"

كان تأثر رائف واضح في عينيه، كانت نظرة الحزن كغمامة سوداء فوق بريق عينيه تحكي كل ما يشعر به، رغم جهوده ومحاولاته لإخفاء ذلك لأنه يعلم جيداً أن جده يكره الشفقة.

"لا أستطيع أن أقف مكتوف الأيدي، أخبرني ما عليا فعله. مهما تطلب الأمر فسأفعله"

نظر ميكائيل في عيون حفيده مباشرة وقال: "أن أرى ابن لك قبل أن أموت ... أن تتزوج"

وقف رائف جامدا في مكانه غير مصدق لما سمعه للتو!!

رمش عدة مرات يحاول استيعاب ما يطلبه جده.

ذكرى لزواجه السابق عصفت بذاكرته فمرت كسحابة مظلمة فوق عينيه. لقد أقسم ألا يكرر تلك التجربة أبدا. وأصبحت النساء بالنسبة له مجرد علاقات عابرة.

لا شيء يمكن أن يغير رأيه.

لا شيء!

ثم أعاد بصره نحو جده.

لا شيء يمكن أن يغير رأيه بالطبع!

إلا….

بدأ الجد يسعل بشدة مما أعاد رائف للواقع واتجه مسرعا نحو جده وهو يتحدث بقلق شديد: "هل أنت بخير يا جدي؟ هل استدعي لك الطبيب!؟"

أمسك ميكائيل بكلتا يدي رائف بعد أن جثى الأخير أمام كرسيه المتحرك، ثم قال ميكائيل بحزم: "سمعت أن جاد لم يستطع تسديد ديونه ... ولن يفعل بالطبع!!"

نطق ميكائيل بذلك وجاءته نوبة سعال أخرى. شعر رائف بالخيرة، ماذا يجب عليه أن يفعل الآن! زاد ضغط يدي ميكائيل على يديه يمنعه من الخروج أو إحضار المساعدة.

"ناولني الماء ... لا تقلق لن أموت الآن، أريد رؤية أطفالك أولا"
قال ميكائيل بتهكم رغم صوته اللاهث بسبب السعال المتواصل

لم يفهم رائف ما دخل جاد ذلك الموظف الذي اقترض مبلغ كبير من المال ولم يستطع سداده منذ عدة سنوات بمرض جده!؟

ولكن حيرته لم تطل، فقد قال له ميكائيل وكأنه يقرأ أفكاره:
"ستتزوج ابنته، وسيكون ذلك المال بمثابة مهر لها"

ازدادت صدمة رائف، وتحرك بعض الجمود الذي يلف قلبه البارد في العادة، كيف يطلب منه جده ذلك بعد كل ما حدث معه!!!

"حقق أمنية عجوز على حافة القبر"
أضاف ميكائيل بيأس.

نظر رائف لجده ورأى ما لم يره فيه من قبل، رأى العجز والمرض، الضعف والوهن، ذلك القوي الصنديد الذي قاد العائلة لعدة عقود بقبضة من حديد ضعيف كطفل رضيع!

يذكر رائف حين توفي والده لم يتوانى جده في تربيته. كان أقرب أحفاده له بسبب يتمه. ولكنه رباه على القوة والعزة، لم يربه على الدلال مطلقا، كان يجد الحنان فقط في حضن جدته سيلا، تلك التي كانت أم حنون له.

اغمض ميكائيل عينيه وكأنه يقنع نفس قبل إقناع رائف وهو يقول: "اعتبره عمل وواجب ناحية العائلة، ولا تنظر له بمنظور شخصي"

”أليست العائلة دائما هي أهم شيء؟“ أضاف ميكائيل بعد أن فتح عينيه ببطئ وهو يتجنب النظر لعيني رائف، فمهما كانت غايته فهي تنم عن مقاصد شخصية وإسكات ضمير طال عذابه.

ذلك السر الدفين بين جنباته ينخر قلبه يوما بعد يوم. تعب من كوابيسه، ولولا إن سيلا الحبيبة تحمل معه هذا السر لكان انهار منذ ومن.

لم يعرف رائف بماذا يجيب، فلطالما كانت مسؤولية العائلة فوق كل شيء كما قال جده الآن. ولكن ما دخل واجبه ناحية عائلته في إنجاب طفل من صلبه!!؟

وكأن جده قرأ أفكاره كالعادة وقال بتنهيدة عميقة: "إنها أمنية خاصة بي أتمنى أن تتحقق قبل موتي"

وهنا لم يكن لرائف الصلب العنيد إلا أن وافق! فقد حاصره جده في الزاوية. ورغم كرهه لهذا الإسلوب واستحالة خضوعه إلا أنه مستعد لتنفيذ أمنية جده الأخيرة وإن كان ذلك على حساب نفسه، فهو دائما ما يشعر بأنه مدين لجده وجدته بكل الحب والرعاية التي قدماها له.

”كما تشاء!“ هذا فقط ما قاله رائف ليعلن استسلامه لرغبة جده. ثم خرج عائداً إلى الشركة.

وبعد خروجه بعدة ثوان دخلت سيلا لزوجها كالإعصار وهي تتحدث بسرعة: ”ما الذي حدث؟ هل نجحت الخطة؟ فشلت صحيح؟ لقد أخبرتك إنه لن يوافق بهذه الخطة الغبية“

ولكنها لم تتلقى إجابة من زوجها، ولكن ابتسامة تسللت على شفتيه وعيونه بهما لمعة انتصار!

ضحكت سيلا ووضعت يديها على فمها ثم قالت بسعادة:
”وافق؟“

— — —

لم يضيع كل من سيلا وميكائيل الوقت أبدا، فحددا موعداً لزيارة منزل جاد في أقرب موعد ممكن.

وفي اليوم المحدد للزيارة ذهبت العائلة جميعا.

رائف وميكائيل وسيلا وريان ابن عمه الذي يعيش معهم في الفيلا.
حيث ان عمه نائف وزجته رُبا يعيشون في منزلهم الخاص.

كان رائف غير مبال بم يدور حوله في هذه الجلسة. لم يتوقع في الأساس أن يوافق جاد ببيع ابنته بهذه السرعة، ولكن حديث خاص بين جده وجاد، جعل جاد يوافق على كل الشروط.

غريب كيف إن الأموال تقنع الناس بالعديد من الأشياء!

أو هذا ما كان يعتقده رائف! فالأسرار التي ستنكشف له خلف هذا الزواج لاحقاً، ستجعله يغير مفاهيمه حول العديد من الأمور!

كانت إحدى الشروط التي اشترطها ميكائيل على جاد وأهمها أن تكون ابنته سليمة من ناحية الإنجاب.

فبالطبع هذا الزواج مبني على أساس الحصول على وريث، أليس كذلك!؟

أم …؟

دخلت لولا إلى الغرفة التي يجلس فيها الجميع. لفت دخول لولا إلى الغرفة أنظار الجميع ما عدا ذلك الذي منغمس في شاشة هاتفه يجيب على رسائل مساعدته الشخصية دون أن يهتم بدخول عروسه المستقبلية الغرفة أبدا. لم يكن شكلها ولا شخصيتها ولا شيء فيها يهمه. هي مجرد عائق في حياته فقط!!

همس ريان في أذن رائف بعد أن أطلق صفير إعجاب وقال: "صاروخ!! لو تريد أن أنفذ أنا وصية جدي بدلا منك سأفعل بكل رحابة صدر"

رفع رائف وجهه تلقائياً ليجد فتاة عكس ما كان يتخيل أبدا، كانت صهباء!!!

لقد تخيل إنها جميلة، وفاتنة، ومذهلة. فجدته أكثرث من مدحها بشكل مفرط قبل أن يحضروا.

ولكن بالإضافة إلى كل ما ذكرته فالفتاة صهباء بشكل مميز ولافت جدا، حتى هو اللامبالي ظل يحدق بها.

لون شعرها الناري وعيونها الخضراء وذاك الجسد في الثوب القصير.......

بعد أن طاف بعينيه من رأسها لأسفل قدميها عاد ببصره لوجهها ليشاهد نظرات نارية في عينيها تعكس مزاجها الناري الذي يوحي به لون شعرها.. وبراءة ملامح وجهها الطفولي.

نفض رأسه، فالمظاهر دائما خادعة.

أليس هو من تعلم درسه بالطريقة الصعبة حول تلك المظاهر الخداعة!؟

رفعت لولا ذقنها عاليا مستكبرة على نظرات رائف التقييمية لها وجلست بهدوء وثقة بجانب والدتها. ولكن الغريب والمفاجئ بالنسبة لرائف هو عندما سمع طلب جده عندما قال: "تعالي يابنتي واجلسي بجانبي" وربت على المكان الشاغر قربه

نظر لها والدها وأشار لها لتفعل ذلك. جلست لولا بجانب ميكائيل الذي أمسك يدها وقال: "هذه اليد لن تترككِ أبدا ما حييت، لا تظني إني جد له هو فقط، بل أنا جدك أيضاً"

رفع رائف حاجبه مستنكراً للعاطفة الغريبة التي أظهرها جده على عكس شخصيته القاسية.

توجه ميكائيل ببصره نحو رائف وأضاف: "وإن ازعجك حفيدي في يوم من الأيام ما عليكِ إلا أن تشكوه لي"

لم يكن رائف هو الوحيد الذي استغرب تصرفات جده، بل كان الجميع مستغرب لهذه التصرفات. كان رائف مصدوم تماما عندما ضم جده الفتاة نحوه!!

فكر رائف: ”إن الفتاة صغيرة، يبدو أنها في الثامنة عشر إن لم تكن في السابعة عشرة أو أصغر!!

نظرت لوليتا نحو الشابين الجالسان أمامها ويتضح من تعابير وجهها أنها لا تعرف أي هما العريس، فقالت الجدة وهي تلاحظ نظرات لولا بين رائف وريان: "رائف قدم نفسك للفتاة!"

التقت عيني لوليتا ورائف للمرة الأولى، كانت نظرة عميقة جدا رغم إنكار الطرفين لها.

لوليتا تشعر بالكره الشديد نحو هذا الانتهازي الذي سيسرق منها فرحتها بحب حياتها مالك.

وأما رائف فيرى فيها حمل ثقيل وضع على أكتافه ولا يعرف كيف سينتزعه.

من التوثر عضت لوليتا على شفتها السفلية المكتنزة بأسنانها اللؤلؤية البيضاء ما لفت أنظار رائف هناك.

استعاد رائف تركيزه وقال بتكبر وابتسامة جانبية تزين محياه: "أنا زوجك المستقبلي!"

كانت جملته كتصريح أو بيان لأمر سيتم لا محاله، أليس هذا في الأساس الغرض من موافقة!

كان دائما ما يلقي الأوامر ولا يأخذ مشورة أحد!
لا يطلب إنما فقط يأمر.

نهرته جدته سيلا وهي تقول بتأنيب محبب وابتسامة تزين ثغرها: "رائف بني، دعنا نأخذ موافقة الفتاة أولا"

عندها نظر رائف مجددا نحو لولا لاحظ التحدي في عيونها التي تبدو وكأنها حمراء من البكاء!

أرخى ظهره إلى ظهر الكرسي ورفع حاجبه وابتسامة ساخرة ظهرت على شفتيه، وكأنه يقول لها 'قبلت التحدي!'

فعلى ما يبدو أن الفتاة مجبرة أيضا.....

’هذا يبدو مثيراً للاهتمام!‘ فكر رائف.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي