الفصل الخامس عشر اا الشك

آخر شيء يريده رائف الآن هو أن ينزعج جده أو يشعر بالحزن، فكما أخبره الطبيب مؤخرا إن جده لا يتحمل الحزن أو الانفعال، جذب رائف لولا نحوه وقربها من صدره وابتسم ابتسامة قلبت ملامحه مئة وثمانون درجة حسب رأي لولا.

”لا شيء يا جدي، كنت فقط اخبر لولا كم إن العشاء بدونها يبدو باردا“
ثم حضن لولا أكثر وقبل فوق رأسها، ”لا أحب غيابها عني“

شعرت لولا بشعور غريب وهي بهذا القرب الكبير منه، دفئ صدره، رائحته، انفاسه الدافئة.

”أوووه، شكرا لك عزيزي!"
قالت لولا وهي تنظر لعيني رائف مبتسمة حتى ظهرت غمازتيها بوضوح مما جعله يسرح قليلا وهو ينظر لها.
عليها التصرف وكأنها تلك الزوجة المحبة، هذا ما ترتكز عليه الاتفاقية، فقد أخبرها رائف إنه لا يريد أن يشتبه أي أحد إن زواجهما يوجد به خلل، فهو لا يريد لجده بأن يشتبه بأي شيء عندما يحدث الطلاق بعد ولادة الوريث!

نظر لهما الجد قليلا بعيون متفحصة ثم ابتسم وقال، "أنا سعيد جدا من أجلكما، أنتما مخلوقان لبعضكما البعض" ثم استدار متجها نحو الممر الجانبي الذي يقود لجناح نومه.

في اللحظة التي استدار فيها ميكائيل ابتعد كل من رائف ولولا عن بعضهما البعض وكأن ماسا كهربائيا مر بينهما، موجة من الكراهية تدفقت بينهما. نظرت لولا لرائف بغضب بينما هو بادلها نفس الشعور ثم صعدت تركض من الدرجات نحو غرفتها.

أما ميكائيل فبمجرد أن ابتعد عن مرمى بصر كل من رائف ولولا امسكت زوجته سيلا بيده المجعدة وهي تقول مبتسمة، "يبدو إن طبيبك قام بعمل جيد وأقنع رائف بأن حالتك الصحية سيئة للغاية!"

من بعد تلك الحادثة، تتالت الأيام وكان كل من رائف ولولا يتجنبان بعضهما البعض، لا يلتقيان، لا يتحدثان، لا يتصلان ببعضهما البعض! ورغم ذلك إذا جلسا سويا صدفة أمام العائلة أو الضيوف فيتظاهران إنهما يحبان بعضهما البعض بشدة.

فبعد القلق الكبير الذي شعر به رائف عندما ذهبت لولا إلى التسوق خلسة، قرر إنه سيجعل مساحة بينهما، ليحمي نفسه من أي شعور يمكن أن يجعل له نقطة ضعف، حتى وإن كان هذا الشعور هو مجرد الاهتمام!

كان الاستحمام أول ما فكرت فيه لولا بعدما عادت إلى المنزل، كانت قد مرت على منزل والديها وتناولت معهم طعام الغذاء، فقد كانت في فترة امتحانات ولم تستطيع زيارتهم مؤخرا. طلبت منها والدتها البقاء لتناول العشاء أيضا وقضاء باقي اليوم معهم وستعد لها أطباقها المفضلة، إلا إن لوليتا لم توافق، فهي تعلم إنه يوم التسوق المسائي بعد نزول الراتب وهو أكثر ما تحب والدتها فعله برفقة بعض نساء الحي.

عند صعودها لسيارة السائق التقت عينيها بعيني مالك الذي كان يقف هو أيضا قرب سيارته وينظر نحوها، يبدو إنه أدرك وجودها ووقف ليراها، أشاحت ببصرها وصعدت إلى السيارة. لقد الكثير والكثير جدا منذ آخر مرة تحدثت معه، كان ذلك منذ ليلة الزفاف!

وعلى ذكرى ليلة الزفاف عادت بأفكارها الواقع وهي تتسائل،
'هل دفع رائف لوالدي مقابل شرائي أم إنه ينتظر حتى ….؟' فكرت قليلا ولكنها سرعان ما هزت رأسها تزيح هذه الفكرة المزعجة والمهينة، فلا فائدة من التفكير بسلبية وإحباط فهذا لن يزيدها سوى حزناً.

خرجت من الحمام وهي تلف منشفة، وجدت على السرير ملابسها مطوية ومجهزة، يبدو إن الخادمة جهزتهم عندما أخبرتها لولا إنها ستصعد لستستحم.

ارتدت ثيابها وجففت شعرها بالمجفف الكهربائي ثم نزلت للأسفل من أجل العشاء وتركت هاتفها في الغرفة، بدأ صوت الاهتزاز في الهاتف يدل على وصول عدة رسائل متتالية.

دخل رائف الغرفة وسمع صوت الاهتزاز، رفع الهاتف في يده.

من كان ليظن إن رائف سيرى اسم شاب يظهر أمامه على شاشة هاتف زوجته ولا يحرّك ساكناً!! أيعقل؟

حملق في الهاتف الذي يرن في يده وهو يقرأ إسم مالك مكتوب على الشاشة أمامه، ضم أصابع قبضته حول الهاتف بقوة وهو يضغط على فكه ونظرات عيونه ضيقة نحو الشاشة.

لقد تذكر هذا الشاب، لما لا يشعر بالراحة له رغم تأكيد لولا له إنه زميلها!!

ورغم موجة الحرارة من الانفعال والغضب التي تصاعدت في داخله؛ إلا إنه أخذ نفس عميق وارتدى قناع البرودة المعتاد على ملامحه واتجه نحو الاسفل.

لم يكن يظهر على ملامح وجهه أي أثار للاستياء أو الغضب، فهو بارع جداً في إخفاء مشاعره، كان ذلك الدرس القاسي منذ زمن قد أحسن تعليمه وتدريبه ليكون بألف قناع ووجه وأن يخفي مشاعره خلف قضبان حديدية يصعب سبر أغوارها.

إخفاء المشاعر، هي لعبته!

كان الأمر طبيعياً جداً وهو يجلس على طاولة الطعام على يمين جده، مرتدي قناع الجدية وابتسامة متكلفة متقلدة شفتيه كما العادة. تبادل بعض الحديث حول الأعمال مع جده وهو يخبره ما حدث هذا اليوم مع شركة الإعلانات والدعاية وجميع التطورات الجديدة.

فقد وقعوا العقد مع شركة والد تيم بالشروط التي يريدونها.

كان رائف في هذه اللحظات يمثل الهدوء ويوهم نفسه بأنه لم يتأثر، عليه فقط إرجاء الأمر حتى يتأكد ويتحقق بأساليبه الخاصة ما إذا كان هناك ما يدور من خلف ظهره أم لا!

كان هادئ منغلق على نفسه كما هي عادته وشخصيته حتى جاء صوتها من جانبه وهي تطلب منه أن يناولها الملح، أمسك علبة الملح وناولها إياها وموجة من الغضب كالبركان تصاعدت عبر عروقه وشريانه وكأنها الطوفان.

النظرة التي في عينيه جعلت لولا تتجمد في مكانها.

كانت نظرة مليئة بالغضب الصامت والبرود القاسي، نظرة تراها للمرة الأولى في عينيه.

رمشت عدة مرات بتوتر فقد كانت تشعر بالهدنة الصامتة التي بينهما منذ عدة أيام، فماذا تغير؟

أبعدت عينيها فورا وحملقت في صحنها، لا تعلم لما شعرت بالخوف!! ولكنها شعرت به لدرجة ارتجاف يديها.

"كيف كانت امتحاناتك عزيزتي؟"

قالت الجدة لتكسر هالة الرعب التي أحاطت بولا دون قصد منها، فكرت لولا إنه ربما رائف قد علم شيء ما حول علاقتها السابقة بمالك؟ ولكنها استبعدت الفكرة فورا.

"جيدة. لم هناك الكثير، لقد مررت بوالدتي بعد الدوام وتناولت معهم طعام الغذاء"

توقف رائف عن الأكل للحظة بعد أن سمعها تذكر ذهابها لمنزل والدتها.

’لما لم يخبرني ذلك السائق الغبي بهذا الأمر؟' فكر رائف والغضب يزداد داخله.

ولكنه سرعان ما ضحك على نفسه وهو يفكر 'أيعقل أن تجعلك هذه الصغيرة تتصرف كزوج غيور؟ لا تورط نفسك يا رائف ولا تدخل في متاهات البحث ورائها ومراقبتها، هي هنا لتنجب الوريث وترحل للأبد!'

'لا يوجد امرأة تستحق وقتك واهتمامك وولائك!'

بعد عدة دقائق صعدت لوليتا لغرفتها متحججة بأنها ستدرس قليلا قبل النوم.

ورائف اتجه نحو غرفة مكتبه ليقوم ببعض الأعمال.

"هل تعتقد إن هذا الزواج سينجح؟"

قالت الجدة لزوجها الذي تنهد بعمق ثم أجاب: "يجب أن ينجح، أنت تعلمين إن هذا أقل ما يمكننا أن نفعله من أجلها"

"أخشى أن نكون قد تسرعنا في ذلك! قلت يبدو إنهما متوافقان رغم محاولتهم إظهار عكس ذلك أمامنا"

"بل نحن قد تأخرنا كثيرا عزيزتي سيلا، كان علينا أخذ هذه الخطوة منذ زمن طويل، منذ ذلك اليوم وهي بعمر الثالثة"

بالطبع لم يكن الجد يتحدث عن الزواج، بل ذهبت به ذاكرته إلى ذكريات أليمة انعكست على ملامحه، وما أن لاحظت زوجته ذلك قالت له محاولة ابعاده عن تلك الذكريات: "أعتقد إن رائف لن يذهب في شهر العسل أبدا، إنه فقط يماطل"

"سوف أتحدث معه غدا وأجبره على ذلك"

غمزته زوجته وهي تقول هازئة: "يا لك من عجوز لا تملك الحنكة والخبرة، لا أعلم كيف وقعت في شباكك سابقا"

رفع العجوز حاجبه مستنكرا قولها الغريب فضحكت وأكملت،
"هل تعتقد إن رائف سيذهب حقا ويترك أعماله؟ أو إنه سينصاع لأمر يجبر عليه!؟ دعنا نذهب نحن في رحلة استجمام، وندع المنزل لهما لفترة، ربما هكذا يعتادان على بعضهما البعض أسرع"

وقف الجد وقال، "افعلي ما تشائين، المهم أن تأتي هذه الجهود بثمارها"

في المكتب، كان رائف قد اتصل بمساعدته الشخصية فور أن دخل إلى المكتب وطلب منها أن تتواصل مع المحقق الذي يتعاملون معه دائما للتحقيق حول بعض العملاء. وطلب أن تجعله يحقق حول شخص اسمه مالك ويأتي له بتقرير شامل في أقرب وقت.

أما عند لوليتا فقد تسارع قلبها وهي ترى الرسائل والمكالمات الفائتة من مالك، أيعقل أن يكون رائف قد شاهدها؟

'ذلك المتهور!! لقد وضعته في الحظر من كل مكان ولكني نسيت رقمه هذا، أوووف يا لي من غبية!' فكرت وهي تتحرك في الغرفة ذهابا وإياباً بتوتر.

'هل أخبره إن زميلي اتصل بي حتى لا يشك؟ ولكن هذا يبدو غبيا أن أقول هيي رائف إن زميلي من الجامعة اتصل بي'

"أووووف"

بعد أن احتارت ما يجب عليها فعله أمسكت هاتفها بقوة واتصلت بسوزان التي أجابت بعد الرنة الأولى، عليها أن تستشيرها قبل أن تتصرف فهي الآن تشعر إنها غبية لا تستطيع التفكير وكأن عقلها قد توقف عن العمل.

"ماااذا؟"

صرخت سوزان عبر الهاتف ما أن أخبرتها لولا عن الأمر.

"هل أنت غبية؟ كيف تتركين له المجال ليتصل بك؟ أنت تعلمين إن مالك مجنون ويفعل أي شيء"

"أخبرتك إنني نسيت هذا الرقم، لم أعتقد حتى إنه لا يزال يستخدمه"

"هل أنت متأكدة يا لولا؟ أخشى أنك قد شعرت بالحنين له اليوم بعد أن شاهدتيه في شارع منزل والديك!"

"هل تمزحين؟ أنا أراه يوميا في الجامعة!! هيا أخبريني ما الذي عليا فعله"

"لا أعلم، نحن لا نزال لا نعرف شخصية رائف جيدا، لا نعرف اسلوبه، ربما هو لم يكن غاضبا منك ولكن من شيء آخر ولم يشاهد هاتفك حتىّ"

شعرت لولا بالقليل من الأمل يصعد إليها: "أتعتقدين؟"

"حسنا، إذا سألك لا تنكري، وإذا لم يسأل لا تخبريه"

"ماذا إن قال بعدها إني خبأت الأمر عنه"

"أخبريه إنك لم تعتقدي إن الأمر مهم"

قذفت لوليتا نفسها على السرير بعد أن انهت المكالمة وارتدت ثياب النوم لتدعي النوم وتهرب من مواجهة رائف.

دخلت تحت الغطاء ووضعته فوق رأسها وفتحت هاتفها لتتصفح الإنترنت قليلا، بعد أن أدارت شاشة هاتفها عدة مرات تتصفح حسابها الإنستقرام، تدفق إشعار محادثة واتساب أعلى الشاشة.

فتحت الإشعار.
[لقد بدوت جميلة جدا في حفلة زفافك]
كان هذا مضمون الرسالة.

ثم وصلها فيديو لها وهي مع مالك بفستان زفافها في الحديقة الخلفية، كان الفيديو قد تم اقتصاصه وهو عبارة عن لقطات لها وهي تسير مسرعة نحو الحديقة الخلفية واللحظات المؤثرة كيف حضنها مالك ودخلت معه داخل الحجرة الخلفية في الحديقة.

ارتعشت يديها من الصدمة وتجمدت مقلتيها وهي تشاهد الفيديو أمامها.
في البداية لم تستوعب من وكيف وماذا!!

فتحت محادثة الواتساب وأعادت قراءة الرسالة.
[لقد بدوتِ جميلة جدا في حفلة الزفاف]
قرأتها مرارا وتكرارا، ثم نظرت نحو رقم المرسل، لقد كان رقم غريب غير مسجل في قائمة جهات الاتصال لديها!

لم يكن هناك اسم ولا صورة ولا وصف تحت الرقم.
خطر ببالها أن يكون مالك، وهو يحاول التلاعب الآن بأعصابها، ولكن عندما فكرت قليلا تذكرت إن الذي كان يقوم بتصوير هذا الفيديو بالتأكيد ليس مالك!

مالك معها بالفيديو، إذا من كان الشخص الذي يقوم بالتصوير؟؟

وهي منغمسة في افكارها لم تشعر بدخول رائف للغرفة، الذي اتجه نحو غرفة الملابس وارتدى ثياب النوم بعد أن استحم.

فتحت لولا محادثها مع سوزان وارسلت لها الفيديو، ثم بدأت بالكتابة تخبرها عن الموضوع.
فجأة انسحب الغطاء من على رأسها وتلتقي بعيون رائف، الذي رفع حاجب واحد ما أن لاحظ إنها لا تزال مستيقظة وممسكة هاتفها.

هو في العادة لم يكن يهتم عندما تمسك هاتفها حتى وقت متأخر، ولكن ما شاهده سابقا جعل شعور غير مرحب به يجتاحه.

الشك ربما!!

"ظننتك قد نمتي؟"

ثلعثمت لولا وهي تحاول مجارات الحديث:
"ل.. لقد .. لقد كنت على وشك النوم ولكن.. أم .. أم ولكن حدثني سوزان"

"هل اتصل بك أحد آخر غيرها؟"
كان السؤال غريب، وقعه غريب على مسامعه هو نفسه وهو ينطقه!
لا يعلم كيف خرج من بين شفتيه.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي