الفصل الثالث بنود العقد المستحيلة

متظاهرة بعدم الاهتمام، نظرت لوليتا حولها في كل اتجاه ما عدا للرجل الجالس أمامها. يربكها حضوره بشكل كبير، منذ لقائهم الأول في منزل والدها وهي تشعر عند حضوره بعدم الراحة. فنظراته قاتمة جدا. وقد زاد ارتباكها ما حدث منذ قليل في المحل التجاري.
هي حتى لا تعلم كيف أطاعته بكل سهولة وجاءت بصحبته لهذا المطعم!
’حسناً، المهم هو إن مالك لم يلحق بنا، وإلا كنت سأقع في مشكلة كبيرة مع والدي‘ فكرت لولا في عقلها وأطلقت تنهيدة ارتياح.
’سأستمع لما يريد قوله بسرعة وأعود للمنزل وحينها س……‘

"هل ستستمرين في النظر لأصابعكِ طويلاً؟"
قال رائف بسخرية يقطع حبل أفكارها وهو يتأملها ويضع ساق على ساق ومتكئ بكل أريحية على الكرسي.

رفعت بصرها نحوه بتفاجئ في بادئ الأمر ورمشت عدة مرات ولكن سرعان ما تحوّل تفاجئها إلى غضب.
’يا لي وقاحته!!‘ قالت في سرها ثم نطقت بتسرع والشرر يتطاير من عينيها الخضراء:
"ربما أتمتع بالنظر لأصابعي عوضاً عما هو متاح أمامي"

هو يعلم إنها تكرهه فهذا شيء أوضحته تصرفاتها منذ اليوم الأول، ولكن لم يتوقع إن لها لسان سليط أو جريئ!

ارتفعت شفتيه في ابتسامة جانبية، يبدو إنه سيستمتع كثيراً خلال الفترة القادمة، فهذه الطفلة تعتقد إنها تستطيع أن تتحاوز خدودها ببساطة؟

قال بصوت هادئ ومربك وهو يرفع إحدى حاجبيه:
”يبدو إن للقطة مخالب!!“

تجاهلت تعليقه فهي لا تريد أن تدخل معه في جدال. أساساً ليس من طبيعتها أن تجيب أحد بوقاحة ولكنه كان مستفزاً جداً. قررت إنها ستحاول أن تبدو أكثر هدوءاً لكي لا تقع فريسة سلطته.

نظرت لساعة يدها وقالت:
”سوف أتصل بوالدتي لابد إنها قلقة علي، لقد تأخرت كثيراً“

لاتزال تربكها نظراته التي لم تنزل من على وجهها ولو لثانية، وكأنه لا يوجد أي شيء يفعله في الحياة سوى النظر إليها بعيونه القاتمة التي يبدو عليها الشر. كان يبدو شريرا جدا بالنسبة لها وكأنه سينقض عليها في أي لحظة.

بدلته الرمادية وقميصه الابيض يعكسان أناقته وكأنه أحد المشاهير. ولكن تلك الهالة الخطيرة التي تحيط به تظهره كرجل عصابات أو شرطي تعذيب نفسي متمرس.

قال دون أن يبعد عينيه عن عينيها وهو ينظر لها بشكل مباشر:
”ضعي الهاتف على الطاولة ولا تتصلي!“

أوتوماتيكيا ولا شعوريا تصرفت لولا عكس طبيعتها المتمردة وفعلت ما طلبه منها بالضبط. كان وكأنه خدرها بمغناطيسيته الجذابة! وما أن وضعت الهاتف على الطاولة ونظرت ليدها وهي تضع الهاتف، رمشت ورفعت نظرها نحوه مجدداً ونظرت للابتسامة الجانبية التي على شفتيه، ابتسامة نصر صغير! وحينها فقط أدركت ما فعلته!! وقالت في نفسها:
’تبا!! كم أنا غبية لما فعلت ما طلبه!‘
شعرت إنها في موقف محرج تحت نظراته وابتسامته الساخرة.

قال لها وهو يتكئ للأمام على الطاولة ويضيق عينيه الجذابتين لينظر لها بتركيز متصنع:
”طلبت مني والدتك أن أحضر لكي أدفع مقابل ثوب الزفاف! لذا فهي من أخبرتني إنني سأجدك في محل لملابس النوم النسائية“

لم يخبرها بأنه شاهدها في الطريق قبل أن يقابل والدتها، وإنما اقترب للأمام أكثر وأضاف بصوت هامس:
”قالت إنكِ طلبتِ قميص نوم خاص من أجل الزفاف!“
أراد أن يحرجها ولا يعلم سبب استمتاعه برؤيتها منحرجة واللون الأحمر يغزوا وجهها!

”هل هو ذلك القميص الذي ناولتك إياه البائعة؟“
رمشت عدة مرات بعد أن شعرت أن دلو من الماء البارد قد سكب فوق رأسها، لما فعلت والدتها ذلك إن هذا مهين جدا بالنسبة لها.

”يبدو جيداً لعرض البضاعة لأول مرة!“
بعد سؤاله هذا هرب اللون من وجهها وكأنها رأت شبحاً أمامها، فتحت فمها واقفلته عدة مرات تحاول إيجاد رد مناسب ولكن الكلمات لم تخرج.

اتكأ رائف للخلف على كرسيه بكسل وهو يستمتع بما يراه، فكل النساء في نظره لعوبات يظهرن البراءة ولكنهن انتهازيات يفعلن أي شيء من أجل الوصول لهدفهن. قال بصوته العميق:
”لما تبدين مصدومة جدا؟ أنتِ تعلمين إنها صفقة بيع وشراء! أليس كذلك؟“

احمر وجه لولا من الغضب وأمسكت كأس العصير الذي أمامها لترشقه به، طريقته في الحديث تجعلها تظهر كفتاة رخيصة واستفزتها لأقصى درجة.

أما رائف فقد كان يستفزها ليدفعها للموافقة على ما سيطلبه.
أمسك يدها قبل أن تقوم برمي العصير عليه وقال:
”لا أنصحك بمثل هذا التصرف في مكان كهذا! إلا إذا كنتِ لا تردين إنقاذ والدك من السجن!؟“

تأمل وجهها الغضب الذي يقارب على الانفجار والشرارة الكارهة له التي تدفق من نظراتها المشمئزة.
ثم نظر لملابسها الرخيصة والتي تدل على الحالة الاجتماعية البسيطة التي تعيشها، هو مستغرب حتى ماذا فعل والدها بكل تلك الديون!!

ابتسم ابتسامة جانبية ساخرة فيبدو أنه سيحقق هدفه من هذه المقابلة دون أي صعوبة أو جهد! يا لها من فتاة ساذجة!

ولكن من يدري ما سيخرج من هذه الفتاة الساذجة يا رائف، وإلى ماذا ستحولها أنت بنفسك.

ترك يدها وعاد بظهره للخلف ليتكئ على كرسيه. بنظرات متلاحمة مع نظراتها وابتسامته الساخرة لا تزال تلوح فوق شفتيه. أشار إلى أحد حراسه الذين يقفون أمام الباب بأصابعه فجائه الأخير مسرعاً وناوله ظرف مغلق!

نظرت لوليتا للحارس الذي غادر جانبهم بسرعة البرق، ثم لاحظت النظرات حولها وقد لفتت حركة رائف هذه أنظار رواد المطعم إليهم، فقالت بعصبية:
”هل تتجول دائما بالحراس هكذا؟“

أخذ الظرف الذي على الطاولة ومرر أصابعه فوق الغلاف دون أن يفتحه وهو ينتظر حتى ينال منها الفضول، ثم بعد لحظات قال بلا مبالاة: ”سيكون لكِ حارسان بعد أن نتزوج“

قالت فورا بعد أن ضحكت باستهزاء وعقدت كلتا يديها فوق صدرها علامة على الرفض:
”بالطبع لن أتجول في الأرجاء مع حارسان!!“

نظر لها مطولا مجددا وهو يتأمل ملامحها الفاتنة، كانت جميلة للغاية. مرر إصبعه تحت أنفه ليعيد تركيزه وهو لا يزال يجلس وكأنه فوق عرش ملك، وقال بترفع بعد أن دفع الظرف خلال الطاولة ليستقر أمامها:
”اقرئي هذه الأوراق أولاً“

نظرت له بإرتياب وضيقت عينيها بتشكيك. فأشار للأوراق بعينيه يحثها على البدء، فهو بدأ يخبر نفسه بأنه ليس لديه المزيد من الوقت لهذه الفتاة الصغيرة وعليه أن يخرج من هنا بسرعة ليلحق بموعده القادم.

أمسكت الظرف باستغراب وفتحته لتجد مجموعة مكونة من ثلاث أوراق داخله. نظرت نحو رائف ثم عادت ببصرها نحو الأوراق وبدأت في قرائتها. وما أن قرأت أول ثلاث بنود من العقد حتى اتسعت عيناها بصدمة وارتفع حاجبيها بذهول وفتحت فمها. وضعت الأوراق على الطاولة بعصبية وقالت:
”ما هذا الهراء؟“

نظر لساعته يتفقد الوقت، عليه أن يقنعها أو يجبرها على التوقيع بسرعة، ثم قال بنفاذ صبر:
”أنتِ لم تقرئي إلا أول سطرين، أكملي!“

ضحكت بخشونة ثم مررت يدها في شعرها تعيد خصلات خلف أذنها وقالت:
”ماذا سأكمل؟ إن هذا جنون، ثم في الأصل والدي متفق مع جدك ستدفع أنت له المال وتحل ديونه مقابل انجابي لك لوريث!! كل شيء تم الاتفاق عليه، ما لزوم هذا الهراء؟“.
ثم شخرت وهي تسخر منه: ”نحن مجرد بيادق إذا كنت لا تعلم“
وعندما لم يجيها وإنما رفع حاجب وكأنه لم يعجب بكلامها تمتمت:
”أو على الأقل أنا البيدق!“

نظر لها من رأسها وتوقف قليلا على شفتيها ثم نزل نحو اسفل عندها وظلت عيونه هناك وقال:
”لا أرى ما يثير اهتمامي في الحقيقة!“
احمر وجهها من الإهانة فأضاف:
”وأخاف بعد أن ننجب الوريث لا تستطيعين ترك غرفتي! إذا يجب أن آخذ احتياطاتي“

قالت بغضب وهي تكز على أسنانها:
”أنت مغرور!! وهذا لا يليق برجل! إذا كنت واحدا“ توقعت أن يغضب وأن ترد له إهانته.
ولكنه رفع حاجبه الذي به خط منزوع الشعر بسبب ضربة من سكين، كان الأثر من أعلى جبينه يقطع حاجبه ويصل أعلى خده بقليل، ورغم ذلك هذا التشوه لا يزيده إلا جمالا، وكأنه قادم من إحدى الأساطير اليونانية.
ولكنه مع ابتسامته الكسولة ورائحة عطره القوية وهالة الغطرسة التي حوله شعرت لوليتا وكأنه شيطان أمامها متمثل في صورة إغواء، وقالت وهي تفكر بصوت عالي:
”أنت شيطان!“

تغيرت ابتسامته للجدية وقسى فكه القوي وقال بابتسامة وقحة:
”أنتِ فتاة وقحة عكس ما يبدو عليكِ، خلال ربع ساعة ألقيتِ علي العديد من الإهانات، سأتأكد مستقبلا من أن أروض لسانك“.

لا تعلم لوليتا لما كلمته الأخيرة جعلت خيالات غير مرغوبة تزور خيالها، قالت لتبعد تفكيرها عما بدأت تشعر به:
”بنود العقد التي قرأتها غير منصفة في حقي، ثم لما علي أن أوقع عقد في الأساس؟! هل تحاول استغلالي؟“

”أكملي قراءة العقد وستفهمين!“ أجابها وهو يلقي نظرة أخرى على ساعته، لقد أخذت وقتاً أكثر مما توقع، ربما كل توقعاتك ستنهار في المستقبل يا عزيزي رائف!

بدأت لولا في قراءة العقد وفي كل بند من بنوده تظهر علامات الدهشة على وجهها وتتسع عينيها أكثر، كان يتأملها بتركيز. كل حركاتها وانفعالاتها طبيعية وعفوية، لا تحاول إخفاء أي انفعال أو ردة فعل!
’إنها جميلة جدا، وبريئة جدا!!‘ قال في عقله وهو يبتسم ’سوء حظها رماها أمامي‘.

انهت لولا قراءة العقد وهي غير مدركة لعيون رائف المتفحصة لها وقالت:
”لا يمكنني التوقيع عليه!“

زفر رائف، لم يعتقد إنها سترفض، لقد قدم الكثير والكثير جدا، أكثر مما تحلم به في حياتها!!
”لماذا؟ ألم تقرئي على ما ستحصلين عليه؟؟ فيلا وسيارة وحساب مصرفي لن تستطيعي إكماله طوال حياتك!“

قالت بحزن وصدق:
”لا يمكن أن يكون هناك اتفاق بين زوجين بهذه الطريقة، لا يمكن أن تنشأ عائلة هكذا!“

مرر يده في شعره فالموضوع بدأ يشعره بالملل، هل حقا كانت تتوقع منه أن ينشأ عائلة معها مثل الروايات ويعيشان بسعادة؟ فقال بواقعية:
”لن تكون هناك أي عائلة، أنتِ فقط ستنجبين لي وريث“

أجابت بحنق: ”أجل، ويمنع علي العيش معك بعد أن يصل ابننا إلى عمر العاشرة، ويمنع علي إقامة أي علاقة أو الارتباط ويجب أن أعيش لأربي إبننا فقط. وألبس كما تريد أنت وأخرج مع الناس الذين تحددهم أنت، ولا يمكنني المطالبة بعلاقة زوجية مع زوجي اطلاقا. ولا أرفض إذا هو طلب، ولا أتدخل في حياته العاطفية ولا يمكنني الخروج بدون حراس، ولا يمكنني التحكم في أي شيء حول ابني، وووووو“

ثم امسكت حقيبتها لتقف فقد على دمها وهي تردد عليه شروط عقده الغير منطقة. ولكنه كان أسرع منها وأمسك يدها وقال:
”وأضيفي ألا تغادري قبل أن أسمح لك!“

نظرت له بتحدٍ فقد استفزها لأقصى درجة.

أضاف رائف بهدوء:
”هل تريدين أن يدخل والدك للسجن مدى حياته؟“
رمقته بكره وجلست وهي تقول:
”الشروط غير مقبولة بالنسبة لي! لقد وافقت على شروط جدك وهذا يكفي! لما عليا أن أوافق على هذا الهراء؟؟“

”ولكني سأدفع بشكل جيد، الأموال التي ستحصلين عليها لا يمكن أن تجمعيها طوال حياتك“

”لما لا انجب لك الوريث وأحصل على الطلاق!؟ وبالنسبة لطفل منك اعدك إنني لن أطالب بحضانته مطلاقاً“

شعر بالإهانة من كلامها، لم يتوقع ابدا إن لها لسان سليط لهذه الدرجة، كانت تبدو مثل ملاك، من أين جاءت كل هذه الجرأة. ضحك ولكن ضحكته تخلوا من اي مرح وقال:
”لوليتا! انظري إلي! هل أبدو لكِ كرجل عاجز عن إقامة علاقة وانجاب طفل؟ أنا أريد ستارة اجتماعية“

قال ذلك ليغيظها، فهو مطلقاً ليس لديه أي علاقات ليتستر عليها،
ولكن أراد أن يرد لها الإهانة.

أما لوليتا فنظرت للبعيد ولا تريد الإجابة فهي كانت متأكدة أن النساء تحت قدميه كالأرز، ومن المؤكد إنه لا يريد الابتعاد عن تلك الحياة.

رن هاتفه وكانت مساعدته الشخصية فأجاب فورا، بعد أن سمع حديثها أجاب باختصار:
”أبدئي الاجتماع أنا في الطريق!“ ثم اقفل الخط.
لم يعتقد إن لقائه مع لوليتا سيأخذ كل هذا الوقت.
قال بجدية وهو ينوي انهاء الأمر باسرع وقت:
”أنت ستبقين زوجة لي حتى أنا أقرر العكس، وستتغاضين عن أي علاقة، وستحصلين على كل ما تريدين داخل غرفتنا وخارجها لا تقلقي“

قالت بغضب وهي تنهض لترحل من أمام هذا الوحش الذي أمامها:
”حقير!“ ثم خرجت راكضة من المطعم، ولم يمنعها هذه المرة بل قال لها قبل أن تبتعد:
”سأتصل بك مساء لأعرف ردك“
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي