الفصل السادس عشر اا الاتصال المجهول

"لا"

رغم كل التحذيرات التي أوصتها بها سوزان بأن تقول الحقيقة، إلا إن المفاجأة جعلت كل تلك التوصيات تتبخر.
تلك النظرة التي في عيني رائف أخبرتها بأن تنكر أفضل لها. لا تعلم لما ولكن كانت هناك نظرة غريبة في عينيه.

يا لك من مسكينة يا لوليتا! فأنت لا تعلمين ما ينتظرك. هذا الوحش الذي أمامك سيكشف عن وجهه البشع قريبا، وجه لونته تجربته الزوجية السابقة بأبشع الألوان!

لم يتحدث، بل نظر لها مطولا بنظرات ثم دون أن ينطق أي كلمة استدار وتركها وخرج للشرفة!

لم تعلم لولا ما عليها فعله، هل تتبعه إلى الشرفة وتخبره عن اتصال مالك بها؟ ولكن ماذا ستقول له؟ هي رائف اتصل بي مالك؟ فكرت إن هذا سيفتح عليها العديد من الأبواب التي لا تريد لها أن تُفتح.
في النهاية قررت إنها لن تخبره، لو كان يعلم شيء ما لكان سألها. هذا ما فكرت فيه لتسكت دقات قلبها المتوترة.

أما رائف فقد وقف في ظلام الشرفة ينظر إلى الفراغ أمامه، وضع كلتا يديه على سور الشرفة البارد وضم قبضتيه حتى ابيضت مفاصل يديه من شدة الضغط.
يحاول إجبار نفسه على الهدوء وعدم التسرع في الدخول إليها وجذبها بقوة وسؤالها عن سبب اتصال مالك بها ولما أنكرت.

ثم أخذ نفس عميق وزفره بهدوء يحاول تهدئة نفسه والتفكير بعقلانية.

فكر إنه ربما مجرد اتصال من زميل لها ربما بشأن الدراسة!

تنهد وهو يخبر نفسه،
’ولكن لما كذبت؟ لما قالت إنه لم يتصل بها أحد؟‘

’ربما نسيت؟‘ سخر منه عقله!

رفع يديه من على سور الشرفة ومررهما بين خصلات شعره بغضب وتوتر، يكره هذا الشعور بعدم اليقين، هذا الشعور يجلب مرارة لقلبه يستطيع تذوقها في لسانه. انهد ثم عاد لداخل الغرفة. اذا سيكون التقرير حول مالك جاهز، وحينها سيعلم كل شيء.
نظر ناحية السرير فوجدها نائمة.

أما لولا فقد كانت قبل لحظات تحدق في الباب المؤدي إلى الشرفة بترقب لما سيفعله رائف؟ كانت ترى خياله الواقف بجانب سور الشرفة عبر الستائر البيضاء. طال وقوفه هناك وأخذت تفكر إنها ستقول ببساطة إنها نسيت أمر الاتصال!
ليس هناك أمر لتخاف منه، فمالك هو زميل لها في الجامعة. ولكن المشكلة إنه إن واجه مالك فذلك المعتوه ربما يخبره بكل شيء!
هل إن علم رائف بعلاقتها السابقة بمالك سيقرر تطليقها وبعدها يدخل والدها للسجن؟
ولكن لا يحق له فعل ذلك!

قطع حبل أفكارها صوت خطوات من الشرفة فأغمضت عينيها فورا مدعية إنها غارقة في النوم. ثم سمعت صوت خطوات رائف تقترب من السرير، حتى شعرت بثقله على السرير.

حاولت أن تتنفس بهدوء وانتظام حتى لا تشعره إنها لا تزال مستيقظة. لا تعلم لوليتا كم مر من الوقت حتى نامت وغرقت في النوم.
لتستيقظ في الصباح على صوت قفل باب غرفة النوم.
فركت عينيها بكسل ثم نظرت لجانبها لتجد مكان رائف خالي.
اعتادت النوم بقربه ولا تشعر أبدا بالخوف أو التوتر، بل أدركت إنه لن يفعل أي شيء خارج عن إرادتها. لذا، فقد أصبح من الطبيعي أن تشعر بالأمان معه رغم كل شيء. لم تعد تشعر به ذاك الغريب بل على العكس.

كان رائف قد غادر الغرفة في الصباح الباكر بعد ليلة طويلة من الأرق والتفكير، مر من خلالها شريط زوجته السابقة وهي تخبره كلمات الحب والغزل ثم بعد ساعات يجدها في أحضان رجل آخر!!

كان حبه لها قوي عظيم جارف، أحبها بكل كيانه. كانت جينا أول حب يدق قلبه، ثم قتلت فيه كل دقات القلب من بعدها، قتلت فيه كل المشاعر وجعلته جسد خاوي بقلب لا ينبض. لا حياة في قلبه، لا روح. قتلت فيه جمال الحياة.

والأهم…

قتلت فيه الثقة!!

كان انتزاع حبها من قلبه واستبداله بالكره والسواد أمر قد قتل فيه الكثير! أصبح قلبه مجرد عضلة نابضة ولم يعد مؤهلا الحب.. لم يعد مخولا لينبض قلبه مجددا بإسم العشق.. فقد انطفأ ذلك القلب منذ زمن بعيد.

سأل نفسه في الليلة الماضية مرارا وتكرارا، ’لما لا يتمم شروط العقد ويحصل على الوريث وينهي هذه العلاقة التي بدأت صاحبتها بالتسلل داخل عقله!!؟‘ ’ما الذي ينتظره؟‘
ولكنه لم يحصل على أي إجابة.

لفت إنتباه رائف وهو يتوجه نحو غرفة الطعام الحركة الغريبة للخدم، كانوا يتحركون بسرعة ويحملون بعض الصناديق والحقائب.

”هل سنستقبل ضيوف؟“
سأل عندما دخل إلى غرفة الطعام ووجد جديه ميكائيل وسيلا يتناولان طعام الإفطار.

”اوووه، عزيزي رائف! حفيدي الرائع! قررنا أنا وجدك السفر لبضعة أسابيع!“
قالت سيلا وابتسامة واسعة على شفتيها.

”حقا!؟“
تعجب رائف وهو يجلس على طاولة الطعام.

”كما تعلم! جدك لا يحب البرد كثيراً، لذلك قررنا زيارة بعض الأقارب في الجزر الاستوائية، كما إن الطبيب أوصاه بسبب مرضاه أن يستقر هذه الفترة في أماكن أكثر دفئا فمناعته لا تحتمل“

ارتشف رائف من فنجان قهوته وقد شعر بالحزن على جده، يبدو إن حالته لا تتحسن، فكلما تحدث إلى الطبيب يخبره إنه لا يوجد أي تحسن.
ورغم ذلك قال رائف بصوت محايد فهو غير معتاد أبدا على إظهار مشاعره،
”متى ستعودان؟“

”نحن لم نذهب بعد وأنت تسأل متى سنعود؟“ ضحكت سيلا حتى بانت التجاعيد حول عينيها المفعمة بالحياة، ثم غمزت وهي تشير نحو باب الغرفة، ”أم إنك سعيد بذهابنا حتى تقضي وقتا بمفردك مع لولا“

دون أن يلتفت رائف للخلف شعر بوجودها خلفه، رائحتها المنعشة المميزة سبقتها. لا يعلم لما شعر بقلبه أسرع دقة واحدة! لم يكن الأمر سوى ثواني معدودة لم تصل حتى لربع الدقيقة واستعاد سيطرته على ذلك القلب الجامد وأعاد جبل الجليد ليتربع فوقه.

هكذا هو يرتاح، عندما يغلف قلبه الفولاذي بحصانة من الجليد لتمنعه بالتفاعل أو بالشعور بأي مشاعر خصوصا نحوها، لقد أصبحت أكبر مهدد لسلامة وأمان قلبه، لذا عليه دفعها بعيداً وبقوة!

قال بلا مبالاة وهو يقف ليهم بالمغادرة،
”لا تتأخرا فالمنزل كئيب دونكما!“

أراد أن يتظاهر أمام جديه بأنه ذلك الزوج المحب كما يفعل عادة، ولكن لم يستطع، قلبه ومشاعره الغاضبة وشعور حماية الذات لم يتركه لفعل ذلك.

استدار ليغادر فالتقت عينيه بعينيها المتورمة من قلة النوم.
كانت مقلتيه عبارة عن قطعتين من الجليد. اخترقت شدة برودة نظراته عروقها وشرايينها لتشعر ببرودة في قلبها.

علمت إن أمر ما مختلف، قلبها شعر بذلك!

جاء صوت سيلا من خلفه يقول،
”لم تتناول إفطارك!؟“

”شبعت!“
لم يبعد عينيه من عيني لولا حتى وصل إليها توقف لثانية درس ملامح وجهها وهي ترمش أمامه ببراءة، ثم تجاوزها وخرج من الغرفة!
لم يعرف هل يصدق تلك الملامح البريئة.. أم يتبع حدسه الذي يخبره بأن هناك أمر غير طبيعي.. خبرته التي تخبره ألا يثق بأي امرأة باستثناء سيلا!!

بقيت نظرات رائف تلك مصاحبة للولا طوال الوقت لا إرادياً، فكلما سرحت بتفكيرها قليلا تراءت لها نظراته الجليدية وسببت لها قشعريرة على طول عمودها الفقري. تمنت لو إنه سألها مجددا لكانت أخبرته عن اتصال مالك فوراً.

كانت جالسة في الكرسي الخلفي من السيارة تشاهد المناظر خارج النافذة دون تركيز وعقلها يفكر في أحداث ليلة البارحة، كان تصرفها خاطئ. كيف تصرفت بتلك الطريقة وهي الذكية سيدة المواقف؟؟ لا تعلم لما تتوتر دائما في حضور رائف وينزل على عقلها كل غباء الدنيا!!

بحركة عفوية ضربت على رأسها وكأنها تعاقبه لغباءه في التصرف ليلة البارحة.

رن هاتفها في حقيبتها ليعيد تركيزها للوقت الحاضر.

كان نفس الرقم الذي أرسل لها الفيديو!!!!

الفيديو الذي بسببه تخذر عقلها ووقف عن العمل.

اتسعت عينيها بمفاجأة وهي تنظر للشاشة، لم تتوقع الاتصال رغم كل شي، كانت تنتظر أن تصل إلى الجامعة لتتصل دون أن يقاطعها أحد الخدم.
اصفر وجهها وتسارعت دقات قلبها. رفعت إصبعا مرتعشا بسرعة لتضغط على زر الإجابة في الهاتف. ولكن عندما رفعت بصرها التقت عينيها بعيني السائق الذي بدا وكأنه يختلس النظر نحوها، وفور أن التقت عيناهما ابعد نظراته وتظاهر بأنه يقوم بمراقبة الإزدحام مما جعلها تتراجع عن الإجابة.

ماذا إن كان السائق جاسوس لرائف؟
هذا ما فكرت فيه لولا وجعلها تتراجع عن الرد على الاتصال.
بالطبع سيصل كل حرف تنطق به لرائف، وعليها أن تحل هذا الأمر بسرية تامة!

يا إلهي! لا يمكنها أن تتصور ما يمكن أن يحدث إذا شاهد رائف أو والدها هذا الفيديو!

تلتقي بمالك في ليلة زفافها وفي منزل عائلة رائف!! أين كان عقلها؟ كيف فعلت ذلك؟؟

كانت قد وصلت مبكرة قليلا عن موعد المحاضرة عندما نزلت من السيارة، تبعها أحد الحارسين الشخصيين الذان ارسلهما رائف خلفها، لسبب غير معروف بالنسبة لها قرر خرق الاتفاق بينهما الذي ينص على عدم مرافقة الحراس لها في الجامعة بعد حادثة التسوق تلك، وقام بالفعل بإرسال حارسان!!
لم تستطع سؤاله عن سبب خرق الاتفاق من جانبه، ليست في موقف للمفاوضة أوالنقاش، على الأقل حاليا حتى تحل مشكلة الفيديو!

التفتت لولا للحارس بعصبية وهي تكز على أسنانها وتقول،
”ماذا؟ ستلحق بي لداخل الجامعة؟ أنت تعلم أنه لا يجب عليك ملاحقتي داخل أسوار الجامعة!!!“

”ولكن….“ تلعثم الحارس.

”لا يوجد ولكن.. هذا محرج! عد إلى السيارة حتى تنتهي محاضراتي“

لم تترك له مجال ليتحدث واستدارت متجهة إلى أقرب مقهى جامعي حتى تنتظر سوزان هناك.

بعدما جلست على الكرسي وهي تمسك كوب قهوتها الساخن الذي اشترته للتو، جالت بنظراتها حول المكان للتأكد من أن الحارس لم يلحق بها. جلست بهدوء وارتشفت من قهوتها لتهدئ أعصابها قليلا ثم أخرجت هاتفها مقررة الاتصال بالرقم المجهول الذي أرسل لها الفيديو. ولكن قبل أن تفعل ذلك ارتفع صوت رنين الهاتف في يدها وعلى الشاشة ظهر الرقم المجهول مجدداً!

أخذت نفس عميق وحاولت أن تكون نبرتها هادئة ومسيطرة أثناء الرد،
”نعم! من المتحدث؟“
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي