لذة مسروقة

AmrAli`بقلم

  • الأعمال الأصلية

    النوع
  • 2022-08-24ضع على الرف
  • 26.8K

    جارِ التحديث(كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

الفصل الأول

قبل الحرب العالمية الثانية، حالة من الهرج والمرج تعتري الأجواء، وخمسة عشرة رجلاً يودعون عائلاتهم إلا رجلا واحدا يقف وحيدا حزينا، يبدو أنه من أصول أوروبية، ينظر للفراغ في بلاهة وعدم اكتراث كأنه يفكر في المجهول.
- صوت جهوري يأتي من بعيد لرجل يرتدي زياً عسكرياً: لقد انتهت الزيارة.
الكل ينظر باتجاه الرجل في حالة هلع واضحة، الدموع تنهمر من عيونهم وقت الوداع، وكأنهم موقنين أنهم لن يروهم ثانيةً.
-  ابتسم الرجل الغير مكترث، ثم اقترب من صاحب الصوت وهمس في أذنه باللغة العربية: مهلًا عليهم، إنها آخر مرة قد يرون فيها رفقائهم من ذويهم.
-  الرجل بوجه متجمد: لا علاقة لي بهذا، أنا أنفذ التعليمات فحسب، بقي على موعد التجربة خمسة عشر دقيقة، ويجب تحضيركم للقيام بها، ثم إنك تعرف أن التجربة في صالحكم أكثر منا، فنحن نحافظ عليكم من القتل.
-  ضحك الرجل بسخرية حتى نزلت دموعه، ومن بين ضحكاته همس متسائلا: تحمونا من قتل هتلر بأن تجمدونا لأربعون عاما؟ إذا كنتم لا تستطيعون حمايتنا فلما نفتخر بأننا مصريون؟ ولدت وأنا فخور بأنني مصري عربي، والآن أهرب من الموت بموت آخر، إنها حقا لبلد الأمان!
-  انكمش وجه الجندي ثم تكلم أخيرا: أنت تعلم بأن حرب هتلر ليست على مصر فحسب؛ وإنما على اليهود بصفة خاصة وما يسمون بتحت البشر، إن أتباعه وجواسيسه في العالم أجمع ونحن لا نريد خسارتكم، بعض اليهود في العالم وأيضا يهود مصر قد سافروا إلى القدس، واتخذوا منها مستقرا لهم يريدون إقامة دولة خاصة بهم، وأنتم لا تريدون ذلك، ونحن بالفعل لا نريد خسارتكم، فأنت والأربعة عشرة عالم من صفوة علماء المجتمع، أنتم كنز يجب الحفاظ عليه وإخفاءه حتى لا يتم تدميره.
صوت آلي ينادي: لقد حان الآن موعد التجربة الأولى للتجميد، رحلة ستستغرق أربعين عامًا، نتمنى لكم حياة جديدة في ظروف أفضل.
الجميع ينظر باتجاه الصوت بفزع، الغرفة تدور في أعينهم والوقت يمر سريعًا، الرجل يشعر بدوار في رأسه، وكأن أحدا قد لكمه بكل قوته على رأسه ليسقط أرضا بلا حراك...




(الفصل الأول)

فتح عينيه ليجد طبيبة شابة تشبه حبيبته تبتسم له قائلة: أهلا بك من جديد دكتور ميشيل.
نظر إليها ميشيل ولم يتفوه ببنت شفة، فالشبه متطابق بنسبة تسعون بالمئة، هل يعقل ألا تكون حبيبته؟
-  قطعت حبل تفكيره بكلماتها: بماذا تشعر الآن؟ ثم لوحت بيديها أمام عينيه سائلة إياه هل تراني؟
-  تنحنح ميشيل ناظرا إلى جسده الملقى على سرير أبيض، ويده اليمنى معلقة بالمحاليل، نظر حوله مطالعا أركان الغرفة البيضاء المنظمة كإحدى غرف الفنادق السياحية، ثم تكلم أخيرا قائلا: أين أنا؟ ماذا حدث؟ أريد ماء يا راشيل.
-  نظرت له الطبيبة بعطف ثم قالت: حسنا.. سأخبرك كل شيء بعدما أعطيك الماء، ولكنني أدعى الطبيبة دعاء، ولست براشيل كما ناديتني.
-  شعر بغرابة شديدة فلا زال يراها حبيبته: لستِ راشيل! كيف؟ وأكمل قائلا: أتظنين أنني لن أعرفك حين تبدلين لون عينيكِ وتصفيفة شعرك؟ بالأمس كان شعرك بنيا أشعثا وعينيكِ عسليتين، والآن عينيكِ بنيتان وشعرك يغطيه اللون الأسود، صغيرتي دعكِ من هذا المزاح فأنا أشعر بدوار في الرأس وكأنني قد نمت ألف عام وحلمت أحلاما غريبة ومخيفة أيضا.
-  حسنا خذ قرص الأسبرين هذا وكوب الماء، وبعد قليل سنتحدث وتخبرني بما حلمت، ولكن بعدما تعد معي من رقم واحد حتى رقم عشرة.
أخذ ميشيل منها الماء واستسلم إلى العد معها واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة خمس... حتى غط في سبات عميق.
خرجت دعاء من غرفة المريض غريب الأطوار وهي قلقة، فالمريض بالتأكيد سيصاب بصدمة حين يعلم بأنه في زمن آخر وعالم غير عالمه، لقد تمنت كثيرا لو وجدوا آلة للزمن تستطيع بها الرجوع للخلف لترى ذكرياتها المنسية، تتمنى لو استطاعت الرجوع أكثر من ذلك أيضا، فهي ترى أن أفكارها تشبه أفكار بطلات أفلام الأبيض والأسود، كم تمنت لو رأت هذا العالم ولو لدقائق معدودات، نفضت هذه الأفكار عنها بعدما وصلت أمام غرفة مدير المستشفى.
طرقت الباب ثلاث طرقات ليجيبها صوت من الداخل: تفضل.
دخلت الطبيبة مبتسمة مؤدية التحية العسكرية لرئيس المستشفى وهو يجلس على مكتبه، وعلى المكتب تتربع لافتة صغيرة كتب عليها العميد: سيف الدين غياض.
يبادلها التحية ثم يأذن لها بالجلوس فتعيد ابتسامتها ممتنه له.
- الحالة مستقرة نوعا ما سيادة العميد، ولكنه عندما استفاق أخذ يهذي قليلا، فأعطيته حبوب مهدئ حتى نام ثانية، أخشى عليه ألا يتمكن من استيعاب الزمن الذي أصبح فيه.
- مممم أرى أنه سيعلم الحقيقة سواء اليوم أو غدا، العقاقير المهدئة لن تمنع ظهور الحقيقة أبدا، حتما سيعلم كل شيء.
- ثم أردف قائلا: أخبريني يا دعاء بمَ كان يهذي.
-  لقد ظن أنني حبيبته وناداني براشيل، وعندما قلت له أنني لست راشيل، ادعى بأنني كاذبة وأني قمت بتغيير لون شعري وعيني كخدعة لكي لا يعرفني.
ابتسم العميد سيف الدين ثم فتح درج مكتبه واستخرج ملفا مكتوب عليه الحالة الخامسة عشر(ميشيل رافع عالم بيولوجي)، أعطاه للطبيبة دعاء ثم أكمل قائلا:
-   هذا الملف به كل ما يخص هذه الحالة، أرجو دراسته بعناية فائقة حتى تجيدين التعامل معه، وبالغد سأرفق معك طبيبا نفسيا آخر لمساعدتك في تأهيله للعودة للحياة مرة أخرى، ولكنني سأخبرك أمرا حيرني كثيرا، لقد عرفت كل شيء عن تلك التجربة، لقد كانوا خمسة عشر عالما من سيقومون بها، ولكن ميشيل اختفى قبلها بأيام قليلة، هذا مكتوب في التقارير، ما يحيرني هو ظهوره منذ أيام في أحد المختبرات السرية ومرفق معه ذلك التقرير، فأين اختفى وكيف ظهر بعد سبعون عاما؟! ورغم أن التجربة كانت لأربعين عاما؛ فقد بدأ الخمسة عشر عالما يظهرون واحدا يليه الآخر في آخر خمس سنوات فقط.
شرد قليلًا وكأنه يفكر في شيء ما ثم أكمل:
-  حين فحصت تقارير التجربة وجدت أنه تم تبديله بابنة عمه راشيل، لقد استفاق العلماء جميعا على سنوات متفاوتة وتم تجنيدهم في أجهزتنا المخابراتية، ولكنني لا أعرفهم لأن الأمر يعد سرا وأيضا لا أعلم أين ذهبت تلك الفتاة.
أريدك أن تقرئي التقرير، وتري لما تشبهين راشيل إلى هذا الحد، ربما كانت محض صدفة!
-  ردت دعاء بقلق قائلة: حسنا سيدي، سأبذل قصارى جهدي وأبلغك بالنتائج أولا بأول.
وقفت الطبيبة دعاء وألقت التحية مستأذنة إياه بالخروج فبادلها التحية وانصرفت.
ابتسم ابتسامة ذات مغزى وهو ينظر للباب، وجال في خاطره أن هناك مفاجآت كثيرة ستحدث من علاقة الطبيبة بمريضها .
-  تمتم بصوت خفيض: الآن سأعرف هل أنتِ بالفعل فاقدة للذاكرة كما يعرف الجميع، أم أن هناك خطب ما لا نعرفه.

خرجت دعاء من غرفة مدير المستشفى وهي تفكر بذلك التقرير الذي عليها أن تقرأه، ركبت سيارة أجرة لتوصلها حيث مسكنها بمنتصف المدينة، وما إن وصلت ودخلت البناية التي تسكن بها مع أمها حتى جرت على الدرجات بمرح، وكأنها طفلة في العاشرة من عمرها، فقد اعتادت على ذلك، ودائما ما تنهرها أمها بسبب أفعالها الطفولية.
وصلت إلى باب شقتها لتدق الأجراس بسرعة هستيرية، صوت يأتي من الداخل لسيدة خمسينية بيضاء البشرة وبدينة نوعا ما: انتظري.. انتظري، حدثت أمها نفسها: لا بد وأن الطارق دعاء، لن تكبر تلك الصغيرة المجنونة مهما نالت من شهادات علمية، حتى وإن صارت يوما ما وزيرة الصحة، ستظل تفزعني بطرقاتها تلك.
فتحت الأم الباب فاحتضنتها دعاء بطفولية، وظلت تدور بها وهي متعلقة برقبتها فرحة بلقائها، منزلهم كان قديم الطراز، اللون الأبيض يحتل المكان، "الجرامافون" الموضوع بعناية فوق منضدة فضية اللون، وصوت لنغمات عمر خيرت تنساب ببطء عابرة إلى أسماعهم.
-  الأم مصطنعة الجدية: ألن تكبري أبدا أيتها العابثة؟ ستجعلينني مجنونة مثلك إن لم أمت بسببك.
-  أجابت دعاء وابتسامة مكر ترتسم على شفتيها: أخبرتني يوما أنني حتى وإن صرت صاحبة مائة عام سأظل صغيرتك المدللة، سأظل أمارس جنوني ولدينا خيارين، إما أن يهديني الله للعقل، أو سأجعلك مثلي. ولكنني أرجح أننا سندخل قريبا لمستشفى العباسية فقد سمعت أن هناك سريرين لا زالا فارغين.
وضعت يديها على بطنها ثم لعقت شفتيها، فقد شمت رائحة الطعام الذي يملأ أرجاء الشقة.
-  وأكملت قائلة بابتسامة: رائحة ورق العنب تحتل الشارع من أوله لآخره، أكاد أجزم بأن الجيران قد يحسدوننا على هذه الرائحة الزكية.
-  ضحكت الأم ملئ قلبها وأجابت: حالا يا مجنونتي الصغيرة سأحضر لكِ الغداء، لأنني والحق يقال أتضور جوعا، وأريد التحدث معكِ في موضوع مهم.
-  أغلقت دعاء إحدى عينيها ثم تحدثت بمكر: أظن أنني أعرف ذلك الموضوع الذي لا تكفين عن الحديث عنه.
-  الأم بجدية: أبلهاء أنتِ يا صغيرتي؟ لقد أخذ مني العمر الكثير وأريد رؤية أحفادي، وأريد أكثر الاطمئنان عليك و...
-  قاطعتها دعاء قائلة: ولكنني يا أمي لن أتزوج بهذه الطريقة، نحن في القرن الواحد والعشرين، لسنا في الخمسينيات كي أتزوج عن طريق خاطبة!
-  لا تستبقي الأحداث يا صغيرتي فالموضوع مختلف هذه المرة، دعينا نحضر الغداء ثم نتكلم ونحن نأكل، قالتها الأم وهي تبتسم ابتسامة انتصار.
انتهت دعاء أخيرا من المباحثات والمناورات التي لا تنتهي مع أمها، فتارة تأتيها خاطبة تريد تزويجها لأحد أثرياء الخليج، وتارة أخرى يراها ابناً لصديقة أمها فيتقدم لها دون معرفتها حق المعرفة، فسمعة أبيها الراحل وأمها الزاهدة تشع نورا يلاحقها أينما ذهبت.
هي تبحث عن ذاتها التي اختفت تماما لعدم اختلاطها مع الناس، حتى أنها لم تكوّن صداقات منذ صغرها، تتمنى لو تصبح بطلة لإحدى الروايات التي تقرأها، فهي لا تجد نفسها أقل جمالا من أسيل طبيبة زيكولا، الذي خرج من أجلها ملكا بجيش دولته مضحيا بكل شيء لأجل حبها مقدما حياته تحت قدميها.
لن تتنازل عن ذلك الأمير، فارس الأحلام، فإن كانت أسيل طبيبة زيكولا الأولى، فهي ستصبح ذات يوم طبيبة مصر الأولى.
نفضت دعاء أفكارها المحرقة، وأخرجت الملف الذي أعطاها إياه رئيسها في العمل، تصفحت وريقاته التي تعود طباعتها لما قبل 1940، الصفحة الأولى بها بعض الصور التي تخص ميشيل وعائلته، قلبت الصور حتى وجدت صورة تشبهها كثيرا ولم تستطع أن تجد الفارق، خاصة وأن الصورة قديمة (بالأبيض والأسود).
ميشيل مزدوج الجنسية، رجل في أواخر العقد الرابع، ولد لأب مصري وأم ألمانية، درس في كلية العلوم جامعة القاهرة، ثم حصل على الدكتوراه من جامعة ميونيخ، عمل فترة كبيرة في المختبرات السرية التابعة للنازيين، وابتكر غازات جديدة تثير أعصاب أسرى الحرب مما يدفعهم لقول الحقيقة دون الشعور بأي ألم، ولسوء حظه أمره أدولف هتلر بأن تكون أول تجربة عليه شخصيا، وتمت التجربة؛ فاعترف حينها بأن أباه وأمه يهوديا الديانة، والحقيقة أنه كان يخفي ذلك لعلمه بأن النازيين يضطهدون اليهود جميعا.
كما اعترض على السياسات الداخلية والخارجية لأدولف هتلر، ونعته بمجرم حرب هو وميليشياته، من حسن الحظ أن أدولف هتلر لم يحضر تلك التجربة وكلف باحثا علميا بمتابعة تطورات التجربة، وقبل أن يعرف هتلر أي شيء، ساعده مديره بالعمل بأن حقنه بحقنه قللت من نبض القلب إلى نبضة واحدة في الثانية، فاعتبروا أن التجربة فشلت رغم نجاحها وقاموا بتسليم جثمان ميشيل إلى السفارة المصرية ليدفن في مسقط رأسه.
أخرجت دعاء صورة راشيل وصورة والدتها، تمعنت النظر فيهما كثيرا تتأمل ملامحهما المتشابهة، كانت دقات قلبها تتزايد كلما وقع بصرها على صورة أم راشيل التي تشبهها نوعا ما، ذكريات مشوشة تحتل عقلها، جال في عقلها لقطات باهتة لنفسها وهي تداعب أم راشيل، شعرت وكأنها تعرفها وجدت دموعها تنهمر رغما عنها، قلبت الصور على ظهورها بحثا عن أي معلومات قد تكون مكتوبة على ظهر الصور، ولكنها لم تجد شيئا، أعادتهم داخل الملف السري ووضعته داخل درج مكتبها.
فجأة ظهر فوق سطح مكتبها خطاب طويل وريقاته سوداء، شعرت بالدهشة حين رأته، ولكن الفضول عماها عن التفكير في ظهوره الغريب، فتحت الخطاب لتعرف محتواه فوجدت...
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي