الفصل التاسع

في مصحة الأمل للصحة النفسية بالغربية)
قد تعتبرون تلك سيرة ذاتية لي ولكنني لا أحبذ تلك التسمية، فالسيرة الذاتية يستطيع كتابتها أي شخص، ولكنني أكبر من ذلك فأنا الأوحد على وجه الأرض لا مثيل لي، إذا فلتعتبروها تراث من النور لتتعلموا منها أو قبس من شهاب ولتحرقكم أجمعين.
كنت قد مكثت بالمصحة لأكثر من خمس سنوات، أقرأ أفكار المرضى المشتتة، حاولت استخلاص سبب ولوجهم لها، فالمهدئات المعالجة لا تساعدهم البتة لذلك يلجأ الأطباء لجلسات الكهرباء، التي تنهك المرضى أكثر مما يجب.
كنت أحاول العطف عليهم، ربما لأنني لا زلت أحمل الدم البشري، أو ربما لأنهم لم يؤذوني بشيء تلك الفترة وكأنهم حملان طيبة.
ذات يوم دخل طبيب لم أعهده يوما بتلك المصحة، يدعى مصطفى سلامة، واقترح على مديرها طريقة علاج يستخدمها الغرب ونتيجتها فعالة، هي عبارة عن حلقة مكونة من شخصين إلى ثلاث أشخاص من المصابين بالاكتئاب فقط، أو بالمعنى الأدق بأصحاب العلة الخفيفة، ويكون الطبيب حاضرا معهم ليقص كلا منهم سبب علته أمام أصحاب الأمراض الثقيلة، كمرضى البرانويا والفصام الحاد، وهكذا يتشجع الجميع، أو ربما يلفت انتباههم بأنهم ليسوا الوحيدين المنكوبين على هذه الأرض.
اختار مدير المصحة المرضى، وبالصدفة المحضة كنت أنا وغادة من المختارين للتجربة، وبدأت الحلقة باليوم الثالث من الاقتراح.
عقدت الحلقة وكأنها حلقة الرعب التي كتبها العراب (أحمد خالد توفيق) منذ سنوات عدة، الغريب أنه بعدما كانت ستقام التجربة لشخصين فقط وهما حسب ما عرفت أنا وغادة، إلا أننا كنا ما يقرب على العشرة أشخاص من بيننا ثلاث فتيات، وكانت غادة أيضا بيننا، كانت تكمن في الركن البعيد من الغرفة تجلس القرفصاء لا تعي شيئا، منطوية على نفسها ربما تسمع وربما لا ولكنها كانت مشتركة معنا باختيار الطبيب ظنا منه أنها ستتجاوب معه.
ارتدى الطبيب نظارته الطبية التي تعطيه وقارا لا يستحقه، وتعمد ألا يرتدي معطفه الطبي كي يشعرنا بأنه ليس طبيبا، وإنما شخص مثلنا يساعدنا ونساعده ثم دخل غرفة الاجتماع بالمرضي محييا إيانا، قدم اعتذارا عن التأخير الذي حدث، كان اليوم حافلا والغرفة مكتملة الأركان، نظر الطبيب إلينا واحدا واحدا ولاحت على شفتيه ابتسامة ماكرة بلا مغزى بالنسبة إلي، ثم تكلم قائلا: أرى أن عددكم تكاثر من شاب وفتاة إلى أكثر من عشرة أشخاص، ربما مدير المستشفى أحب أن يفاجئني.
نظر إلى ركن بعيد من الغرفة حيث الستارة المغلقة، في الركن الأيسر منها، وكأنه يتأكد من شيء ما، ثم وجه نظره إلينا وما زالت الابتسامة تعتلي شفتيه، تفحص وجوهنا جميعا، فقد كان هناك ثلاثة فتيات من بينهم غادة كما سبق وأخبرتك، وستة رجال كنت أيضا من بينهم، كان يبدو أنهم في حالة اجتماعية متقاربة، ولكن الوجوه شاحبة وكأنها دمى وليسوا من عالم البشر، تلافى الطبيب التركيز في الوجوه اكثر مما يجب، ثم طلب منا التعريف عن أنفسنا قبل الخوض في أية مناقشة معنا.
أشار الطبيب إلى أحدنا بأن يعرف نفسه أولا، ثم يحاول إخراج ما بداخله، فنظر إلى الطبيب متسمرا كأنه مصدوم باختياره كأول شخص.
-  قال الطبيب مبتسما: لا تقلق نحن هنا جميعا لنساعد بعضنا البعض، ولتعلم أن كل ما يقال في هذه الغرفة لن يعرفه أحد سوانا، أما عن المرض فكلنا عرضة للمرض النفسي، الحياة بالعموم مهيئة للمرض، ولكننا هنا سنثبت أننا قادرون على تخطي كل ذلك، هنا سنخرج جميعا أقوى لكل منا قدرته الخاصة في تخطي آلامه.
(حكاية جاسر)
الجميع انبسطت أساريرهم ينظرون إلى بعضهم البعض، إلا فتاة كانت تجلس وحيدة ناظرة في الفراغ، لقد كانت غادة..
نظر إليها الطبيب محاولا أن يدمجها معنا ولكنها لم تلاحظ نظراته، فأشار للشاب الذي بجانبها أن يتكلم، ابتسم الشاب قليلا ثم نظر للجميع وهم في حالة ترقب له، وأخيرا تكلم الشاب قائلا: أنا جاسر، أبلغ من العمر ستة وثلاثين عاما طيلة، حياتي لم أسمع عن كلمة تسمى السعادة أو النعيم كما يقولون، ولدت لأب وأم لم أرهما قط، بشكل أوضح أنا ابن الملجأ أو كما يطلقون علينا ابن الفراش، ابن ليلة ابن غلطة، فالمعاني السوداء كثيرة.
فتحت عيني لأول مرة لأجدني وسط مجموعة هائلة من الأطفال، كلنا في أعمار متقاربة نلهو ونلعب ولدينا حاكم في هذه الدنيا، التي تقع داخل أسوار عالية ذات أسلاك شائكة، إذا تماست إحداهما بالأخرى تحدث شررا تمنعنا من الخروج إلى العالم الحقيقي، كانت أحلامي تتشكل في الوجود خارج ذلك السجن، الذي يحكمه الرجل البدين ذو الشارب العريض.
كنا نصطف في طوابير يوميا، ليلقي علينا خطابات تتلخص في بضع كلمات يحفظها عن ظهر قلب: أنتم لستم سوى فتات البشر، أتيتم بالخطأ، أنتم عار على هذه الحياة.
حين تجرأت يوما وسألته عما يحدث بالخارج، ألقاني بوابل من السباب ثم .....
أغمض جاسر عيناه فانهمرت منها الدموع بغزارة، والجميع مذهولين مما يسمعون عداي أنا!
حاول الطبيب الابتسام في وجهه، ثم قال: لا عليك يا جاسر، لا تقسو على نفسك، خذ قسطا من الراحة ولتسمع باقي أخوتك هنا.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي