الفصل الثاني عشر

(حكاية لابد منها)
الدائرة أراها تدور بنا وكأننا في حلقة ملتهبة، أرى أحدهم يرفع يديه، إنه ذلك الشاب الأشقر ذو الملامح الأوربية، أذن له الطبيب بالكلام، فابتدأ كلامه بابتسامة بلهاء، لا تخرج سوى من مريض نفسي أو شخص بائس محبط، تحدث أخيرا قائلا:
لن أعرفكم بنفسي لأنكم لن تصدقوني، فقد أتيتكم من فيلم أجنبي عرض عليكم مرات ومرات وقد استمتعتم به، ولكنكم لم تدركوا أنه كان مجرد إسقاط أو ارتجال على حياة قد عشتموها، أو ربما تمارسونها يوميا.
أنا كنت بطلا في فيلم (the hunger game) من المقاطعة الثالثة عشر، اختاروني ذات يوم أنا وفتاة من ذات المقاطعة، في العام التاسع بعد الثورة التي يسمونها ثورة الخيانة، لأخوض تلك الألعاب كي تهنئ (بنام) بسلام دائم، قبل أن أحكي لكم ما هي لعبة الجوع، سأخبركم ما هو الجوع؛ أن تختفي أنهاركم ولا تجدون ولو رشفة واحدة تروي عطشكم، أن يختفي الخبز من بلدانكم، أن تنتهي صلاحية العملة وترجعون لعصر المقايضة، ربما تضطر بأن تبيع أعز ما تملك مقابل رغيف من الخبز، أن تصبح بناتنا جوارٍ لمن يدفع قوت يوم، حتى لا يموت الباقون، ربما حزرتم سبب اختيارهم لي لأكون داخل تلك اللعبة، أجل لأني أتحدث كثيرا.
أعلم أن في عصركم من يتكلم يدخل المعتقل المظلم، ولكن داخل فيلمنا المعتقل له شكل آخر، تقام قرعة (بضم القاف) لأكثر شخص ابتاع أكلا من الأسواق، أي أنهم يحسبون علينا طعامنا، فيقول البعض أن الشخص البدين عبء على المجتمع، رغم أن الحاكم، وصانعوا الألعاب، وقوات حفظ السلام في بنام كلهم بدناء، الأعلام معظمهم بدناء، ولكن أكثر الناس في غفلة عاتية.
دخلت اللعبة رغما عني، كان علينا قتل بعضنا البعض، ونعرف أن الناجي سيكون خادما لنظام بنام، أتعرفون لعبتنا تشبه لعبتكم، فأنتم تتقاتلون بين معارض ومؤيد لنظام بلادكم، تتقاتلون وتسبون بعضكم، والفائز دائما هو النظام.
أجريت تحالفا بيني وبين المقاتلين، وتحدينا نظام بنام، أطلقوا علينا اسم المتمردين، وكل من ينضم إلينا يقتل في الحال، هذا في الحقيقة وارد جدا، إنما الغريب أن هناك من أهل بنام من يؤيد نظامها، رغم شدة فقرهم وجوعهم، كل ذلك من أجل بضع قطع من الخبز، حتى استفاقوا أخيرا، حين قتل منهم من قتل على يد نظام بنام واتحدنا سويا.
لقد تركت بطولة الفيلم لأنه لن يتحقق الآن، فالنهاية ربما ليست مستحيلة، ولكنني أعرف أنها قد تقترب في أي لحظة، فهل سنراها في الحقيقة يا ترى؟!
فجأة اختفى من المكان، وكأنني كنت أتخيل، ولكن.. هل هناك دولة تسمى بنام مثلما قال ذلك الفتى؟ وما هي لعبة الجوع؟
إن ما قاله يشبه ما يحدث في دولة أعرفها، ولكنني لن أخبركم عنها، لأنكم ربما تعرفونها جيدا.
(حكاية سعيد )
يسعدني أن أبوح بما ظل حبيسا داخلي لسنوات وسنوات، أيها الطبيب، فكل من كانوا قبلك لم يشغلوا بالهم لما أتينا من الأساس، ولكن تشغلهم التقارير اللعينة، الكل يريد أن ينجح في عمله، وأن نتظاهر بالشفاء لكي يحظى بترقية ويعلو شأنه، الكثير يخرجون هاربين من العلاج بالصدمات الكهربائية، لم يستمع أحد لنا، وكأننا آلات تحتاج للعمل بالطاقة الكهربائية.
بعضنا يختلق قصص وهمية فقط للتقارير، مع ابتسامة راقية ليفرح الجميع بشفاء واهٍ، ولكن دائما البداية هي مربط الفرس، وليست النهاية.
من يقول أن هناك حكاية واحدة قادتنا للجنون، بالأحرى يكون هو ذاته شخص مجنون، لسنا مجانين كما تظنون، نحن أناس قادتنا حياتنا البائسة، لهروب العقل من مساره الطبيعي إلى عالم آخر، حيث أفكار وردية سبحنا داخلها وهنئنا، حتى تأكدنا أن صراعنا في دنياكم هو الجنون ذاته، كنا نحارب على دنيا فانية، أما دنيانا الآن هي الحياة الحقيقية، كالخيط الرفيع المسمى البرزخ، إنه الرابط الوحيد بين الدنيا والآخرة.
لن أطيل عليكم ولكننا لسنا مجانين، نحن هاربين، نحن مرضى نفسيين، ولكن بالخارج لا يعرفون سوى أننا مجانين، ينظرون لثيابنا الرثة ولحيتنا النامية بلا تهذيب، أليس من الجنون أن ننظر للمظاهر دون النظر للباطن؟!
كنت ذا مال وعز وجاه، فتبدل الحال من الهناء للشقاء، تلك الفتاة التي سرقتني منذ كنت طفلا في المهد، فتحت أعيني على أعينها، خطفتني، أصبحت أسيرها، تربينا كأخ وأخت، ولكن المشاعر تنمو وتأخذ مسارها دون أن ندرك أي اتجاه تسلكه، فيا ليت ماتت قلوبنا قبلما نولد، ويا ليتنا بلا عيون، فإن العيون تفتن بهن.
من منا يحب فتاة ثرثارة تنم على صديقتها التي أخذت منها أحمر شفاه؟ أو الأخرى التي تحسدها لأن أظافرها طويلة أو عيونها كحيلة؟ نحن نحب بأعيننا، فيسحرنا إما جمال وجوههن أو سحر أجسادهن.
كانت عائلتي وعائلتها أقرب الأقربين، بالمناسبة هي ابنه عمي، اسمها من اسمي، أنا سعيد أما هي فقد اختاروا اسما يحمل معنى اسمي، اسموها هابي، كنت مسئولا عنها مسئولية تامة، لم يجرؤ أحد قط من الاقتراب منها، وأيضا لم أسلم من غيرتها، تلك الفتاة التي تحدت من في الأرض جميعا كي نكون سويا.
حين كبرنا، خسر أبي كل ما يملك في صفقة دخلها دون إجراء أي دراسة جدوى لها، كنا نسكن بجوارهم، بڤيلتنا بمنطقة التجمع الخامس بالقاهرة الجديدة بحكم القربى، فانتقلنا إلى حي الحسين العتيق، حياتنا انقلبت رأسا على عقب، لم أيأس رغم ما كنت أعانيه من اكتئاب، كنت أقابلها بالجامعة رغم اختلاف كلياتنا، كما حلمت دخلت كلية الطب، أما أنا فتحقق حلمي منذ دخولي كلية الحقوق، لأصبح مستشارا يوما ما، كانت تعاملني وكأن شيء لم يحدث.
قديما كانت كابنتي، لا أجعلها تدفع شيئا حتى لو كان ثمن علكة، ولكنها أصبحت تدفع لي وكأني أصبحت وليدها، لا أنكر أن هذا لم يرق لي، ولكنني كنت أرى فرحتها حين أمزح وأخبرها بأنها أمي.
كنت أزورهم في بيتهم أحيانا، فلم تختلف مقابلة أهلها، كسابق عهدهم كنت ابنا لهم كما كنت من قبل، لم يتغير شيئا أبدا، حتى انفجرت قلوبنا الوردية شوقا إلى بعضنا البعض، حينما أنهيت دراستي الجامعية وأصبحت محاميا تحت التدريب، وانتهى حلمي بأن أصير مستشارا ذات يوم، فأنا صرت فقيرا من سيتوسط لي!
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي