الفصل الثامن والعشرون

هناك من جنسكم أناس يدعون نفسهم بعبدة الشيطان، يقدمون القرابين متمنين تقبلها كي ينالهم حظ من قدراتنا، أنا أقدمها لك الآن.
لم أفكر كثيرا، ركعت ساجدا أمامه.
-  قال: والآن اتلُ العهد.
-  قلت: أي عهد؟
-  قال: اليوم أنا عبدك وخادمك الأبدي لن أموت أبدا ما دمت لم أنكث بعهدك، أنا من سأجول في الأرض، عاليها وسافلها لن يوقفني بشر ما دمت تحت قدميك، أنا الكافر بإله السموات السبع والمؤمن بإله النار عزازيل العظيم.
قلت كما أخبرني، فانفتحت الغرفة أمامي وكأنني في مكان آخر، وجدت برديات فرعونية حاولت قراءتها ولكنني لم أفهمها.
-  قال: لا تقلق سنقرئك فلا تنسى، ثم مده يده على رأسي فوجدتني عليم بها.
كانت تلك المخطوطات الفرعونية التي لم يجدها البشر، أسرار التحنيط التي لا يعلم بها أحد.
-  قلت متسائلا: وهل الخلود فقط بأن تحنطوني كتمثال تحتمس؟
-  قال: لا، سنجعل لك متحفا ستصطاد البشر من بقاع الأرض وتسرق أحشائهم مثلما تريد، أما الجسد فلن يفنى سيخلد كتخليد أجساد القدامى منكم، لن يكون الخلود دائما فما دمت تبدل قلبك تصبح روحك أقوى، ستكون مثلك مثل أعوان عزازيل؛ توسوس لهم فيتبعون أمرك، تأمرهم بأن يقتلوا فيقتلوا، تزيد بغضهم لبعض، البشر يستعيذون منا فنفر، أما أنت فلن يفر منك أحد، من الآن ستصبح طبيبا تعالج النفوس، ستعالج نفوسهم الطيبة لتشبعها كرها وبغضا، اليوم ستكون أنت عزازيل البشري.
.........
لا أنكر أن حيلتك أعجبتني يا ضياء في تلك اللعبة التي لعبتها علي، فكل من كانوا بالغرفة كانوا ضحايا لي ولكنهم وافقوا، سمعوا الوسوسات فاتبعوها كاتباعكم لوسوسة الشياطين، الشيطان لن يحاسب عنكم وأنا لن أحاسب عنكم.
الأرض مليئة بالشر فلا تتبعوني لأنكم لن تقدروا مهما كانت قوتكم على اللحاق بي، فأنا خليفة عزازيل.
قالها الطبيب واختفى عن ناظرنا ظللت أنا وضياء ناظرين بعضنا إلى بعض لوهلة، ولم يتبقَ معنا سوى غادة، هيئ لها في باطن عقلها أن الطبيب لا زال جالسا ويشير لها بأن تحكي حكايتها، ظلت تحرك رأسها باضطراب لبعض الوقت، أعلم أن الجنون حليفها فلم تكن حتى منتبهة لما يحصل منذ البداية، ظلت تنظر إلينا وكلما وقعت عينيها على شخص منهم تبتسم بسخرية حتى نظرت إلي، وزادت حدة نظرتها.
نهضت من مكانها وجلست بجانبي ثم همست في أذني قائلة: الليلة ستكون نهايتك، الليلة سآخذ بثأر اثنان وسبعون شخصا من عائلتي ، اليوم ستذهب وكأن لم تكن، لن يتذكرك أحد ستظل ملعونا فقط في السماء، لعنتك ستنتهي في الأرض وستبقى قوتي.
نظرت إليها نظرة مطولة متسائلا في نفسي؛ هل أفاقت بعد سنوات من الجنون! هل أصبحت نصف شيطان كما قال أخي؟
ابتعدت عني عائدة إلى مكانها الأول جلست ثم علا صوتها قائلة: الآن أستطيع التكلم بعدما بقيت صامتة لسنوات وسنوات، ألا تعرفون من أنا؟
أنا الزمن، تعرفون أن اسمي غادة، الفتاة التي جنت بعدما قتل أمام ناظريها اثنان وسبعون من ذويها مثلما كتب في تقاريركم، لن أقص عليكم سبب موتهم لأنه لا شأن لكم به، ولكن القصاص أصبح وشيكا فسأريكم ما أستطيع عليه من الفعل.
كلنا في هذه الجلسة مذنبون لا أحد منا مجني عليه، حتى أنا الليلة سأكون مذنبة مثلكم، حقا سأقتص وهذا حقي، لكن للقصاص شروط وأنا سأتخطاها.
ذات يوم أحببت شخصا غريب الأطوار، لم يكن يحبه أحد في بلدتنا ولكنه أعجبني، أحببته وتحديت جميع من حولي، كنت مراهقة في السابعة عشر من عمري، وكان لدي زميل من نفس بلدتنا يدعى رعد، لقد كان غاضبا كالرعد، اقتربت منه واعتقدت أنه أحبني مثلما أحببته، كان غريبا بكل ما تحمله الكلمة، حتى غريبا على أهله الذين أنجبوه، توفيت أمه بسببه، كثير من أهل البلدة ماتوا، لماذا؟
لم يكن أحد يعرف، ولكن كانوا يكتشفون وجوده في موضع قتل معظمهم، الشكوك دارت حوله رغم صغر سنه، الجرائم لم تكن قتلا كما يوحى لكم، فالمقتول حين يقترب منه رعد إما أن يلقي بنفسه في إحدى الترع، أو يموت مسموما إثر لدغة من أحد الثعابين.
ومن وقتها لقبوه بالملعون ولكنني لم أكترث، فحين تحب الأنثى تمحي عقلها تماما، حتى وإن أحبت قردا بشريا، لم يكن يتكلم مثلنا كان يسمع وينظر فقط، أما عن صوته فكان كالفحيح حتى لسانه كان مشقوقا من الداخل، جلده كان ناعما كأنه أفعى في زي بشري، أحببته رغم ذلك، ألم يسبق وأحبت فتاة وحشا؟
كنا نراسل بعضنا البعض عبر الإنترنت أرسل له شعرا أو قلوبا فيرد بالصمت، صامت الصوت واللغة، تعلقت بغموضه أكثر فالأنثى دائما تحب الصامت حتى يتكلم.
حتى جاء ذلك اليوم الذي هددني فيه أخاه الأكبر إن لم أتركه سيخبر عائلتي بعلاقتي معه، أخبرني بالعار الذي سيلاحق عائلتي حتى بعدما يقتلوني، فأنا في كلتا الحالين سأصبح قتيلة، إما قتيلة العار أو قتيلته.
آثرت عائلتي على نفسي وقررت أن أتركه، حاولت التعامل معه بطريقة اللامبالاة فتعلق بي كما لم يتعلق من قبل، أصبح يراسلني يوميا كما لم يفعل من قبل، البرود كان سلاحي والتودد كان سلاحه.
كنت أبكي رغما عني وأنا أقتل نفسي وإياه، قررت إنهاء كل ذلك حين أخبرته أن من حقي أن أشعر بالحب وأسمعه، لا أن اقرأ كلمات من شخص ملعون لا يحبه أحد، كان رده حاضرا وسريعا، سيفتقدك أهلك كثيرا حاولي أن توديعهم.
مر يوم فالثاني فالذي يليه ولم يحدث شيء، كنت أتظاهر أمامه في المدرسة باللامبالاة، كنت أرى الشرر يتطاير من عينيه، حذرني الكثيرون من نظراته وأيضا أخبرني الباقون عن خطئي في خوض علاقة معه؛ أين كان عقلك يا غادة ألا ترين أنه كالقنبلة الموقوتة أو الحقل الملغم، يقتل كل من يقترب منه ويظل كما هو مجرد حقل خاوٍ؟
حتى جاء ذلك اليوم، كانت الساعة قد تعدت منتصف الليل بقليل، وجدتني مقيدة على شجرة وجميع عائلتي معلقين على أغصان الشجيرات من حولي، رأيت أكثر من عشر أفاعٍ هائلة المنظر موكب ضخم يقترب مني وتتقدمهم أفعى كبيرة الحجم، اقتربت مني وأصدرت فحيحا، حينما نظرت في عينيها رأيته داخلها، لم أعلم هل بالفعل كان أفعى أم أنه تلبسها، حقا لا أعلم!
أخرجت الأفعى لسانها ولمست جبهتي، وغبت عن الوعي، هل الغيبة تلك كانت إغماءة أم كان الجنون الذي سبحت في ظلماته؟
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي