الفصل الثاني والعشرين

حتى حدث ما كنا نتمناه فقد رزقني الله بأجنة في رحمي، نعم أجنة، لم يكن جنينا واحدا لقد رزقني الله بثلاثة أطفال؛ كريم، عمار، ومحمود، قررت ترك عملي لأتفرغ لهم وهذا ما حدث، كانت الأيام تمر برتابة وفرح، ولكن الفرحة أبت أن تكتمل، ذات يوم شعر الأولاد بالمرض، فأخذنا سيارته لأقرب طبيب، كان يقودها بسرعة جنونية والساعة تقترب من نصف الليل، وفجأة رأينا شجرة ملقاة بحرفية في منتصف الطريق تمنع حركة السيارة.
-  نظر إلي كريم ثم قال: ما هذا؟ إنه كمين.
-  وداد: تقصد أن هناك خطر علينا؟
-  كريم: لا تقلقي، لن يجرؤ أحد أبدا أن يمسسنك بسوء ما دمت حيا.
رجع كريم بسيارته للخلف، فوجد أشخاص كثر في أيديهم أسلحة نارية يصوبون أسلحتهم تجاهنا،
-  كريم: اخفضي الأولاد في دواسة السيارة.
صرخت بهيستيريا من شدة الخوف، صرخ بي كريم بدون وعي منه: هيا أسرعي، لا وقت للبكاء.
استطاع كريم أن يعود للخلف بسرعة جنونية وأفلتنا منهم، ولكن فتحوا النار علينا من كل حدب وصوب، وبعد وقت ليس بالقليل ابتدأت السيارة بالدوران بنا شمالا ويسارا حتى فقدت توازنها وانقلبت بنا.
فتحت أعيني وأنا أتأوه، وجدت أمي والعم محمود وزوجته وقد تغيرت ملامحهم كثيرا، وكأن ألف عام قد مروا وكان معهم طفلين، عمرهما بين الرابعة أو الخامسة، كانت الرؤية ضبابية.
حاولت النطق ولكن لساني كان ثقيلا إلى حد كبير، فجأة ابتسم الجميع وعلت الزغاريد من فم أمي وأم زوجي.
-  سألتهم بنبرة ثقيلة: أين كريم والأولاد.
لم أجد أية إجابة منهم أعدتها ثانية وثالثة، حتى قالت أمي: حمدا لله على سلامتك يا صغيرتي، كريم الآن في ذمة الله وأنت فتاة مؤمنة.
كدت أن أصرخ، ولكن صوتي المهزوز أبى أن يخرج، فبكيت في صمت وكل ذرة مني متعبة، لقد فطر قلبي حينها غبت عن الوعي لوقت ليس بالقليل من شدة الألم النفسي، كانت أحلامي تتلخص في شخص واحد وهو كريم، كل لحظة مرت بنا في الحادثة رأيتها تتكرر مرارا، علا صراخي كثيرا ولكن بصوت مكتوم، فتحت عيني ثانية لأجد نفس المشهد يتكرر، وأنا في غرفتي في ذلك المستشفى.
نظرت أمي إلي وهي دامعة العين: لماذا تفعلين هذا بنا؟ لقد مر على تلك الحادثة خمس سنوات، ألا يكفي خمس سنوات من الوجع والقهر، خمس سنوات من فراقنا، اشتقت إلى حديثك يا صغيرتي، اشتقت إليك، اشتقت أن أضمك.
تناسيت كلماتها وكل تركيزي كان على خبر موت حبيبي، هل حقا مات؟ ألن أسمع صوته ثانية؟ ألن أراه؟ ألن يضمني إلى صدره؟ ألن.. ألن..
بكيت كما لم أبكِ من قبل، حينها تذكرت أولادي، سألتها عنهم، أشارت إلى الولدين الجالسين معها: هذان كريم وعمار أولادك، ألا تري كم هما جميلان؟
-وداد: ولكن أين محمود؟
- الأم: لقد كانت حرارته مرتفعة للغاية يوم الحادثة، فلم يستطع الأطباء إسعافه حينها، وتوفي.
- وداد: لله الأمر من قبل ومن بعد، لله الأمر من قبل ومن بعد...
- الأم: لا تحزني يا صغيرتي فتلك إرادة القدير.
- وداد: هل لك أن تتركيني يا أمي، أريد أن أختلي بنفسي.
- الأم: معذرة يا ابنتي أعلم بأن أخباري سيئة، ولكن لا أريد أن تكوني وحيدة.
- وداد: معذرة يا أمي، لبي لي رغبتي رجاء.
- الأم: حسنا يا صغيرتي.
تركتني أمي مع أطفالي، نظرت لهم وأنا حزينة، لقد ضاع كل شيء زوجي كان كل ما لدي، لقد كبرا دون أن أضمهما إلى صدري، حرمت من كل شيء يجعلني أشعر أني أم لهما، استشعرت منهما نفور أو ربما خوف مني فهما لا يعرفانني، وتلك كانت البداية.
ومرت الأيام والنفور يزداد، كلما حاولت الاقتراب خطوة كانا يبتعدان خطوتين، الفجوة بيننا تزيد مهما حاولت، عدت إلى عملي وانغمست به، حتى لا تحدثني أمي ثانية في فكرة الزواج مرة أخرى، فأنا لا زلت أعشق كريم ولن أصير زوجة لغيره مهما حدث.
ومرت السنوات حتى أكملت الخامسة والأربعين من عمري، وانقطعت الدورة الشهرية مما يدل على أنني وصلت لسن اليأس، شعرت بالغثيان وبألم شديد أسفل معدتي وتلك كانت أعراض توقفها، وذات مرة شعرت بألم شديد وأنا أزاول مهنتي، فوقعت في إغماءة، لا أدري كم من الوقت مر، ولكنني استفقت لأجدنني ملقاة على سرير أبيض وطبيب يقف أمامي مبتسما.
-  الطبيب: حمدا لله على سلامتك.
-  وداد: سلمك الله ماذا حدث؟
-  الطبيب: إغماءة بسيطة ولكنك بخير، ولكن هل لي أن أسألك عن شيء خاص؟
-  وداد: تفضل.
-  الطبيب: هل أنت أرملة؟
-  وداد: نعم أنا كذلك، ولكن لماذا السؤال؟
-  الدكتور: هناك شيء لم أستطع تفسيره، هل لك علاقات جنسية؟
-  وداد: ماذا تقول أيها الطبيب، أنا طبيبة وكبيرة بالعمر كيف تجرؤ أن تسألني سؤال مثل هذا!
-  الدكتور: أنا آسف جدا، ولكن نتائج الفحص أثبتت أنك تحملين بداخلك جنينا، أعدنا الفحص مرة فالثانية وعندها تأكدنا من النتائج، حينها شعرت وكأني على شفا حفرة من الجنون ولم أجد تفسيرا لحملي.
-  فقطع الطبيب حبل أفكاري حين قال: نحن ليس لدينا أية شك في أخلاقك، ولكن هناك سؤال ليس له إجابة سوى عندك، هل شربتِ مؤخرا مشروبا عند أحد الأصدقاء ففقدتِ الوعي، لربما تعرضتِ للاغتصاب ولم تدرِ لأنك كنتِ في سبات!
ظللت أفكر ولكنني في الطبيعي لا أبيت خارج بيتي، ربما ذلك الكوب الذي يعطيني إياه ابني قبل خلودي للنوم ولا أفيق إلا في صباح اليوم الثاني؟! أيعقل أن يفعل بي ابني هذه الفعلة!
شرحت للطبيب ما يجول في خاطري، فنصحني أن أتعامل معهما بشكل طبيعي، وأن أتصنع شربي للعصير المقدم منهما، واصطنع النوم لكي أرى ماذا يفعلان بي.
وكان ما حدث هو الطامة الكبرى، في المساء قدما لي العصير كالعادة، فدلفت إلى غرفتي وأنا ممسكة بها، وسكبتها من شرفة غرفتي، وبعد نصف الساعة وجدتهم يدلفون إلى غرفتي بخطوات بطيئة، يتحسسون طريقهم لكي لا يوقظوني.
همس الصغير باسمي فلم أجبه، فظن أني غططت في سباتي، وجدتهما يتقاتلان فيما بينهما عمن سيلمس جسدي أولا.
أيعقل أن يكون أبنائي بتلك الحقارة، لو كنت ربيت كلبا لصار وفيا، إن الخنازير أشد طهارة من بنوا آدم.
انتظرت حتى أصبحا عرايا كما ولدتهم أول مرة، ثم ضغطت على زر الإضاءة حتى يعلما بأني متيقظة، ظلا ينظران إلي والصدمة تعتلي قسمات وجهيهما لا يحركان ساكنا، حينها وقفت وأسرعت إلى باب غرفتي وأغلقتها بإحكام، وهما فقط ينظران إلي بإحراج، سكبت على أرضية الغرفة الكثير من المواد القابلة للاشتعال حتى نحترق جميعنا أنا وهما وما أحمله في أحشائي.
ظلا يجريان يمنة ويسرة أمامي وأنا أحترق معهما، ولكنني كنت أشعر بلذة الانتقام، استيقظت لأجدني هنا مع أشباه بشر يتساءلون عن سبب جنوني، لست مجنونة كما تظنون، ولكن في العالم الحقيقي من هم أجن مني، لا زلت لا أعلم كيف وصلت إلى هنا، فهل لا زلت على قيد الحياة؟
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي