الفصل الثالث والعشرون

قبل النهاية
عم الصمت أرجاء الغرفة، حتى تكلم من خلف الستار رجل لم يكن بالجلسة، كان صوته صغيرا رغم عمق نبراته، كانت كلماته هادئة، بدأ كلماته مستأذنا الطبيب أن يتيح له الفرصة للتكلم، ضحك الطبيب ثم تكلم قائلا: منذ رأيت عدد المرضى يتكاثر من شاب وفتاة وأنا أنتظرك أن تتكلم، فلما صمت حتى تكلم آخرهم، رغم علمك بأني أعلم ما سيقصونه على مسامعنا؟
انفتح الستار وكانت المفاجأة صاعقة بالنسبة لي، فقد كان أخي هو من يتكلم، نظر لي بابتسامة ودية ثم أعاد بصره إلى الطبيب.
-  ضياء: الآن حصحص الحق، أنا أنتظرك مند وقت بعيد فقد هيأت نفسي لذلك اليوم، أنت ترى أن كل من بالمكان ضحاياك، ولكنهم لم يكونوا كذلك يوما، إنهم ليسوا ببشريين حتى، فالأموات لا ترد فيهم الروح ثانية، والقرائن يسهل إحضارها، وبالأخص أنهم شياطين الإنس الذين ساعدوك في دس السم في عقول من ماتوا، هم يشبهون النفس الأمارة بالسوء التي أخرجت إبليس من رحمة الله قبل خلق أبينا آدم، أما عن الضحايا الحقيقيين حين وقعوا في طريقك غذيت فيهم فكرة واحدة، لماذا لاقوا الظلم في حياتهم، لماذا خلقهم الله، هل خلقهم لهوا ولعبا!
وأكثر سؤال غذيته فيهم؛ إذا كان الله يعلم مصيرهم منذ البداية إما بالجنة أو بالنار فلماذا خلقهم من البداية؟!
قبلما يرحل القرائن، سأخبرهم بتأويل ما لم يستطيعوا أن يفهموه لنصفهم الآخر من البشر؛ أما عن جاسر فقد ولد يتيما وهذا كان اختبارا من الله، تربى في الملجأ بين المئات من الأيتام الذين يتشابهون معه في نفس ظروفه، لقد كان بداخله نبتة طيبة حين أنقذ صديقه وهرب، فدخلت له كالناصح الأمين وسممت أفكاره بالانتقام من أشخاص لا يعرفهم ولا يعرفونه حتى شوهت آدميته، لو كان صبر لكان خير له وأبقى.
أما عن ياسمين فجعلتها كالدمية في يدك هي وعائلتها، لقد زين الشيطان لأمها الزنا، وأدخل الشك في قلب زوجها حتى رجع من سهره في وقت مبكر ليجدها في حضن رجل آخر، وحين قرر الأب أن يتركهما لشأنهما لم يعجبك هذا، قاده حظه العاثر إليك لتعبث بتلك العائلة وتفكك إيمانهم.
اختيارك من البداية كان ممتازا أيها الطبيب فكرتك جديدة نوعا ما أن تعقد حلقة للمرضى وكل يحكي ما أذاه على أمل أن تأتي لهم ببعض حقوقهم، ولكنك لم تقل لهم أنك تريد أن تزين بهم متحفك الأثري.
منذ سنوات كنت أعرف أن دوري سيحين لحمايته، لقد ظننت أنني سأحمي أخي من عدة شياطين ستحاول قتله، ولكنني تفاجأت حين ظهرت أنت بالصورة، فلا أعلم إذا كنت بشريا أم شيطانا من الشياطين؟!
كنت أقرأ أفكارك منذ ولجت تلك الغرفة، هل كان سبب تأخيرك اليوم هو أخذ الاحتياطات اللازمة؟
سأفرحك أكثر حين تعلم أنه لا ناجي اليوم سوى اثنين ليس إلا، أما الباقي فلن يكتب لهم النجاة.
ابتسم الطبيب ثم طلب منه أن يكمل حديثه ربما ثقة في نفسه، فأكمل قائلا: الجميع لا يعرف من أنا، حتى أقرب الأقربين لم يكن يدري أنني هنا، أنا من جمعت بداخلي أسس الخير وحاولت تطبيقها على تلك الأمة، ولكن لا خير دائم فالشر لم يعد مستترا كما كان، بل أصبح سائدا والجميع يمارسونه علنا.
كأصحاب لوط حين قاموا بأفعالهم علنا في نادي المدينة، أو كشرب القرشيين الخمر بجوار الكعبة، حتى يئست بل ظنت روحي يوما أن الدنيا بلا حاكم، فقررت أن أصير حاكما لها.
الحكاية بدأت حين كنت في الخامسة عشرة من عمري، كنت مختلفا عن باقي البشر، أسمع كل من حولي وخططهم لإيذاء بعضهم دون أن يشعروا، أسمع أفكارهم وكأنهم يحدثونني، كنت أسمع أبي ينقم على حياته، والكره والشر ينموا بداخله يوما بعد يوم تجاه أمي، المرأة التي ضحت بمستقبل كان ينتظرها لأجله، كعادة أي رجل ظل متلهفا لنيل رشفات من حبها، وما أن ينتهي من تذوقها يكرهها، ويحاول تذوق الأخريات لنيل متعة من نوع جديد، حرام كانت أو حلالا فلا فرق، فما أكثر أشباه الرجال حين يتظاهرون بالخير وما هم سوى شياطين.
ظللت أنقم على شره وأكره ضعفها، كانت تذكرني برواية لا تخبري بماما؛ الأم الضعيفة التي مهما فعل بها زوجها لا تغضب ولا تتكلم، جل ما تفعله أن تظل راكعة تحت قدمي زوجها، كنملة سليمان خائفة أن يحطمها دون أن يشعر، دون أن تحاول الدفاع عن حقها في الحياة من غير هرب.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي