الفصل الحادي عشر

رغم بساطة المطبخ وتواضعه الشديد ، وعراقة أوانيه تخالها من عهود أجداد الأجداد ، وأبريقه الحيلة العتيق كان يختال في زمن بعيد بأنّه الصيحة الجديدة من آل أبريق ، ودائما ما كانّ يمنّ خيلاء على الأكواب التي هي في عينيه كشاتبين ، والملاعق والأطباق المسكينة التي هي في عينيه صبّارات قنان المياه الغازية بأغنيته المفضّلة التي تظاهر بأنّه مُلهم شاعرها : أنا أنا أنا أبريق الشاي . وصنبور الماء البارد الذي لا يحتاج إلى ساخن ، إذ تكفيه السخونة المنبعثة من الثلاجة أمامه وقد ضاق بها المكان حتى كاد يتحرّش بها النذل ذو العيون الأربع ، اثنتان زرقاوان وأخريان كانتا منذ عهود كأختيهما إلا أنّ الدهر منّ عليهما بالعور ، ذاك الحطيئة الجعسوس الأبخر كم من مرّة حاول التحرّش بالثلاجة العتيقة لولا الميثاق الغليظ الذي تتولى دفته حليلته الصبورة السيدة أنبوبة التي أوشكت أن تنفجر من آثامه الدواهي ، فتقضي عليها وعليه وعلى معشوقته والمتيه أبريق وبناته الأكواب والمسكينة ريهام التي أتمّت مهمّتها اليوميّة بجدارة رغم الاستحصاف كجدث الكافر ، ومنّت على الصينية بأطباق وملاعق وخبز ، ولم يفتها أن تغلق البوتاجاز المتحرّش ، فأطفأت جذوة عينيه أسّ جماله ، ليحور لسيرته الأول ى مجرّد علبة من الصفيح ، وهو الوصف الأليق به ، بينما كان أبوها بالهاتف :ـ دا شرف كبير جداً لي يا فندم ، بس زي ما قلت لحضرتك. أنا زي ما تقول كدا عايش فترة استجمام .. وقد أشرقت عليه شمس حياته ريهام تختال بين يديها الصينية ، متجهة بها نحو الصالة لتضعها على المائدة بينما يتابع المهاتفة :ـ هافكر وابقى أرد على حضرتك . ـ وعليكم السلام .. ما أن وضع السماعة على التليفون واتجه نحو السفرة ، بينما سيجلس سألته :ـ لسه بيتصلوا بحضرتك ؟
ثم جلست هي جواره وناولته رغيف خبز ، فكسره ذاكرا اسم الله وذكر ما قبل الطعام ، وطفقا يتناولان الطعام أثناء الحديث ـ دي سادس مدرسة خاصة تطلبني عايزاني اكون مديرها.
ريهام :ـ وانت يا بابا ليك في الإدارة ؟؟
الأب :ـ أنا معرفش إلا اني اشرح تاريخ ، أنا مُتعتي الوقوف قدام السبورة .
ريهام :ـ طب حضرتك هاتعمل ايه ؟
الأب :ـ اللي فيه الخير يقدمه ربنا .
في تلك الأثناء كان هاني يتناول عصير الليمون مع صديقه بأحد النوادي يتناولان أطراف الحديث ، وفجأة يفتح هاني فمه متذكراً :ـ ايه اخبارك مع صاحبك الروسي عالفيس؟
حاتم :ـ بخصوص ايه ؟ ثم اتكأ حاتم على المنضدة مبتسماً :- آآه ..... قصدك المسابقة ... ايه ؟؟ ناويت تشترك؟؟
فبدا هاني مضطربا كوتر حساس ، فتناول رشفة في محاولة بائسة لاستدعاء الجندي الآبق من السريّة مجنّد ثبات ، ووضع الكوب ملوحًّا بيده :ـ دي مسابقة مش معترف بيها دولياً ، كمان أسمع ان في ناس بتموت فيها .
حاتم :ـ بس اللي أنا شايفه انك قدِّها ، وممكن تحقق مركز كويس فيها .
هاني :ـ بس دي مش رياضة.
في محاولةٍ حاتميّه لاقناعه نظر حاتم إليهمستفهماً :ـ يعني ايه مش رياضة ؟؟
فبدا هاني كوطنٍ غفا عنه أبناؤه ، فأضحى فريسة لجيوش التشاؤم :ـ رياضة ايه دي اللي يا قاتل يا مقتول ؟
حاتم :ـ أنا اسمع ان بمجرد اشتراكك فيها بيِدّوك مكافأة خرافية ، والمكافأة بتتضاعف مع كل فوز.
لوح هاني في وجهه مبتسماً باستنكار كاد أن يقتلع أنفه :ـ ولو !! تفتكر في مال اشد حرمة من اللي بيجي بالدم ؟؟
حاتم :ـ ومين فـ بلدك قادر يعيش حتى بالحرام؟؟ البلد خلاص يا هاني ... ثورتين وبدل ما حالها ينصلح حالها بقى في النازل ، الله اعلم باللي جاي .... وانت بتقولي حلال وحرام ؟؟ عاوز نصيحتي ؟؟ أنا لو منك اسافر على طول ، دابيقولوا أقل لاعب بيشترك بيحصل على أرقام فلكية ... فما بالك لو حققت البطولة ؟
وكأنّه استمع لفكاهة تعجب هاني مبتسماً :ـ دا انت واثق فيَّا اوي.
حاتم :ـ اللي زيِّنا اتعذّب في دنيته كتير ، فأكيد لما هاتجيله الفرصة هايشبّث فيها بإيده واسنانه ..ولوح بيده : يا عم حد اتجيله فرصة يخرج من المستنقع اللي غرقنا فيه ويستنى ؟؟
هاني :ـ برضه أنا مش هاعمل كدا.
حاتم ممازحا :ـ طب ليه ؟؟ خايف من ريهام ؟؟
هاني :ـ طبعاً ... رضا ريهام بالدنيا وما فيها.
(3)
روسيا   - إحدى المناطق السكنيّة
لم يزل الاستياء العالمي منشبًا براثنه يزأر في وجه بطولة تلك اللعبة الدمويّة ، ورغم ذلك لم يصدر أيّ بيان من بيل ترين ، وكأنّه استعار أذنا من طين وأخرى من عجين ، بينما العالم حوله كمراجل تغلي ، كجنازة عسكريّة فخمة ولا يدرون أنّ حشو النعش كلب أجرب ، لقد باتت تلك الرياضة الدمويّة حديث الصحف والمحطّات التليفزيونيّة والسوشيال ميديا بشتّى القارات ، وأحد من المسؤولين لم ينبس ببنت شفة ، لقد أتقن بيل ترين تخييط الشفاه ، وردم فوهات الأفواه ، وتقليس أفاعي الألسن السامة ، فاستحال لعابها يقطر عسلا مصفى بذكر ترين والثناء على لعبته ، أو الاتكاء خلف جدران الصمت ، وهذا أضعف الإيمان . أما غير المسؤولين فدعهم يجعجعون وينبحون ، وحتما لن يخرق نباحهم السماء أو حتى المزن ، بل ربما لن يرتقي لأنوفهم هم .. كثر النباح والعويل حتّى روسيا موطن الإلحاد ومرباه لا تروق لها تلك اللعبة سيئة السمعة ، ففي إحدى المناطق السكنية تجرّأت إحدى المذيعات ، وحقّ لها أن تتجرّأ ، فمفاتنها المدمِّّّرة تشهد أنها صاروخ روسي عابر للمجرّات ، لقد أجرى ذلك الصاروخ حوارات مع سكان تلك المنطقة ، كما أجرى مع غيرها من المناطق ، والرابح في هذا كلّه المايك الذي زها بقبضتها وكاد يلثم أديم السماء ، خاصّة عندما عقّبت إثر مقابلاتها بقولها :ـ لقد صرنا في عالم غريب يطلق عليه العالم المتحضر . أي حضارة تلك التي ما أن قضت على تجارة الرقيق حتى ظهرت تجارات أشد شناعة منها كتجارة الأعضاء وتجارة الأعراض ؟ واليوم ظهرت تجارة الأرواح .. وأي شيء في العالم أغلى من الروح الانسانية ؟؟ إلى متى سيظل العالم حبيس الصمت ؟؟
صارت الروح الإنسانية سلعة تباع وتشترى تحت غلاف رائع مزركش يطلق عليه الرياضة .
وكما فعلت روسيا ، سارت أمريكا على دربها ، كزوجة العمدة تخشى أن تلومها سيدات البلدة أنّ زوجة شيخ البلد قامت بما لم تقم به هي ، مما أثار حفيظتها ، وجعلها تطلق ألسنتها تندّد وتشجب تلك اللعبة ، وأنها معادية للسلام العالمي الذي هو قرّة عين الولايات وليّة وليّة .
ففي برنامج توك شو أجمل ما فيه الديكور حيث المذيع والضيوف على أعلى مستوى كسفراء من عالم آخر يجلسون على مقاعد آية الأبهة بإحدى المحطات الامريكية ضيف :ـ كانت الرياضة قديماً تهذيب للنفوس وتنشيط للعقول وبناء للأجسام ، وأداة من أدوات نشر السلام للعالم اجمع ، والان صارت اداة قتل بيد اعداء الانسانية تجار الارواح عبدة الثراء والاموال الدموية.
وبالطبع كما فعلت الأم أمريكا سار على دربها بناتها ، فخطى الأمهات منارات البنات ، وكما هي العادة بناتها العربيات كنّ أوّل المطيعات ؛ لأنهن يعلمن أنّ الجنّة تحت أقدام الأمهات ، وهنّ لا يطمعن إلا في الجنّة ، لذا يلزمن أقدام أمهنّ يغسلنها بدموع الخناعة يبتغين بها العلياء . أعينهن عمياء وكأنّها لُفّت بأقمشة العالم ، وآذانهن صمّاء عمّا يدور حولهنّ وكأنّها صبّت فيها خرسانة ، ففي كل رجا من أرجاء العالم تتناثر حبّات النبت الإسلاميّ ، وإذا ما بُذرت حبّة تشعّبت أغصانها وباتت وارقة مدهامة تغري الناظرين ، فيتسابقون إليها مهطعين مستهرعين أفواجا مسترعلين ينهلون من عبق السماحة الإسلاميّة ، الأمر الذي يؤثّر بالسلب على أتباع الملل والنحل الضالّة ، ويذبح هيمنتهم بمدية العقل والحكمة ، فهم ككائنات التحلّل الدقيقة لا تحبّ إلا الترمّم ، ولا تحيا بدونه ، لذا لابدّ من القضاء على أيّة بؤرة للطهارة ، لابد من سيل جراف يقضي على أخضر العدالة ويابسها ، وإلا فعلى الكائنات الدقيقة السلام . وأمر كهذا يقتل أبناء العم سام قتلا بطيئا ، فلابدّ من التدخّل المباشر وغير المباشر للحدّ من اندفاع الطوفان الإسلاميّ الذي إن انفجر فسماحته ستغرق الكون ضياء ونورا . ومن المناطق التي دفعت الضريبة غالية ( بورما ) ، وإن كان الثمن في الظاهر باهظا إلا أنه إذا ما قورن بالسلعة بدا ضئيلا بخسا دراهم معدودة ، لقد تحمّل هذا الشعب المسلم من الويلات ما لا تطيقه رواسي الجبال ، ولم يقترفوا من جرم إلا أن قالوا ربنا الله ، و مازالت المجازر تتوإلى مسترعلة على مرأى ومسمع من العالم العربي والغربي والشرقي .
ومن تلك المشاهد على جانب إحدى الغابات في سهل فسيح حشكة من جنود مدججين بالسلاح يجبرون رجالاً عُزّلا من السلاح والحرّيّة وكلّ شيء ، أغلبهم كبار السنّ على الركوب قسرا إلى حافلات عملاقة ، كرعاة تسوق قطيع أبقار إلى حافلات المجازر ، يوكزونهم بمؤخرات البنادق في مناكبهم النحيلة كعسيب النخل ، وأظهرهم العارية وقد برزت عليها أعمدتهم الفقاريّة كجبال تشقّ صحراء الظهور القاحلة ، يرغمونهم على ركوب السيارات حتى يركبوا جميعاً رغما عنهم ، فتنطلق السيارات المشحونة حتى التخمة باتجاه الأشجار حتى تتوارى خلفها ، ولا تتوقف السيارات إلا عند المجازر البشريّة حيث العذاب الأليم ، يتمنّون الموت فلا يفوزن به ، وهؤلاء هم سيئو الحظوظ . أما المحظوظون منهم فلا يكلّفون الرعاة همّ إحضار العربات ، بل تكفي عدة منازل خشبية ، أمام كل منزل مجموعة جنود منزوعة القلوب يضرمون بها النيران كأطفال يلهون بالعيد ، فتشتعل المنازل كأنّها علب نفايات ، فترتفع ألسنة اللهب في سباق ماراثوني نحو السماء .
تلك الهمجيّة والوحشيّة لم تكن حكرًا للرجال فقط ، بل وللنساء نصيب ، ربما تكون إحداهنّ آمنة في خدرها تداعب صغيرها كأرنبين ، فيداهمها تتفل ماكر يتقي نيران المسؤوليّة بظلّ بزته العسكريّة التي لا تثنيه أن يلقي بالمرأة على سريرها يدفعها دفعاً ، وتجاهد درأه عنها بكل قوّة ، إن كانت لديها قوّة ، بينما يزاول التهامها ، فيركض نحوه طفلها صارخاً يحاول نجدة أمه ، هو لا يعي ماذا يحدث ، ولكن صراخ أمه أوجعه ، فيريحه الذئب من أوجاعه بضربة بمؤخرة بندقيته ، فيتردى الطفل قتيلاً ينثعب الدم من رأسه ، وتصرخ المرأة على فلذة كبدها وشرفها المهدور في زمان بات الشرف فيه أرخص السلع ، والإنسانيّة أندر ما في الوجود ، والنخوة أساطير الأول ين ، والمسلمون أسرى المباريات والموضة والأزياء.
رمى بنيامين بطرفه إلى الشارع واجما ، يمل طول الليل نديمه الذي جرعه كأس الحزن حتى الثمالة ، وقد تناثرت في رأسه شظايا أفكار شجية أعمته عن سحر الأضواء التي تغزو المكان المرصع برداء السحر . فجأة جاءته جدته الشمطاء مهتمة الجدة :ـ فيم تفكر ؟؟ ما الذي يحزنك هكذا ؟ مازال حزيناً عيونه حائرة مركبة على زئبق رجراج ، يتأمل الشارع بتشاؤم صبغ الحياة أمامه بغبرة دهماء :ـ الحياة هنا كلها تحزنني ... كل شيء هنا كئيب .
خطت خطوتين لتمسك بالدرابزين ، وقد أطل على وجهها طائر القلق ممزوجا بالدهشة ، وقطبت جبينها وزنهرت للشارع مثله ، ثم جحظت عيناها كبومتين :ـ هنا ؟؟ في امريكا؟؟ أرسل عينيه للسماء ينفث كقطار بخاريّ عتيق تملّكه الغيظ ، وطفق يحرك رأسه نفياً :ـ نعم ... فنحن لم نخلق لنعيش في امريكا ، بل نعيش هناك .... في أرض الميعاد . أحيت كلماته مشاعر وارتها أتربة الزمان ، فتوغلته بعينين تتأملان معشوق سلبتها إياه الأيام ، ففوجئت به أمامها :ـ كلامك ككلام جدك.. قالها لي ذات مرة ، وللأسف طاوعته .. فكانت النتيجة .
كانت لهجتها الحانية كفيلة بإثارة براكين الحنق الشديد داخله :ـ العرب الملعونون ... شياطين الإنس !! ما ضرهم لو سكنا أرض الأجداد ؟؟ وأرسل طرفه نحو الأفق نظرات لولا رحمة الله لأحرقت النجوم ، وسكن لحظة ، ثم سحب نفسا متوقدا يصارع به انفعالا جامحا ، وضرب بقبضته الدرابزين ، وجزّ على أسنانه فاصطكّت مزمجرة كلبؤة ترضع أشبالها ، وقد حاول مضايقتها ضبع أرعن :- كم أكره هؤلاء الإرهابيين !! ولكن يا جدتي لم يعد العرب عائقاً الآن ، بل العائق إخواننا بنو صهيون الذين يروننا دونهم زفرت بشدّة كادت تنفجر ، وكأنّه سبّها بأمّها وأبيها وكلّ أسرتها ، فنهقت تنهره :ـ من أوصل إليك هذا الفكر ؟؟ ثم صرخت فيه حتى كادت تلتهمه :- إياك أن تقول هذا ! إنها افكار عربية مسمومة هدفها تفتيت كياننا ... نحن لسنا مثلهم ، يأكل القوي منا الضعيف ، نحن امة متماسكة .. لا تنسى أننا شعب الله المختار.. وتهدأ لهجتها تنظر للشارع :- كل ما في الأمر أن إسرائيل المطهرة قد ضاقت بنا ، ولا سبيل إلا بتوسيع المستوطنات اليهودية ليزداد عدد النازحين .. وفي محاولة لتبرير أكاذيبها وأكاذيب بني جنسها ، وقد بدت عليها بوادر الورع ، تكاد تبرز على ناصيتها زبيبة الصلاة وتنتفجر دموع الخشية من عينيها :- ولكن هؤلاء الإرهابيين يرفضون .. ونظرت للشارع بحقد شديد جفّف الدموع ، وتناول الزبيبة وطرد الورع: - يريدونها عربية نجسة ! ونظرت إليهنظرة أرنب لو رآها ثعلب لصام الدهر عن أكل الأرانب :- أيريضيك أن تكون أرض الميعاد نجسة ؟؟
تلثمت السماء بلثام الليل الأسحم ، زاد جماله تراقص بنات العلياء كراقصات بإليهحول عرش القمر ، يغرين النيل الذي بدا هادئ الأمواج غير مكترث ، وكأنه يترقب ما هو أهم من القمر وجواريه المضيئات ، يطل على نادٍ غاية الروعة يختال بمجاورته النيل ، يراها نعم الزلفى وخير المستقر ، تكاد تتراقص خيلاء بعض المناضد الفارغة لولا خشية إزعاج عصافير الكناريا من قتلى الحب الذين تزخر بهم أخواتهنّ المناضد يستمتعن بتغاريد العشق ، أمامهم عصائر الليمون والبرتقال ، وشتّى الفواكه ، منذ ساعات ، ولم يفز أي قدح منها بلثمة فم ، إذ العشاق محلّقين في سماء أحلامهم الوردية ولمّا يهووا إلى الأرض .
لم يدر سكان المناضد بالملكين الهابطين عليهما ، فكلُّ منهم سابح في عيون ملاك حياته ، لم ينتبه لهاني وريهام – وهي من كان النيل يترقبها ، إذ غنت الأمواج بمجيئها ، وزغرد الشاطئ فرقصت الأسماك ، ولكن أحدا لم يرها ، هكذا خيل لهاني - يتمشيان بينهم كأنهم يتمشيان بمتحف لتماثيل العشاق حتى بلغا منضدة خاوية محظوظة ، فازت بدعوة أمها ، تطل على النيل مباشرة تقصّ له روايات عن زائريها ، حتى بتر حديثهما هاني وقد تقدم يفسح كرسياً ، وانحني بطريقة رومانسية كفارس نبيل :ـ سمو الأميرة.
فانتفشت ريهام كطاووس تختال تخال نفسها أميرة – وهي بالفعل أميرة أحلامه - ، تخطو نحوه خطوات دلال ممزوج بكبرياء حتى جلست على كرسيّ ظنّ نفسه عرشًا لأميرة الأميرات ، فترك هاني العرش مبتسماً ، ثم ذهب ليجلس قبالتها يمنّي نفسه ارتشاف عبق نظراتها الساحرة لتصدمه بِلوري غضبها :ـ زي ما قلتلك .. انسى فكرة اننا ناخد الشقة دي . أنا اتشائمت منها خلاص.
وولّت عنه بدلال زافرة تمنّ على النيل بالنظر متذمرة ، فمازحها مبتسماً ولم يغَرْ من النيل :ـ دي سابع شقة نروحها وما تعجبكيش .. وبعدين حقهم هما اللي يتشأموا مش انتِ .  
فأخذ الغيظ منها مأخذه ، وقد ضاقت احدى عينيها كثقب إبرة لا تنجح أغلب الفتل في اختراقه ، رغم أنّه عشق تلك النظرة ، إلا أنها تعني أنها اغتاظت ، فخشي أن يتفاقم الأمر فعالجه ناظرًا إليها ضاحكاً :- دا يا عيني بعد العلقة اللي اخدوها استحالة يفكروا في الجواز ، والمجنون اللي هايفكر .. هايخلف ازاي ؟؟ دا انتِ عملتيلهم عاهة مستديمة.
فنظرت إليهبلهجة مهددة ، ينقص لسانها أن يطلق رصاصات في الهواء :ـ أنا كدا .. اللي ينرفزني يا ويله ! ونظرت إليهمداعبة وقد ثنت جيدها كشادن أدعج :- عشان تبقى فاهم من أولها.
فارتسمت على صفحة وجهه ملامح استياء مازح :ـ صحابي قالولي بس أنا ما اسمعتش الكلام.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي