الفصل التاسع عشر

أومأ الطبيب رأسه ليكمل حكايته، فأكمل قائلا: لم تكن زوجتي فقط، بل كانت ابنتي التي تربت على يدي هي ابنة خالتي، كنت أول ما رأت أعينها، كنت أكبرها بعشر سنوات ولكنني أول من قالت له أبي، أول من حملها، ذات يوم جاءتني باكية في الثانية ظهرا بعد يومها الدراسي، فسألتها عن سبب بكائها لتخبرني بأن مدرسا من المدرسين حاول التحرش بها، لم أسألها عن شيء، فأحدهم يحاول العبث مع حبيبتي، بل ابنتي فأهلا به في الجحيم.
سألت عن ذلك المدرس حتى عرفت كل شيء عنه، تسللت إلى بيته في منتصف الليل، ودون أن أحاول السماع له فصلت رأسه عن عنقه، وفي ظرف يومين كان الجميع يتحدث عن المدرس الذي اكتشفوا مقتله في شقته دون معرفة القاتل.
لقد عرفت تميمة أنني الفاعل، ولكنها لم تتحدث معي عن الأمر، ربما قد تجمد قلبها وصارت لامبالية، ولكنها تعلقت بي أكثر مما كانت عليه، فقد كانت تميمة الشؤم لي.
مرت السنوات وتزوجنا، أنجبنا ابنتينا آيلا وعشق، ولكنني فوجئت بإصابتي بالفيروس لأجد خذلان لم يعهده أحد، فبعدما رفضت ترك شقتنا، اتصلت بشاكر أخيها ليقنعها بالخروج، انصاعت لأمره، نعم شعرت بالتهميش وكأنني لست المسؤول عنها المؤوي لها، الأغرب كان اتصال اخيها يحدثني بنبرة الآمر الناهي، أخبرني بأن علي الانفصال عنها بلا رجوع فقد أصبحت موبوءاً.
واا حسرتاه في طرفة عين وانتباهتها خسرت كل ما أملكه، زادي وعزوتي، ابنتان وزوجة هما قرة عيني، هما نور بصري.
ركضت.. سقطت.. وقفت.. سقطت.. عافرت وزحفت، حتى وصلت لمكان سكني، رأيت الجميع يهرب من أمامي، جريت معهم ظنا مني أن هناك مكروه حدث لأحدهم، ولكنني عرفت في النهاية أنهم يهربون مني، لقد أخبرتهم زوجتي بأنني مصاب.
ظللت مرابطا في بيتي أحاول الاتصال مرارا، فلم أكن أتخيل العيش بدونهن، أصبحت نهايتي وشيكة ولن أراهن حتى قبل موتي، بعد عشرة أيام أو يزيدون، اتصل بي شخص لا أعرفه يدعى ميشيل عوني، أخبرني بأنه يعرفني ويعرف نبذ الجميع لي، شكوت له.. بل بكيت، فأنّا لغريب أن يواسيني والقريب أول من يجافيني!
ظل يتودد لي لثلاث ليالٍ حتى وثقت به، فأخبرني بخطة لا تخطر على بال بشر، إنها حكاية الثعلب الذي قطع ذيله، وحين لاقى السخرية من أول صديق خدعه وأوهمه أنه أصبح أخف وأسرع بلا ذيل، فاقتنع وقطع ذيله فتأوه، وسأله لما خدعتني؟
فأجابه قائلا: حتى لا أصبح أضحوكتك والآخرين.
وحينها لم يسلم أي ثعلب من القطيع، حتى تم قطع ذيولهم جميعا، بل أصبحت تلك طباعهم الأبدية التي لا تتبدل، وإن وجدوا ثعلبا بذيل سخروا منه ونبذوه.
فهمت ما يطلبه مني، وقلت في نفسي حقا أنهم يستحقون الموت، لن أموت وحدي، سأجعلهم يندمون، إن كانوا نبذوني بسبب علة ليس لي يد فيها، فلن أتركهم ينعمون بأية حياة، سيموت الجميع، سأنشر الوباء بينهم حتى يبدلهم القدير بقوم خير منهم.
اتصلت بأخيها وأخبرته بأني لست مصابا، وأريد زوجتي، فأبى أن يساعدني، أخبرته بأنني سأكتب عش الزوجية باسم أخته المصون، فأغلق معي بحجة التفكير في الأمر، لم يمر يومان حتى وجدتها أمام شقتي، وما إن رأتني حتى ظلت تقبلني وكأنها تحبني، قبلتها وزدت من قبلاتي، فخطتي نجحت وأصبحت والوحش في قفص واحد.
كنت أشعر بالنشوة كلما اقتربت منها ومارست الحب معها، حتى بدأت في التقاط العدوى، بل وأصبحت تخالط الآخرين ‏من أهلها، حتى الجيران لم يسلموا من الاختلاط بنا، أصبح الظل الأسود ينتقل من شخص لآخر، حتى أصبح الشارع منبع للوباء وكأنه وكر لتجار الموت، حتى ابنتي لم تسلمن منه، اتصلت بعائلة زوجتي وهما خالتي وزوج خالتي وأخوا زوجتي، ودعوتهم لتناول طعام الغدا، كنت أنظر لهم بود مصطنع، أحييهم وألين في حديثي كي لا يشك أحد بي، بل وحضرت الغداء وحدي دون مساعدة زوجتي.
أعرف أنهم بدأوا يشكون بي، فرغم ما كنت فيه من الطيبة لم أكن طيبا إلى هذا الحد، حضرت المائدة وزينتها لتكون آخر غداء لهم في الدنيا، الطعام كان باردا، فلربما يكون آخر شيء بارد قد يروه، فالجحيم على الأعتاب لا تبقي ولا تذر.
-  فتحت منافد الغاز وخرجت لهم، ابتسمت لهم ابتسامة واسعة، وغلقت الأبواب وقلت: هيت لكم.
-  قالوا: ماذا تعني لا نفهمك؟
-  قلت لهم: أنتم أحبتي، اصطفيتكم لتؤنسوا حياتي، وأيضا لنكون صحبة في الهاوية.
ضحكوا وكأني مجنون أهذي، وتعالت ضحكاتهم، أشعلت قداحتي فانفجر المكان بنا، كنت أضحك وسط صرخاتهم الهيستيرية وهم يطوفون المكان بجنون، محاولين النجاة بحياتهم العفنة، ازدادت ضحكاتي حين تذكرت أن الهاوية ستكون بعثهم، فجأة ذهب كل شيء، فتحت أعيني لأجدني هنا، أحكي حكايتي لكم دون أي إحساس بالندم، هل أنا حقا على قيد الحياة؟!
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي