الفصل العاشر

فكما قلت لك كلنا في هذه الدنيا نرى الكثير والكثير، لا أحد منا أفضل من الآخر، ليس المهم كيف أتيت إلى هذا العالم، ولكن المهم ماذا تفعل ليراك العالم.
إذا كنت جئت في هذا العالم بالخطأ كما أخبرك مدير دار الأطفال، فلتعمل جاهدا على إثبات عكس ذلك، أحيانا نتائج الخطأ تكون في صالح المجتمع.
أتعلم كان هناك امرأة ولدت أكثر من ابن مصاب بمتلازمة داون، وعندما حملت مجددا أرادت أن تقتل جنينها، ولكنها لم تمتلك الجرأة لذلك، وبالفعل ولدته، لو كانت قتلته كما أرادت، كانت ستندم حتما لأن ذلك الجنين كان بيتهوفن.
أوتعرف عليك أن تحمد الله أنك بعد مرورك بكل هذا، لم تفقد رغبتك في الحياة وفي الخروج من غرفتك وممارسة حياتك العادية، التعب الذي يجعلك تتجنب المناقشات الطويلة والعتاب الذي يستمر لـساعات، التعب حتى من الرد على الكلمات اللطيفة ولو بـرمز تعبيري، التعب من المناقشات والمجادلات والاستماع لوجهات النظر المختلفة، التعب من تبرير مواقفك وأفعالك ولا تملك كلمات مناسبة لوصف ما يحدث بداخلك، تتجنب الجميع بلا سبب واضح بالنسبة لهم لكنك تعرف أنك متعب من الناس وممن حولك، لا تقصد العزلة، لا تقصد أبدا أن تقول لهم أنك لم تعد ترغب في بقائهم معك، لا تقصد أبدا أن تقول لهم أنك لم تعد تحبهم، أو تغيرت مكانتهم في قلبك، أنت لا تعاني من الحزن أو الاكتئاب، لا تشعر بالفقد أو الحنين لأشخاص لم يعد لهم وجود في حياتك، أنت لا تعاني من الوحدة أو شعور الغربة، أنت متعب فقط، تشعر بالتعب من أفكارك التي لا تهدأ، من قلبك الذي يتألم، من الناس والعالم... ومن نفسك .
ابتسم جاسر متحفزا من كلمات الطبيب مصطفى.
هز الطبيب رأسه مطمئنا إياه، فأكمل جاسر كلامه بعدما تجرع رشفة من الأمل؛ كانت الأيام تمضي مثل بعضها، لا يوجد عمال لنظافة الدار فقد كنا عمالا للدار، أيضا الخدمة كانت ذاتية، نحن ننظف والأكبر قليلا هم من يعدون الطعام، لن أحدثكم عن الطعام الذي كنا نأكله، فقد كان يبيت بالثلاث أيام ونأكله حامضا مجبرين عليه.
ذات يوم حاول أحد نزلاء الدار الأكبر سنا التحرش بأصغرنا سنا، ولكن أحدا لم يتصدَ له حتى المدير لم يشغل به بالا، صرخات الطفل كانت تقتلني، فكسرت زجاجة مشروب غازي كانت لأحد الموظفين وقتلت بها المتحرش.
وهنا بدأت التدخلات، أن يغتصب أحدهم شيء طبيعي، أن يسلب شرفنا بالداخل لن يهمهم، كل ما يهمهم ألا يقتل أحد تحت مسئوليتهم، خصوصا وأنهم سيسألون عن الأعداد، أما عن الشرف والأعراض فلا شرف لنا، فنحن كما قال أبناء العاهرات
قتلته ولم أندم قط، حتى حين ظل يضرب في ويعذبني، لم أشعر سوى بلذة الانتصار لأنني شعرت بأنني أفضلهم.
ربطني في رجل أحد المضاجع بحبل سميك كمشنقة عشماوي، معتزما أن يبلغ عني في اليوم الذي يليه، ذهب وأوصد الغرفة علي وحدي، أظن أنه قصد أن يربطني بذلك الحبل كي يخبرني بأني سأشنق، ولكن شاء القدر أن يفتح باب الغرفة، لأجد أن الطفل الذي أنقذته يحاول إخراجي من محبسي.
وجدته يمسك زجاجة مكسورة ويحاول قطع الحبل، أعاد محاولته مرارا وتكرارا حتى نجح في قطعه، ابتسم لي ثم احتضنني وهمس في أذني قائلا: إذا استطعت أن تخرجني وإياك من هنا فافعلها.
فكرت لدقائق فلم أجد أية فرصة للخلاص، السور وأسلاكه الشائكة المتصلة بالكهرباء، الحراس والمشرفين.. ولكن الموت لأهون مما أنا فيه.
أخبرته بأمر السور كي لا يفكر أن يهرب عن طريقه ويموت، لقد كان صغيرا أكثر مما ينبغي !
-  فكر قليلا ثم ابتسم وهمس قائلا: لم يعد السور خطرا، أنت تقول أنه يحدث شررا إذا لامس بعضه البعض، ولكنه لم يعد كذلك.. منذ يومين السماء امطرت ولامسته الماء، ولم يحدث أي شرر لقد تمنيت أن ينقطع من الماء ولكنني كنت أبله.
-  سألته: أكنت تفكر في الهروب من قبل؟
-  أخبرني بأن اسمه يامن، ولكنه ليس صغيرا كما أعتقد، هو فقط مصاب بمرض التقزم لذلك يعتقدون بأنه صغير، هو في السابعة عشرة من عمره رغم ذلك يظنه الكثيرون أنه لم يتعدَ العاشرة، ولطالما حاول أن يثبت عكس ذلك ولكنهم لا يصدقونه.
علميا إن أثبت ذلك فسيخرج بعد سنة، ولكن من يهمه أمر فتى في الملجأ؟!
في تلك الليلة كان الجميع في مضاجعهم نائمين، الكل مطمئن، فلا أحد يظن أن فتى في العاشرة مثله، وفتى مثلي في الخامسة عشرة سيهربان من فوق أسلاك شائكة؟!
طلب مني أن أصعد أولا، شككت في أمره، فأخبرني أن أحاول ألا ألمس السلك الشائك، حينما صعدت صعد خلفي، ثم إذ به يحتضنني، لامست يدي السلك فدوت الكهرباء به هو.
-  بصوت مكبوت قال: لقد صعقتني الكهرباء أكمل الخطة فلا وقت لنجاتي، هذا رد لجميلك، أهرب.
قفزت أعلى السور وتلك كانت المرة الأولى التي أرى بها العالم الحقيقي، سرت في الطرقات بلا ورق وبلا هوية، لا أعرف أحدا ولا أحد يعرفني، كانت الساعة تقترب من الواحدة صباحا، اشتد البرد حتى ارتعشت أوصالي، كنت أرتدي زي الملجأ القطني؛ بنطالا أبيضا وقميصا طبع عليه اسم الملجأ، إذا لاحظه أحد بالتأكيد سيعرف أنني هارب.
ظللت في الطرق تارة أمشي، وتارة أجري بلا أي وجهة، حتى وجدت مجموعة من الناس متجمعة في مكان ما به كراسٍ كثيرة، يضحكون ويلعبون، وآخرين ممسكين هواتف محمولة كالتي كانت في أيدي مدير الدار والموظفين، كانت لها لافتة كتب عليها (قهوة دعبس).
جلست بجوارهم، فجأة دخل رجل متسائلا: أي مشروب تحب أن أقدمه لك؟
-  قلت: لا أعرف، مثلما تحب.
-  ضحك، ثم نظر إلى ملابسي بريبة ثم سألني: من أين أنت؟ فلم أجد إجابة ترددت كثيرا.
-  فسألني: ما اسمك؟
-   قلت: جاسر.
-  فسألني: أين كنت قبل أن تأتي هنا؟
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي