الفصل السادس والعشرون

-  فابتدأ حكايته بمقدمة فلسفية قائلا: كم أود أن أحكي لكم عن بداية الفاجعة التي وقعت بها رغما عني، ولكنني لا أستطيع الآن، لأنكم لن تفهموا بدون أن أحكي لكم حكايتي، كل يوم يخرج لنا الآلاف والآلاف من المجرمين، البعض يسجن والبعض الآخر يحجز في أحد مستشفيات الصحة النفسية، وهذا ضياع من نوع آخر، خصوصا أنه يظل من وجهة نظر الكثيرين منكم مجنونا يخافون منه فيجن بعدها، ثم نراه بعدها يمشي في الشارع رث المظهر، والبعض يرشقونه بالحجارة والبعض الآخر مذهولون لما وصل إليه وكأنهم ليسوا سببا في ضياعه، من المسؤول عن ضياعهم؟ أهم انشقوا عن طبيعة الكون أم أنهم لم يجدوا من ينتشلهم من الضياع؟
لم يجدوا الصالح الأمين الذي يخرجهم من نفقهم المظلم إلى عنان السماء، أنا من المجرمين الذين أطيح بهم في أحد المستشفيات ذات يوم، ليسكن لأيام وأيام ولكنني من سلمت نفسي إليها، لم أطق التعايش مع كافة المخلوقات، كرهت التعايش بدور القط والفأر، الخير والشر، الذئبان المتناطحان يوميا، المعركة التي ينتصر فيها الخير دائما في مسلسلاتكم العقيمة، لتظهر البهجة على الوجوه الكالحة، إنها لعبتي وقد مللت منها، دائما أنا الذي أسبق بخطوات، أنا المنتصر بل أنا المتحكم في اللعبة من بدايتها، مللتها ومللت وجوهكم الخائفة، حتى حين هربت من الخير والشر؛ وجدت المتطفلين من الأطباء يحاولون تعكير صفو هدنتي، فحدث لهم ما حدث.
كنت عالما يوما ما، أنا الدكتور مصطفى سلامة كما عرفتموني ولكنني أحمل اسما آخر، ميشيل رافع، مواليد مصر لعام 1912 ولكنني أكملت دراستي بألمانيا، أعلم أنكم تتساءلون أي جنون هذا؟ أو ربما تعتقدون أنني أدعي الجنون، فأنا حضرت بالفعل الحرب العالمية الأولى بل حضرت أيضا تصفية اليهود على يد هتلر بمحرقة الهولوكوست، لقد كنت واحدا من اليهود المقيمين في ألمانيا قبل وعد بلفور بإقامة دولة لليهود على أرض فلسطين أو على الأصح في أرض أبانا الأكبر إسرائيل، أبي كان مصري الجنسية وأمي ألمانية المنشأ.
تعلمت في مصر وحلمت مع الحالمين بإقامة دولتنا اليهودية من الفرات للنيل، أصبحت عالما كما حلمت، أحبني الكثير من الألمان، حتى قامت مجازر الهولوكوست، وقام أحد العلماء من زملائي بتهريبي في حاوية من حاويات البضائع إلى مصر.
كنت ممكن ساعدوا الإنجليز في مصر وأخبروهم عن كافة الاختراعات الألمانية، فرغم أن المصريين وقتها كانوا يتمنون دخول الألمان للقضاء على الاحتلال الإنجليزي، إلا أنني تمنيت أشد التمني القضاء على الهيمنة الألمانية في كافة بقاع الأرض، حتى لا يقتل أبناء ديانتي بما فيهم أنا.
عملت مع المصريين كعالم له مكانته، وعلموا أن ولائي كله لهم فخافوا كثيرا أن يضيعوني، خصوصا وأنهم كانوا يساعدون الألمان للقضاء على الاحتلال الإنجليزي، اقترح أحد العلماء أن يتم تجميد بعض العلماء اليهود، لمدة قليلة من الزمن حتى تنتهي الحرب، كانت فكرة بلهاء لا يفكر فيها سوى مجنون، رفضت رفضا قاطعا.
-  قال أحدهم إن في دينهم حديثا يقول: (عمر أمتي ما بين الستين والسبعين)
فسألته عن صحة هذا الكلام ، فأكد أنه صحيح مئة بالمئة.
-  فسألته: اذا كان صحيحا كما تدعي، فلماذا هناك أناس يعيشون أكثر من مئة عام؟
-  أخبرني أن الإنسان مثلا كالسيارة عبارة عن جهاز، وذلك الجهاز له عمره الافتراضي، يمرض كثيرا ويشفى، ولكن يأتي وقت معين بعد الستين يصبح الجهاز عرضة أكثر للتلف، وهذا ما يحدث بالفعل.
لم أكن قد تعديت وقتها الخامسة والثلاثون، من هنا أتتني فكرة أخرى بدلا من التجميد، التي أشك أنها حقيقية فأنا لا أثق أبدا بالعلماء المصريين، فالمصريين يستطيعون فعل الكثير، كجعل العالم فاشل وجعل الفاشل نجما عالميا، بعكس الألمان ويهود أوروبا، فنحن نجعل أرذلنا عالم بل نساعده بأن يصير أفضل العلماء مادام عقله يعمل.
استوقفني كلام العالم المصري عن العمر الافتراضي لجسد الإنسان، إن الجسد يظل قويا حتى الستين وبعدها يشيخ ويبلى ماذا لو جددناه منذ البداية؟ ماذا لو تغيرت القلوب والأعين، ماذا لو تبدلت قطع الغيار البشرية لقطع أخرى؟
أعلم أن الروح خالدة كما هو في التلمود، يموت الجسد ويبلى وتظل الروح في حيويتها، بل إن الجسد كثيرا ما يقيد الروح، الجسد يشيخ أما الروح تظل كما لو كانت في الثالثة والثلاثين.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي