الفصل السادس

في تلك الليلة كان الجميع في مضاجعهم نائمين، الكل مطمئن، فلا أحد يظن أن فتى في العاشرة مثله، وفتى مثلي في الخامسة عشرة سيهربان من فوق أسلاك شائكة؟!
طلب مني أن أصعد أولا، شككت في أمره، فأخبرني أن أحاول ألا ألمس السلك الشائك، حينما صعدت صعد خلفي، ثم إذ به يحتضنني، لامست يدي السلك فدوت الكهرباء به هو.
-  بصوت مكبوت قال: لقد صعقتني الكهرباء أكمل الخطة فلا وقت لنجاتي، هذا رد لجميلك، أهرب.
قفزت أعلى السور وتلك كانت المرة الأولى التي أرى بها العالم الحقيقي، سرت في الطرقات بلا ورق وبلا هوية، لا أعرف أحدا ولا أحد يعرفني، كانت الساعة تقترب من الواحدة صباحا، اشتد البرد حتى ارتعشت أوصالي، كنت أرتدي زي الملجأ القطني؛ بنطالا أبيضا وقميصا طبع عليه اسم الملجأ، إذا لاحظه أحد بالتأكيد سيعرف أنني هارب.
ظللت في الطرق تارة أمشي، وتارة أجري بلا أي وجهة، حتى وجدت مجموعة من الناس متجمعة في مكان ما به كراسٍ كثيرة، يضحكون ويلعبون، وآخرين ممسكين هواتف محمولة كالتي كانت في أيدي مدير الدار والموظفين، كانت لها لافتة كتب عليها (قهوة دعبس).
جلست بجوارهم، فجأة دخل رجل متسائلا: أي مشروب تحب أن أقدمه لك؟
-  قلت: لا أعرف، مثلما تحب.
-  ضحك، ثم نظر إلى ملابسي بريبة ثم سألني: من أين أنت؟ فلم أجد إجابة ترددت كثيرا.
-  فسألني: ما اسمك؟
-   قلت: جاسر.
-  فسألني: أين كنت قبل أن تأتي هنا؟
ترددت فنادي على رجل آخر يبدو عليه الوقار، كان يبدو أنه صاحب المكان ولكنه وقور أكثر مما ينبغي، سألني؛ هل كنت في الإصلاحية؟ ورغم أن كلمة الإصلاحية ترددت على أذني مرة واحدة مند ساعات، إلا أنني لم أكن أعرف معناها.
-  قلت: لا لقد كنت في الملجأ، وصدقني لا أعرف طريقا للرجوع إليه، ولا أريد الرجوع إليه مرة أخرى.
طلب مني أن أحكي له ما حدث، فأخبرته بكل شيء عدا أني قتلت، شكرني على شجاعتي ثم احتضنني ولم أكن جربت ذلك الإحساس من قبل.
-  سألني: هل تريد أن تعمل معنا؟
-  فأجبت: لا أعرف، ولكنني جائع، فهل يوجد طعام؟
أخبرني أنني ضيفه لمدة ثلاث ليالٍ، سأكون ملازما لهم في هذا المقهى حتى أتعلم كيف يعملون، ثم أعمل وأكسب رزقي، لقد كان رحيما جدا علي، ولكن الرياح دائما تأتي بما لا تشتهي السفن، فذات يوم جاءنا زبون، قدمت له مشروبا فالثاني، وظل ينظر إلي، ثم ناداني فلبيت ندائه، سألني؛ أنت جاسر؟
-  أجبته بترددي المعتاد: نعم.
أجابني بأنه يعلم أين كنت، بل يعلم كل شيء عني منذ ولدت.
-  سألته: كيف؟
أخرج من جيب بنطاله صورة رضيع أعطاني إياها، سألني، هل تعرف لمن تكون تلك الصورة؟
فطال صمتي، فابتسم لي ثم ربت على كتفي، سألته لم أجبك ولا أنت بمجيب حتى الآن، الحل الوحيد أن تكون تلك الصورة لي، ولكن لو كانت لي كما خمنت، فلماذا لم يسأل عني أحد من قبل؟!
أهناك صدفة تجمع الأهل بابنهم عن طريق مقهى بطريق واعرة، بعد أكثر من خمسة عشرة عاما؟ لا أظن.
طلب مني أن أكمل ولكنني صمت كثيرا، عاود ابتسامته، ثم أخرج أوراقا تثبت أنه كان سجينا قبل أكثر من خمسة عشر عاما، أخبرني أنه سينتظرني حتى أكمل دوام يومي ليقص علي ما حدث.
ظللت أفكر هل كان أبي؟ لكنه لا يشبهني إطلاقا، انتهى الدوام أخيرا ووجدته ينتظرني بسيارة، ركبت معه وظللنا صامتين حتى وصلنا إلى مطعم شرقي، طلب لي طعام لم أذقه من قبل، كنت أتناوله بنهم، لم يتناول شيئا منه، فقط كان ينظر إلي مبتسما كنظرة أب اشتاق إلى ابنه كثيرا، وأنا آكل حتى أتيت على كل ما على الطاولة، ثم تجشأت فضحك كثيرا على فعلتي، فضحكت أيضا فتلك كانت عادتي.
بعدما طلب كوبان من الشاي، أخرج من جيب بنطاله صورة لرجل وامرأة يشبهانني كثيرا، أخبرني أنهم والداي، تزوجا منذ وقت طويل، كانت حياتهم هادئة حتى توفيا في حادثة سيارة.
-  فنظرت له ثم تساءلت: ولكن كيف نجوت من الحادثة؟
-  أجاب: لقد تركتك أمك مع أبيها، فطمع بثروة أبيك وألقاك بالشارع، حتى انتشلك رجل ما وأودعك في الدار.
-  بكيت كثيرا، أهذا العالم الخارجي الذي حلمت بالولوج إليه؟ ربما بالداخل أرحم من الخارج، فبالداخل غابة صغيرة نستطيع فيها حماية أنفسنا ممن يشبهونا، أما بالخارج فغابة كثيفة لا ندري، لها بابا حتى آخرها لا نعرفه، سألته: من أنت؟
فأخبرني أنه من انتشلني قديما، فعاودت سؤاله وكيف عرفت حكاية جدي؟ فأجابني بأنه رآه حين ألقاني، ولكنه خاف أن أصبح قتيلا له، فالملجأ خيرا لي من رجل لا قلب ولا دين له، أما حادثه أبي وأمي فقد عرفها من الأخبار بالتلفاز نظرا لرفعة شأن أبي.
امتلأ قلبي غيظا على البشر أجمعين، فكانت كلماته ساحرة بل مهونة جدا، أتريد أن تنتقم من جدك؟
-  قلت: نعم.
-  قال: لا، فقتله لا يجدي نفعا هو بالفعل سيموت، ولكن الأفضل أن نأخذ أعز ما يملك؛ ثم أردف قائلا: جدك حين استولى على مالك، تزوج من فتاة تصغره بثلاثون عاما أي في عمر أمك حينها، وأصبح لديه أبناء، سنحرق قلبه بقتلهم أجمعين.
أحببت فكرته أكثر مما يجب فطاوعته، مر يوم والثاني حتى وجدته أمامي في محل عملي يبتسم لي، اقتربت منه فأخبرني بأنه أتم الانتقام لي.
سألته حينها لما لم يتركني أفعلها بنفسي، أجاب بأغرب إجابة قد أتوقعها، إذا طلبت من الشيطان أن يقتل لك شخصا فمن القاتل؟
-  قلت: الشيطان.
-  قال: لا عقلك، الشيطان ربما يوسوس لك، ولكن دون إرادتك لن يفعل شيئا، كنت أريد عقلك فقط، ولذلك فقد انتقمت لنفسك أما أنا فكنت مجرد آلة، أوفيت حقك صغيرا وحقك حين كبرت.
سألته هل هو شيطان، فأجابني بأنه ليس شيطانا ولكنه مجيب للدعوات فقط، ينفذ ما نريد لإسعادنا، ثم مر من جانبي بسيارته ولم أره بعدها.
مرت سنة، كانت أحلامي تتلخص في ثلاث شباب من سني، أراهم كل يوم وهم يتساءلون لما قتلتنا؟! انقلبت حياتي إلى كابوس واحد، تلك الرؤيا لم تتركني، كنت أسير بين الناس فأراهم يتهامسون قائلين: ها هو القاتل.
مما جعلني أفكر؛ بما أنني أصبحت قاتلا فلماذا لا أقتل؟!
كنت أحاول كظم غيظي وإبعاد تلك الفكرة عني، حتى أنني قمت بزيارة طبيب نفسي، وأخبرته بكل شيء، أبدى تعاطفه معي، ثم أخبرني بطريقة علاج جديدة تشبه طريقه علاجك أيها الطبيب، ولكن بصورة مختلفة؛ إن من يخطئ يعاقب، من ينعتني بالقاتل يقتل، كل ذلك مقابل ثمن الكشف فقط.
كنت أمر بين الناس وكأني مراقب، أختار فقط من يزعجني فيختفي بعدها، يأخذه أحد ما لمكان ما، حتى جاء ذلك اليوم الذي علا صوتي فيه قائلا: لم أعد أريد هذه الحياة، لا أريد المزيد من الموتى، لن يقتل أحد بعد الآن، سأكون الأخير.
لقد كانت لعنة، ولكنني اكتشفت ذلك بعدما حاولت قتل نفسي بثوانٍ قليلة، غبت عن الوعي ثم وجدتني هنا، وطبيب أبله مثلك يريد أن يكرر ما فعله ذلك الطبيب، ترى هل ستقتل الآخرين مثله؟!
ابتسم مصطفى، ثم ربت على كتفه قائلا: يبدو أنك نجوت من موت محقق، لا أعلم هل مت كما قلت سابقا وهذه روحك، أم أنك نجوت، كل ما أعرفه، أنك ذا قدرة لا يجب الاستخفاف بها، وهذا ما أريده.
نظر الكل نحو جاسر والطبيب، حتى غادة أطالت النظر إليهما، ربما لم أفهم شيئا، ولكنني أعلم أن الليلة ستكون مليئة بالمفاجآت، لا أظن أنه حي فوجهه الشاحب ونظرته للطبيب لا تبشران بخير.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي