الفصل الثالث

-  ميشيل بتؤدة: حسنا يا دعاء.
دعاء نفسها ورحلت من أمامه بخطوات ثابتة.
لملمت كانت دعاء تسير بين الممرات شاردة الذهن، تفكر هل ستظل في هذه اللعبة كثيرا وهي لا تعرف من هي في الحقيقة؟
الحياة بالنسبة لها عبارة عن عربات قطار متصلة، لها بداية ونهاية تدور حول خط واحد مارة بمحطات عدة، وهي تاه عن عقلها جل ما مرت به، فأصبحت كالفراشة المعلقة بين السماء والأرض، لا تعرف وجهتها ولا تعرف ماذا عليها أن تفعل، أحيانا الفضول يدفعنا بأن نفتش في سراديب الماضي، ولكن ما إن نكشف خباياه حتى نندم ونتمنى أن ننسى ما قد عرفنا، شعرت بالضيق فأخرجت هاتفها النقال واتصلت بأمها، تكلمت بصوت مكتوم: السلام عليكم..
-  شعرت الأم بها فتزايدت دقات قلبها لترد عليها بقلق: وعليكم السلام، ماذا بكِ؟ ما بال صوتك لا يريحني ؟
-  ترقرقت دمعة دفينة في مقلتي عينيها ثم قالت: أمي أحتاج إليك كثيرا..
-  الأم بهلع : ماذا حدث؟ هل أنت بخير.
-  دعاء: لا تقلقي يا أماه أنا فقط متوترة نوعا ما، وأردت سماع صوتك كي أشعر بالأمان.
-  الأم: أين أنتِ الآن؟
-  دعاء: ما زلت في العمل.
-  الأم بصوت دافئ: حسنا.. عشر دقائق فقط وسأكون معكِ، لا تغلقي المكالمة سنظل سويا على الخط انتظري.
بدلت الأم ملابسها سريعا، ولم تمر سوى دقائق قليلة حتى أتتها متخطية حاجز الزمن، احتضنت صغيرتها ولم تتفوها بشيء، أبعدت الأم ابنتها وهي تمسك منكبيها بشدة، ثم همست قائلة: لا تقلقي أنتِ الآن معي، سنخرج من هنا إلى أقرب نادي نتناول غدائنا وتفرغي كل ما بداخلك.
دعاء هزت رأسها مستسلمة تماما لكلمات أمها، وصلا إلى أبواب أحد النوادي، مرا لداخله وجلسا على أقرب منضدة في طريقهم.
بعدما جلست لاحظت كتيبا صغيرا وريقاته سوداء، فتحته لتجد ما توقعته...

(الخطاب الثاني)

إلى الطبيبة راشيل رافع، سلام عليك وعلى من تجالسك الآن، قبلما أظهر لأحاورك فيما حدث وقبلما أطلب منكِ أي شيء، سأخبرك عن نفسي الكثير مما لا يعرفه أحد، حتى أنا لم أكن أعرف عن حقيقتي شيئا حتى علمت من وقت ليس بالبعيد، سأخبرك الكثير والكثير عن ميشيل رافع الذي اختفى في القرن الماضي ثم ظهر ثانية، ليختفي ثانية بعدما عرفنا جميعا حقيقته، أعلم أنكِ تقرئين خطابي الآن، وأنا أنتظر بمكاني حتى تستفيقي من صدمتك.
هذا خطابي الثاني، أكتبه لكِ بعدما وصلت لقمة قوتي في رحلة غامضة لم أكن لأفهمها حتى وصلت لمنتهاها، لن أطيل في المقدمات المملة لأنني لا أحب المماطلة سأبدأ بقصتي ولتنتبهي فهذه حكايتي الحقيقية، أسردها لكِ من داخل مستشفى النيل للصحة النفسية بالغربية، بعدما استطعت أن ألتقط أنفاسي بعد سنوات قضيتها حبيسا داخل غرفتي البيضاء بتلك المصحة:
أنا رعد، صاحب القصة وراويها وضحيتها، وربما أنا ما وراء المأساة من بدايتها لنهايتها، ها هنا أنتهي من حيث بدأت، حيث مسقط رأسي وربما كانت نبوءة عائلتي صحيحة وليست حكايات تخييم أو أسطورة مثلما كنت أعتقد.
لم يكن موت أمي موتا طبيعيا مثلما اعتقد أهلي قديما، كنت في السابعة من عمري حين كنت أراها تختلي بنفسها كثيرا في غرفتها المظلمة، لطالما سمعت أصوات وهمسات وأحيانا صرخات مكتومة لها أو كما كنت أظن أنها لها، حتى جاء ذلك اليوم الذي علت فيه صرخاتها فأفزعت من كان موجودا بالمنزل، كسر أبي الباب ليجدها ملقاة على الأرض منكبة على وجهها، ويديها ممدودتان أمامها وكأنها كانت تزحف لتنقذ نفسها من شيء ما، عيناها الفزعتان وفمها المفتوح كانا لا ينذران بخير، هناك شيء ما تسبب بقتلها.
حملها أبي بين يديه واتصل بصديقه الطبيب، الذي أخبره بأنها قد فارقت الحياة.
سأله أبي عن سبب الفزع الذي يرتسم بعينيها، فأخبره الطبيب بأنها آثار سكرات موتها، لم أكن أفهم ما يقولون، ولكنني رأيت نظرة ارتياح في أعين أبي رغم الحزن الذي يعتريه.
تسللت إلى غرفة أمي وكما عودتني أن أصلي بجانبها، دخلت لأصلي بجوار جسدها المسجى أرضا ولكن ما إن بدأت حتى أغشي علي، وبدأت الكوابيس فكأن الغرفة تبدلت وسقطت في بئر سحيق من الظلام، رأيتها تقف بجانبي بفمها المفتوح وعينيها الحمراوين تنظر إلي بكره وغيظ وكأنها تتوعدني، شعرت بأن أنفاسي حبست وكأني لم أر حبا منها قط.
تغيرت أمي، تغيرت ملامح الغرفة، وكأنني في غابة ولكن الثعابين تملكتها، أحاطتني الأفاعي في دائرة مغلقة وخفضوا رأسهم وكأنهم ساجدين أمامي، حاولت أن أصرخ ولكن صوتي أبى أن يخرج من حلقي، أغمضت عيني لا أعرف كم من الوقت قد مضى ولكنني استفقت، حين شعرت بالماء يتدفق فوق رأسي، فتحت عيني لأجد أبي يحتضنني ويسألني عن سبب تسللي، حاولت النطق ولكنني لم أستطع، عرفت وقتها أنني فقدت النطق وضاعت مني الوسيلة الوحيدة للتواصل مع أبي.
رأيت تلك الأفاعي تخرج من الغرفة أمام ناظرهم ولكنني أنا الوحيد الذي أراها، لم يكن كابوسا كما ظننت، كان حقيقة مؤلمة ماتت أمي بسببها أو ربما قتلوها لسبب ما لا أعرفه لصغر سني.
مرت الأحداث مسرعة؛ مظاهر الغسل وتشييع جنازتها، مشاهد المقابر وأسماء أموات مكتوبة من مئات السنين، تساءلت في نفسي يا ترى كل من مات رأى ما رأيت أم أن حكاية أمي تختلف عنهم؟!
انتهت المراسم بل ومرت أيام وأيام، كنت أراهم حين أنام بآخر وضعية لهم وهم ساجدين أمامي، حاولت ألا أخاف ولكنها الفطرة، فطرة الخوف من المجهول.
اقترب أحدهم مني وأخرج فحيحا بلغتهم ولكنني فهمته، لا أعرف كيف ولكنه كان كالآتي: (انتهت العملية مثلما أردت سيدي، ماتت أمك مثلما تمنيت، في انتظار أوامر أخرى، إذا أردت أن تطاع مرة أخرى فعليك بتقديم الدم الاقرب إليك)
لم أفهم لصغر سني فأومأت برأسي، واختفى المشهد ومرت سنوات كثيرة ولم أرهم بعدها قط، حتى وصلت للمرحلة الثانوية، وعندها كان مقتل والدي في حادث غامض ولكن موته أخبرني بالقصة من بدايتها، وقتها فهمت لماذا ماتت أمي.
لقد كان مقتل أبي الطامة الكبرى حيث مات مسموما، ملدوغا من أفعى كانت بجوار بيتنا، نسيت أن أخبرك أنني من محافظة الغربية، حياتي هي الريف والخضرة والهواء النقي، أصدقائي هم البهائم في حظيرتنا، والتي بلا سبب تبتعد عني وتزمجر حين أقترب، ولا أعرف لماذا وكأنني عفريت ولست بشري يحن عليهم بطعام وشراب.
علاقتي بعلماء وشيوخ بلدتنا شبه خربة فلا أحد يريد أن يعرفني، الجميع يكرهني بلا سبب رغم أنني لا زلت لا أتكلم وهم كانوا يتجاهلونني وكأنني أبكم وأصم، أسمع الجميع يتهامسون بأني ملعون أو يظنون بأنني ملعون لا أعرف لماذا!
ولكن ما أعرفه أني لا أكره أحدا، لأن من يتهامس وأسمع همساته الخبيثة أتمنى موته، وما أن يختفي من أمام ناظري وأنشغل بشيء ما، حتى أسمع أنه فقد واختفى، ربما غرق في إحدى الترع أو مات إثر سم ما.
نظرتي كانت كافية لأن يسكت الجميع، أظن أن الكل يعرف ما تخبئه نظرتي عداي أنا لا أعرف شيئا.
لما يموت كل من حولي؟! في العموم لا أهتم لكل ذلك فمأساتي هي موت أبي، وليست موت البعض من الخبيثين أنصاف البشر المهجنة بحيوانات دميمة، كانت حياتي تبدو طبيعية أو شبه طبيعية، دراستي كانت كالكابوس، الطفل البغيض المنفي في آخر مقعد تحول أخيرا إلى مراهق بالثانوية ولم يتزحزح مكانه عن آخر مقعد ولو لبضع سنتيمترات.
تلك مأساتي مع الفتيان والرجال، أما عن الفتيات فكنت فتى لأحلام الكثيرات، كلهن معجبات، كلهن عاهرات، أسمع همساتهن أرى نظرات الإعجاب ولكن لا تستطيع إحداهن أن تقترب قيد أنملة لبغض عائلتها لي، حتى وجدتها من بينهن تلك الفتاة القصيرة غادة، شعرت بأنها كل شيء لي، عائلتي التي لم أشعر بدفئها يوما وجدتها داخل عينيها، كنا نتبادل النظرات وأخاف الاقتراب، وقررت يوما أن أتجرأ وأفصح عما بداخلي.
تجاوبت معي، شعرت أنني ملكت الكون بقبضة يدي، ولكن لا كمال في الدنيا، لا يوجد حب كامل ولكنني أرجو أن تدعيني أكتبها لك من البداية؛ قديما كان العرب والمصريون يستخدمون الرسائل الملونة، العبقة بأجود أنواع العطور الفرنسية، والمزينة بالرسومات اليونانية ليخطفوا عقول وقلوب من يحبون، بل يكتبون في بداية خطاباتهم كلمات فرنسية لأنها تجذب عقولهن فكما قال أحد الفلاسفة الثرثارين: "اذا أردت مخاطبة النساء فخاطبهن بالفرنسية"
أما الآن فالأمر أسهل بكثير لخطف عقولهن، فما أن تخطب ابنة خالة الفتاة حتى تنهرها أمها عن سبب تأخرها في الزواج، وكأننا في موسم تزاوج الكلاب وعليها أن تخرج ريحها لينجذب باقي القطيع لرائحتها.
أصبحت جميع الفتيات تنتظرن الفارس على حصانه أبيض اللون، أو تقمن باصطياده بإحدى شقلباتهن في أحد الافراح، ويأتين كالمجاذيب معجبين بفتاة مولد السيد البدوي.
أما الأخريات فلا حول لهن ولا قوة، فهن جالسات عفيفات على حواسبهن المحمولة، يستمعن لتلك الأسطوانة اليومية؛ لن تتزوجي أبداً لأنك خائبة الرجاء كالأرض البور.
ولكن تظل العروض المتتالية على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، المسماة بالفيس بوك للتعارف فإما تصيب أو تخيب، وللأسف الكثيرات يقعن فريسة بين براثن الكلاب المفترسة، ومن كلب لكلب تصبح كاللقمة السائغة، تنتظر حملا وديعا يغفر لها ماضيها، وتحاول نسيان ما اقترفت من ذنوب.
ولكنها غادة، تلك الفتاة التي اختطفت قلبي واستوطنت عقلي، حكايتها معي كانت مختلفة، فنحن بالفعل كنا صديقين ولسوء حظها أنني لم أكن أحسن الكلام، لأني كما قلت لم أتكلم منذ كنت في السابعة من عمري، فكان الكلام دائما يقتصر على كلمات تكتب في محادثات إليكترونية، تغازلني فأبتسم وكأنها تداعب طفلا في مهده، ولكنها لم تكن ترى ابتسامتي من خلف الشاشات، وتلك مشكلة الحب الإلكتروني يخفي أكثر ما يظهر.
حتى ردودي عليها لم تكن بنفس قوة كلماتها، كانت تطلب دائما ردودا رومانسية لا أعرفها، فأنا كالفتاة البكر التي لا تعرف شيئا عن أي شيء، كنقطة الندى التي وقعت من فوق شجرة عالية فوق طريقا من الأسفلت، ظللنا كثيرا مع بعضنا البعض ترسل رسائلها لأرد برد بسيط؛ إني أحبك ولكنني غير ماهر بالكلمات ومتى كانت الكلمات دليلا كافيا للحب؟! فرب ماكر زلزل فؤاد فريسته بالكلام، ورب حبيب رفع مليكته فوق السماء بأفعاله.
ربما لم تقتنع فأصبح تنمرها وازدرائها يزداد يوما بعد يوم، حتى سألتها ذات يوم لماذا تغيرتِ وأصبحتِ دائما متأففة من الحديث معي؟ أفعلت شيئا أزعجك؟
-  أجابت: أنا لا أستطيع أن أستمر في هذا العبث، لقد أصبحت أضحوكتهم بسببك، يجب أن تبتعد عني وتتركني وشأني.
-  ابتتها وأنا غاضب: ماذا أحببتِ في إذا؟ فأنا منذ البداية لا أتكلم، وأنت أول تجربة لي، أنا وجدت نفسي معك، الآن ليس لي سواكِ، وتعرفين كل ذلك.
لست مفعما بالأحاسيس مثل باقي الزملاء، لا أستطيع القهقهة والضحك مثلهم، لا أستطيع التراقص، لست مثلهم في أي شيء حتى أنني لست مميزا، أنا مكروه ووجدت ضالتي بكِ، أنا اقتربت حينما فتحتِ الباب لي، فلمَ تغلقينه الآن لمَ تقتلين آخر أمل لي في أن أصير مثلكم طبيعيا ذو قلب يُحِب ويُحَبْ لماذا تفعلين ذلك؟!
أحقا كل ما أردته هو أن تكسريني، ماذا فعلت لكِ؟
كنتِ دائما تنظرين إلي بأعجاب من بينهم جميعا وكأنني فتى أحلامك، شعرت برغبتك في الاقتراب، خفت من ضياعك فاقتربت أنا.
حقا لقد صدق من قال ومن الحب ما قتل، كانت غاضبة فحسب، أخبرتني بأن لا داعي لذلك الهراء، وأنها كانت تريد شخصا طبيعيا يغدقها بحب لا ترى مثيله ولكنني غريب الأطوار.
حتى اقترابها كان مجرد خطة لمعرفة ماهيتي ولكنها فشلت، فلا أنا صالح للمعيشة ولا للحب، ما أنا سوى آلة غبية تأكل وتشرب.
أغلقت حاسبي بغضب متوعدا إياها، ففي النهاية سيفتقدها أهلها كثيرا!
ولكن بعدها عرفت أن الإعجاب أدنى درجات الحب، فالمسكينة كان يعجبها حب الأخريات لي تريد، أن تسبقهم للإيقاع بي في شباكها، ويا ليتها ما فعلت! فلعنة الفضول دائما ما تقتل صاحبها.
نمت باكيا، لأول مرة منذ سنوات تمنيت لو أراهم، أن يأتوني ولو لمرة أخيرة لتنال تلك الكاذبة عقابها، انتظرتهم يوما فالثاني فالثالث ولم يأتِ أحد، حتى ظننت أن ما حدث بالماضي كان مجرد وهم، وأنني كنت أحلم، ولكن إن لم يكن بي شيء، فلماذا أنا ملعون ومكروه؟
لماذا يبتعد عني البشر، حتى الحيوانات تخاف وتهرب مني عدا الذئاب تظل تطاردني؟
حتى تلك الليلة التي قررت فيها أن أقوم بآخر تجربة لعلها تنجح، أغلقت باب غرفتي ثم قطعت شرايين يدي، وناديت بأعلى صوتي: أيتها الثعابين إني أقدم دمي فإنه أقرب من أقرب دم لي، أيتها الثعابين أنا أريد تدمير البقية، أريدهم أمواتا، لا أريد أحدا على هذه الأرض، إن كنتم تستطيعون تنفيذ مطلبي فها أنا أمامكم بدمي، عليكم تنفيذ الاتفاق.
فجأة شعرت بزلزال قوي وأغشي علي، رأيتهم كما تركوني منذ سنين عدة واقفين أمامي، اقترب كبيرهم مني، وأخرج فحيحا: (دمك ليس المطلوب، رغم أنه غالٍ علينا فلا تهدره، نعلم أنك تريد تدميرها، الدم الأقرب إليك هو أبيك فإن أبيت فلا طاعة لك، وإن وافقت فطلباتك مجابة، تذكر لا تهدر دمك فإنه مختلط بدمائنا).
فتحت عيني لأجد تدفق الماء على رأسي، وكما حدث بالماضي من أبي تكرر ووجدته يحتضنني، صراع بين حبي لأبي الذي ضاع لسوء معاملته، وبين انتقامي ممن جعلتني دمية بين يديها فكان الانتقام اختياري، ضحيت بأقرب دم لي، ضحيت بمن يربطني بعالم البشر، ضحيت بدمي.
وجدتني بلا سبب أهمس في أذن أبي فائحا: لن تعيش طويلا، حياتك على المحك يا أبي .
ورغم ثقتي بأنه لن يفهمني، كنت أعلم بأنه شعر بأني أدبر للخلاص منه فنظرتي كانت كافية، وجدته يرتعد ولكنه يظهر عكس ذلك ويحاول الثبات، رغم ثقتي بأنه فهم ما أخبرته به، لم أحتضنه حتى، لم أودعه الوداع الذي يليق به كأب لي، بعد ذلك بساعتين وجدوه قتيلا خارج البيت.
لا أنكر أنني تفاجأت بموته بتلك السرعة، ولن أنكر أيضا أنهم ينفذون عملهم بحرفية كفرقة اغتيالات من المافيا، وكل ضحاياهم يموتون في حوادث تصنف تحت صفة القضاء والقدر.
مرت مراسم الموت للمرة الثانية ولكن تلك المرة لم يكلمني أحد، أخي وعمي من تكفلوا بكل شيء أما عني، فكنت أقف بعيدا أشاهد في صمت ما يحدث وكأني ضيف عليهم، حتى الصلاة لم أستطع أن أصليها عليه ثمة شيء لجمني.
انتظرت المقابل بعدما قمت بتقديم دمي الأقرب فلم أسمع به، كنت أراها يوميا على عهدها، تضحك مع زميلاتها لا تأبه لنظرات كسيرها الذي خدشت قلبه بلا سبب، حتى جاء ذلك اليوم الذي حلمت فيه بأني أمشي بين الخضرة، وخلفي تلك الأفاعي وكأننا مجموعة من الأصدقاء خارجين في نزهة لطيفة، وكل خطوة نخطوها نجد شخصا ما معلقا من قدميه على أحد الأشجار، الكثير من الضحايا أمر عليهم فلا آبه لهم، حتى رأيتها مقيدة باكية منتحبة ولكنها حية لم يمسسها أحد منهم، اقتربت منها، صرخت بي أأنت من فعلت هذا؟ أأنت من قتل عائلتي؟
-  أكملت قائلة: أعلم أني كسرت قلبك، أعلم أني لطخت روحك بالجروح، ولكن ما ذنب عائلتي؟
كنت أعلم أنك ملعون من البداية الكل يعلم هذا ولكن لماذا عائلتي؟ لماذا هم؟ ألم يكن قتلي يكفيك؟
-  همست الأفعى الكبرى في أذني قائلة: إن قتلتها سترحمها، ولكن بلمسة صغيرة من إصبعك تصبح مجذوبة القرية، ستظل معذبة مدى الدهر.
لمستها على جبهتها فصرخت بأعلى صوتها، صحوت من نومي على صوت جلبة بالقرية، علمت أن جميع أفراد عائلتها ماتوا بلعنة ما، أما عنها فمختفية، لم يرها أحد، لقد نلت بدم أبي دم اثنين وسبعون دم مخلوق آخر، تلك معادلة عادلة.
كانت رائحة الموت تطاردني أينما لبثت، أصبحت وحيدا كآخر جرثومة قضى المطهر على 99% من نسلها، ولكنني كنت الجرثومة التي لا تقهر، ربما كنت الفيروس الذي تسبب في قطع نسل عائلته، ولم يتبقَ سوى الأقلية الذين لا يريدون معرفته.
تركت البيت وفضلت البقاء كالمطاردين في مزارع القصب، أتذكر لحظات جمعتني بأمي حين كانت تساعدني في الاستحمام، أتذكر مدحها لي بأني مميز وسيكون لي شأن ذات يوم، أغمضت عيني فداعبت رائحتها أنفي وكأنني عدت من جديد بين يديها.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي