الفصل الخامس

أراقبك يا عزيزتي عن كثب أحاول أن أحميكِ بقدر استطاعتي فمن يقذفك بحجر أقذفه بعشر، من يلقبك بالبلهاء أجعله مجذوبا لتوه.
أصبحت لعنتي تلاحقك، بل أصبحتِ ملعونة في نظر الجميع يتمنون حرقك كساحرات أوروبا في القرون الوسطى، الجميع من حولك يتساقطون حتى ظنوا أنك ملعونة فأصبح الجميع يخافون الاقتراب منك كما حدث معي بالماضي.
عزيزتي غادة سأظل على عهدي، فلا يمسسنك أحد بسوء ما دمت حيا، ولكنني لم أعد أحتمل رؤيتك هكذا، سأودعك بإحدى المصحات، قبل تنفيذ خطتي في الانتقام ممن كان سببا لكل ما حدث.
انتقامي الأول وليس الأخير، فالبشر ليسوا سوى حشرات تكاثرت تكاثر بهيمي ليس له معنى.
أتعلمين يا غادة لا زلت أتذكر تلك الأيام البسيطة التي جمعتنا سويا، نظراتك المشجعة لي، ابتساماتك القاتلة التي تحثني على الاقتراب من قلبك، احمرار وجنتيك الخمرية حين أسبح تائهاً في زرقة عينيك، خصلات شعرك الكستنائية التي لطالما كانت تنير مع ضوء الشمس لتعكس ضوءا يسبقها.
أتذكر همسات الكثيرين المحذرة إياكِ بعدم الاقتراب من الفتى المذموم المنبوذ، المسخ الدميم، أما الآن فقد اطمأننت عليك بشكل مؤقت فالانتقام أصبح وشيكا، انتقام بلا رحمة قتل بلا هوادة.
دم لا تشربه الأرض تبغضه كبغضكم لحم الخنزير، فإن كانت محرمة عليكم لحوم الكلاب النجسة، فدمائكم محرم على الأرض امتصاصها.
.........
























(في مصحة الأمل للصحة النفسية بالغربية)

قد تعتبرون تلك سيرة ذاتية لي ولكنني لا أحبذ تلك التسمية، فالسيرة الذاتية يستطيع كتابتها أي شخص، ولكنني أكبر من ذلك فأنا الأوحد على وجه الأرض لا مثيل لي، إذا فلتعتبروها تراث من النور لتتعلموا منها أو قبس من شهاب ولتحرقكم أجمعين.
كنت قد مكثت بالمصحة لأكثر من خمس سنوات، أقرأ أفكار المرضى المشتتة، حاولت استخلاص سبب ولوجهم لها، فالمهدئات المعالجة لا تساعدهم البتة لذلك يلجأ الأطباء لجلسات الكهرباء، التي تنهك المرضى أكثر مما يجب.
كنت أحاول العطف عليهم، ربما لأنني لا زلت أحمل الدم البشري، أو ربما لأنهم لم يؤذوني بشيء تلك الفترة وكأنهم حملان طيبة.
ذات يوم دخل طبيب لم أعهده يوما بتلك المصحة، يدعى مصطفى سلامة، واقترح على مديرها طريقة علاج يستخدمها الغرب ونتيجتها فعالة، هي عبارة عن حلقة مكونة من شخصين إلى ثلاث أشخاص من المصابين بالاكتئاب فقط، أو بالمعنى الأدق بأصحاب العلة الخفيفة، ويكون الطبيب حاضرا معهم ليقص كلا منهم سبب علته أمام أصحاب الأمراض الثقيلة، كمرضى البرانويا والفصام الحاد، وهكذا يتشجع الجميع، أو ربما يلفت انتباههم بأنهم ليسوا الوحيدين المنكوبين على هذه الأرض.
اختار مدير المصحة المرضى، وبالصدفة المحضة كنت أنا وغادة من المختارين للتجربة، وبدأت الحلقة باليوم الثالث من الاقتراح.
عقدت الحلقة وكأنها حلقة الرعب التي كتبها العراب (أحمد خالد توفيق) منذ سنوات عدة، الغريب أنه بعدما كانت ستقام التجربة لشخصين فقط وهما حسب ما عرفت أنا وغادة، إلا أننا كنا ما يقرب على العشرة أشخاص من بيننا ثلاث فتيات، وكانت غادة أيضا بيننا، كانت تكمن في الركن البعيد من الغرفة تجلس القرفصاء لا تعي شيئا، منطوية على نفسها ربما تسمع وربما لا ولكنها كانت مشتركة معنا باختيار الطبيب ظنا منه أنها ستتجاوب معه.
ارتدى الطبيب نظارته الطبية التي تعطيه وقارا لا يستحقه، وتعمد ألا يرتدي معطفه الطبي كي يشعرنا بأنه ليس طبيبا، وإنما شخص مثلنا يساعدنا ونساعده ثم دخل غرفة الاجتماع بالمرضي محييا إيانا، قدم اعتذارا عن التأخير الذي حدث، كان اليوم حافلا والغرفة مكتملة الأركان، نظر الطبيب إلينا واحدا واحدا ولاحت على شفتيه ابتسامة ماكرة بلا مغزى بالنسبة إلي، ثم تكلم قائلا: أرى أن عددكم تكاثر من شاب وفتاة إلى أكثر من عشرة أشخاص، ربما مدير المستشفى أحب أن يفاجئني.
نظر إلى ركن بعيد من الغرفة حيث الستارة المغلقة، في الركن الأيسر منها، وكأنه يتأكد من شيء ما، ثم وجه نظره إلينا وما زالت الابتسامة تعتلي شفتيه، تفحص وجوهنا جميعا، فقد كان هناك ثلاثة فتيات من بينهم غادة كما سبق وأخبرتك، وستة رجال كنت أيضا من بينهم، كان يبدو أنهم في حالة اجتماعية متقاربة، ولكن الوجوه شاحبة وكأنها دمى وليسوا من عالم البشر، تلافى الطبيب التركيز في الوجوه اكثر مما يجب، ثم طلب منا التعريف عن أنفسنا قبل الخوض في أية مناقشة معنا.
أشار الطبيب إلى أحدنا بأن يعرف نفسه أولا، ثم يحاول إخراج ما بداخله، فنظر إلى الطبيب متسمرا كأنه مصدوم باختياره كأول شخص.
-  قال الطبيب مبتسما: لا تقلق نحن هنا جميعا لنساعد بعضنا البعض، ولتعلم أن كل ما يقال في هذه الغرفة لن يعرفه أحد سوانا، أما عن المرض فكلنا عرضة للمرض النفسي، الحياة بالعموم مهيئة للمرض، ولكننا هنا سنثبت أننا قادرون على تخطي كل ذلك، هنا سنخرج جميعا أقوى لكل منا قدرته الخاصة في تخطي آلامه.






















(حكاية جاسر)

الجميع انبسطت أساريرهم ينظرون إلى بعضهم البعض، إلا فتاة كانت تجلس وحيدة ناظرة في الفراغ، لقد كانت غادة..
نظر إليها الطبيب محاولا أن يدمجها معنا ولكنها لم تلاحظ نظراته، فأشار للشاب الذي بجانبها أن يتكلم، ابتسم الشاب قليلا ثم نظر للجميع وهم في حالة ترقب له، وأخيرا تكلم الشاب قائلا: أنا جاسر، أبلغ من العمر ستة وثلاثين عاما طيلة، حياتي لم أسمع عن كلمة تسمى السعادة أو النعيم كما يقولون، ولدت لأب وأم لم أرهما قط، بشكل أوضح أنا ابن الملجأ أو كما يطلقون علينا ابن الفراش، ابن ليلة ابن غلطة، فالمعاني السوداء كثيرة.
فتحت عيني لأول مرة لأجدني وسط مجموعة هائلة من الأطفال، كلنا في أعمار متقاربة نلهو ونلعب ولدينا حاكم في هذه الدنيا، التي تقع داخل أسوار عالية ذات أسلاك شائكة، إذا تماست إحداهما بالأخرى تحدث شررا تمنعنا من الخروج إلى العالم الحقيقي، كانت أحلامي تتشكل في الوجود خارج ذلك السجن، الذي يحكمه الرجل البدين ذو الشارب العريض.
كنا نصطف في طوابير يوميا، ليلقي علينا خطابات تتلخص في بضع كلمات يحفظها عن ظهر قلب: أنتم لستم سوى فتات البشر، أتيتم بالخطأ، أنتم عار على هذه الحياة.
حين تجرأت يوما وسألته عما يحدث بالخارج، ألقاني بوابل من السباب ثم .....
أغمض جاسر عيناه فانهمرت منها الدموع بغزارة، والجميع مذهولين مما يسمعون عداي أنا!
حاول الطبيب الابتسام في وجهه، ثم قال: لا عليك يا جاسر، لا تقسو على نفسك، خذ قسطا من الراحة ولتسمع باقي أخوتك هنا.
فكما قلت لك كلنا في هذه الدنيا نرى الكثير والكثير، لا أحد منا أفضل من الآخر، ليس المهم كيف أتيت إلى هذا العالم، ولكن المهم ماذا تفعل ليراك العالم.
إذا كنت جئت في هذا العالم بالخطأ كما أخبرك مدير دار الأطفال، فلتعمل جاهدا على إثبات عكس ذلك، أحيانا نتائج الخطأ تكون في صالح المجتمع.
أتعلم كان هناك امرأة ولدت أكثر من ابن مصاب بمتلازمة داون، وعندما حملت مجددا أرادت أن تقتل جنينها، ولكنها لم تمتلك الجرأة لذلك، وبالفعل ولدته، لو كانت قتلته كما أرادت، كانت ستندم حتما لأن ذلك الجنين كان بيتهوفن.
أوتعرف عليك أن تحمد الله أنك بعد مرورك بكل هذا، لم تفقد رغبتك في الحياة وفي الخروج من غرفتك وممارسة حياتك العادية، التعب الذي يجعلك تتجنب المناقشات الطويلة والعتاب الذي يستمر لـساعات، التعب حتى من الرد على الكلمات اللطيفة ولو بـرمز تعبيري، التعب من المناقشات والمجادلات والاستماع لوجهات النظر المختلفة، التعب من تبرير مواقفك وأفعالك ولا تملك كلمات مناسبة لوصف ما يحدث بداخلك، تتجنب الجميع بلا سبب واضح بالنسبة لهم لكنك تعرف أنك متعب من الناس وممن حولك، لا تقصد العزلة، لا تقصد أبدا أن تقول لهم أنك لم تعد ترغب في بقائهم معك، لا تقصد أبدا أن تقول لهم أنك لم تعد تحبهم، أو تغيرت مكانتهم في قلبك، أنت لا تعاني من الحزن أو الاكتئاب، لا تشعر بالفقد أو الحنين لأشخاص لم يعد لهم وجود في حياتك، أنت لا تعاني من الوحدة أو شعور الغربة، أنت متعب فقط، تشعر بالتعب من أفكارك التي لا تهدأ، من قلبك الذي يتألم، من الناس والعالم... ومن نفسك .
ابتسم جاسر متحفزا من كلمات الطبيب مصطفى.
هز الطبيب رأسه مطمئنا إياه، فأكمل جاسر كلامه بعدما تجرع رشفة من الأمل؛ كانت الأيام تمضي مثل بعضها، لا يوجد عمال لنظافة الدار فقد كنا عمالا للدار، أيضا الخدمة كانت ذاتية، نحن ننظف والأكبر قليلا هم من يعدون الطعام، لن أحدثكم عن الطعام الذي كنا نأكله، فقد كان يبيت بالثلاث أيام ونأكله حامضا مجبرين عليه.
ذات يوم حاول أحد نزلاء الدار الأكبر سنا التحرش بأصغرنا سنا، ولكن أحدا لم يتصدَ له حتى المدير لم يشغل به بالا، صرخات الطفل كانت تقتلني، فكسرت زجاجة مشروب غازي كانت لأحد الموظفين وقتلت بها المتحرش.
وهنا بدأت التدخلات، أن يغتصب أحدهم شيء طبيعي، أن يسلب شرفنا بالداخل لن يهمهم، كل ما يهمهم ألا يقتل أحد تحت مسئوليتهم، خصوصا وأنهم سيسألون عن الأعداد، أما عن الشرف والأعراض فلا شرف لنا، فنحن كما قال أبناء العاهرات
قتلته ولم أندم قط، حتى حين ظل يضرب في ويعذبني، لم أشعر سوى بلذة الانتصار لأنني شعرت بأنني أفضلهم.
ربطني في رجل أحد المضاجع بحبل سميك كمشنقة عشماوي، معتزما أن يبلغ عني في اليوم الذي يليه، ذهب وأوصد الغرفة علي وحدي، أظن أنه قصد أن يربطني بذلك الحبل كي يخبرني بأني سأشنق، ولكن شاء القدر أن يفتح باب الغرفة، لأجد أن الطفل الذي أنقذته يحاول إخراجي من محبسي.
وجدته يمسك زجاجة مكسورة ويحاول قطع الحبل، أعاد محاولته مرارا وتكرارا حتى نجح في قطعه، ابتسم لي ثم احتضنني وهمس في أذني قائلا: إذا استطعت أن تخرجني وإياك من هنا فافعلها.
فكرت لدقائق فلم أجد أية فرصة للخلاص، السور وأسلاكه الشائكة المتصلة بالكهرباء، الحراس والمشرفين.. ولكن الموت لأهون مما أنا فيه.
أخبرته بأمر السور كي لا يفكر أن يهرب عن طريقه ويموت، لقد كان صغيرا أكثر مما ينبغي !
-  فكر قليلا ثم ابتسم وهمس قائلا: لم يعد السور خطرا، أنت تقول أنه يحدث شررا إذا لامس بعضه البعض، ولكنه لم يعد كذلك.. منذ يومين السماء امطرت ولامسته الماء، ولم يحدث أي شرر لقد تمنيت أن ينقطع من الماء ولكنني كنت أبله.
-  سألته: أكنت تفكر في الهروب من قبل؟
-  أخبرني بأن اسمه يامن، ولكنه ليس صغيرا كما أعتقد، هو فقط مصاب بمرض التقزم لذلك يعتقدون بأنه صغير، هو في السابعة عشرة من عمره رغم ذلك يظنه الكثيرون أنه لم يتعدَ العاشرة، ولطالما حاول أن يثبت عكس ذلك ولكنهم لا يصدقونه.
علميا إن أثبت ذلك فسيخرج بعد سنة، ولكن من يهمه أمر فتى في الملجأ؟!
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي