٦ دروسٌ للنسل الصحيّ

«هاي "چير"؟ أين ذهبتَ؟ "چيرمايا" هل تسمعني؟ أيها الغبي!»

ارتفع صوت "إيزابيل" قليلًا مع كلمتها الأخيرة تهتف به من بين أسنانها؛ لأنّها لمْ تستطع الصراخ به بسبب تواجدهما في مكتبةٍ وحولهما الكثير من الطلبة يقرأون ويدرسون ويحتاجون الهدوء.

هزّت كتفيه بيديها بقوةٍ حتى فتح "چيرمايا" عينيه واستيقظ بالفعل يرمش طويلًا متسائلًا بصدمةٍ:

«مـ- ماذا؟ أين أنا؟»

«أنت في المكتبة أيها الكسلان، لقد سقطت نائمًا على كتفي بينما أشرح لك. هل أُسبِّب الضجر لجلالتك؟»

«أوه، ماذا عن الـ-القُبلة؟»

همس بالأخيرة مقوِّسًا شفتيه باستياءٍ، فنظرتْ له الأخرى بغرابةٍ تسأله:

«ماذا قلت؟ لمْ أسمعك.»

«لا عليكِ، لمْ أقُل شيئًا. هل انتهينا هنا اليوم؟»

«هذا يتوقّف عليك، هل كان شرحي جيدًا واستفدتَ منه؟»

هزّ رأسه يومئ لها، كان يشعر بحزنٍ غريبٍ داخله وبعض الاستياء، ولكنّه تنهّد ينهض عن مقعده حاكًا مؤخرة رقبته يجيبها:

«أجل، شرحكِ كان أكثر من الجيد. شكرًا لكِ "إيزابيل".. شكرًا جزيلًا على هذه المساعدة.»

«أوه، لا بأس "چيرمايا"، المهم أن تؤدي جيدًا في الاختبار.»

أومأ لها يحاول رسم ابتسامةٍ خفيفةٍ، فاضطرب قلبها لعدم فهمها ما يجري، ثم تحمحمتْ مع رحيله تجمع أشياءها في حقيبتها وترحل هي الأخرى.

وكانت هذه المقابلة هي الأخيرة لهما قبل مرور أسبوعٍ آخر اختفى فيه "چيرمايا" مجددًا دون أن يراه أحدٌ، ودون أن يُزعجها كالعادة، حتى شعرتْ أنّ هناك خطبٌ به. خاصةً أنّه لمْ يسبق له وأن فوَّت اجتماع عائلتيهما بنهاية الأسبوع مهما كانت الظروف.

ولكن بعد مرور هذا الأسبوع وبِدء أسبوعٍ دراسيّ جديدٍ، كانت "إيزابيل" تسير في ردهة المدرسة بين الطلبة والخزائن، حتى لمحتْ "چيرمايا" يقف أمام خزانته ويعبث بها.

اضطرب قلبها لرؤيته بعد هذه الأيام، ولكنّها تجاهلتْ هذه المشاعر واشتياقها الغريب له وسارت في الاتجاه المعاكس.

إلّا أنّها زفرتْ بيأسٍ وعادت تسير تجاهه مجددًا لاعنةً تلك الرغبة الشديدة في رؤيته وجهًا لوجهٍ والاطمئنان عليه، فوقفت أمامه تحيّيه بهدوءٍ حاولتْ رسمه على ملامحها جاهدةّ:

«مرحبًا "چير".»

«أوه، أهلًا "چيلي بيلي".»

«يبدو أنّ مزاجك جيدًا اليوم.»

«وهذا بفضلكِ.»

«ما الذي تعنيه؟»

«لقد.. لقد حصلتُ على علامة ممتاز في اختبار التاريخ، وهذا لأنّ معلّمتي كانت بارعةً.»

اتسعت ابتسامتها، ودون شعورٍ منها وبسبب حماسه، رمتْ جسدها في عناقه بشكلٍ فاجأه كثيرًا، ولكنّه وجد ذراعيه تلتفان حول جسدها يبادلها العناق بحرارةٍ متنفِّسًا بارتياحٍ شديدٍ وكأنه كان يحتاج لهذا العناق منذ سنوات.

طال عناقهما، كليهما يستمتعان بدفئه وما يمنحهما هذا العناق من مشاعر لذيذةٍ. حتى انتبهتْ "إيزابيل" لهذا القُرب لتفصل العناق مبتعدةً عنه سريعًا تنظر له بحرجٍ شديدٍ.

لكنّه كان مستمتعًا لرؤية احمرار وجهها ونظراتها الخجِلة، ثم ابتسم لها فتحمحمت تغيّر الموضوع متسائلةً:

«ما رأيك أن نتناول شيئًا معًا بعد الدوام المدرسيّ احتفالًا بهذه المناسبة؟ أنا مَن سأدفع.»

«بالطبع، فلنلتقي أمام بوابة المدرسة بعد الدوام، سأهاتفكِ.»

أومأت له تزامنًا مع رنين الجرس لبدء الصفّ التالي، فلوّحت له راحلةً، بينما أغمض عينيه يسنُد جبينه على خزانته هامسًا لنفسه:

«هذا ليس موعدًا أيّها الغبي، تذكّر الرهان.. يجب أن تفوز أنت به.»

***

تقابلا بعد انتهاء الدوام المدرسيّ، وأخذها "چيرمايا" على دراجته النارية وسط أنظار الطَلبة المصدومين من هذا السلام المفاجئ بينهما.

كانت هذه المرة الأولى لها التي تستقلّ فيها دراجته النارية، ولكنّها كانت مستمتعةً كثيرًا بالركوب عليها والهواء يُطيّر شعرها ونسيمه اللطيف يصطدم بوجهها.

توقّف "چيرمايا" بدراجته على تلّ عالٍ قليلًا، فنزلتْ "إيزابيل" تحمل كيس شطائر البرجر والمشروبات التي اشترياها قبل مجيئهما، ولكنّ عيناها اصطدمتا بالمظهر الخلّاب الذي رأتْه.

كانت هذه التلّة تقع على جزءٍ كبيرٍ من المدينة، تستطيع رؤية المباني والأضواء الخلّابة من الأعلى، فاستمرّتْ في تأمُّل هذا المنظر الجميل، واستمرّ "چيرمايا" في تأمُّلها هي، حتى همستْ بسعادةٍ:

«جميلٌ جدًا.»

«أجل، جميلةٌ جدًا.»

«ماذا؟»

التفتت تسأله بعدم فهمٍ بعدما أجابها قاصدًا وجهها هي بالجميل، ولكنّه خرج من شروده ينهض عن دراجته مقتربًا منها، جلس أرضًا يرفع ركبتيه قليلًا، وربّت على مكانٍ إلى جواره يدعوها للجلوس، فابتسمتْ وجلستْ إلى جواره تعطيه طعامه ليبدآ في الأكل ويدردشان:

إيزابيل بسعادةٍ: «لمْ يسبق لي أن كنتُ بهذا المكان الجميل من قبل.»

چيرمايا: «أعلم هذا، إنّها بقعتي المُفضّلة، آتي إلى هنا كثيرًا عندما أرغب في البقاء بمفردي والراحة قليلًا. لقد قضيتُ بضع ليالٍ سابقًا نائمًا هنا في العراء.»

إيزابيل بتفاجؤٍ: «أنت مغامرٌ جدًا. تستمر في مفاجأتي "چيرمايا فيشر".»

قضم من شطيرته يبتسم لها مجيبًا: «إنّه أفضل مكانٍ لرؤية غروب الشمس.»

«أعتقد أنّني أحبّ شروق الشمس أكثر.»

«لمَ هذا؟»

«أحب بدايات الأيام. أشعر أنّني عندما أراقب شروق الشمس وكأنّني أراقب بداية سطرٍ جديدٍ في حياتي. أشعر أنّني بهذا أحمل بقيّة اليوم بأكمله بين راحة يدي ويمكنني التصرُّف فيه واستخدامه كيفما أشاء.»

أبعدتْ عينيها عنه حينما بدأتْ تلمح بعض النظرات الغريبة في عينيه مكملةً:

«أنا أيضًا أحبّ نسمة الهواء اللطيفة عند الشروق وصوت زقزقة العصافير. شروق الشمس يمنحني دفئًا جميلًا ببطءٍ.»

أومأ ناظرًا لملامحها الجميلة من الجانب قائلًا:

«أعتقد أنّني يجب أن أمنح شروق الشمس اهتمامًا أكبر. الشروق مرتبطٌ عندي ببداية يومٍ دراسيّ جديدٍ، وهذا يمنحني قشعريرةً سيئةً نوعًا ما.»

التفتت له تقهقه عاليًا، فلمعت ضحكتها في عينيه ليشعر بقلبه يتجاوز بضع خفقات تأثُّرًا بها، ولكنّه دفع تلك المشاعر جانبًا وأكمل ثرثرته معها بأمورٍ عدّة.

****

مع بداية شروق اليوم التالي:

نهضتْ "إيزابيل" من نومها على أرض التلّة العشبيّة تتأوّه بسبب هذا النوم غير المريح، ولكنّها ما لبثتْ أن اتسعت عيناها بصدمةٍ مدركةً أنّهما قد قضيا ليلتهما هنا.

فنظرتْ جوارها لتجد "چيرمايا" متمددًا ورأسه على فخذيها، حينها صرختْ تفزعه:

«يا إلهي، انهض أيها الأحمق.»

«ماذا؟ أين؟ أين الحريق؟»

«حريق؟ يا إلهي، هل تهذي؟ لقد سقطنا نائمين هنا بالأمس، لدينا مدرسة بعد ساعةٍ.»

صرختْ به بملامح مهتاجةٍ، فرمش يحاول استيعاب ما تقوله لتتسع عيناه بقلقٍ ناهضًا عن الأرض يضرب جبينه بكفّه قائلًا:

«نحن ميّتان، والديّ سيتقلانني. لقد حذّرني والدي من النوم خارج المنزل مجددًا دون علمه وإلّا سيأخذ مني دراجتي الناريّة.»

نظرت له بجمودٍ لثوانٍ، قبل أن تطلق عيناها الخناجر نحوه صارخةً به مجددًا حتى كادت تصمّ أذنيه:

«والديك سيتقلانِك؟ احزر ماذا عزيزي؟ والديّ هما مَن سيقتلانِك.»

«تبًا..»

هتف "چيرمايا" مدركًا أخيرًا خطورة الموقف؛ فبالنسبة لوالديّ "إيزابيل"، كونها كانت معه، فهو المسؤول عن كلّ شيءٍ.

لذلك عادا معًا للمنزل على دراجته، وطرقتْ "إيزابيل" باب منزلها بارتعابٍ، ولمْ تمضِ دقيقةٌ حتى فتحتْ لها والدتها، وجهها شاحبٌ وكأنّها لمْ تنَم ليلها وهناك سوادٌ يغطّي أسفل عينيها، ولكن رغم قلقها، صرختْ في ابنتها بغضبٍ أرعبها:

«أين كنتِ أيتها الآنسة الصغيرة؟ يا إلهي "بيلي"، لمْ ننَم طوال الليل، لقد خرجنا جميعًا للبحث عنكِ، لقد كنتُ على وشك إبلاغ الشرطة والوزير، لقد كـ..»

«أمي، اهدئي رجاءً، أنا.. أعني، أنا آسفة، لقد كنتُ جالسةً في أحد الحدائق وقد غلبني النوم وقضيتُ ليلتي هناك.»

حاولتْ الدفاع عن نفسها رغم الرعب في عينيها من والدتها التي تخافها أكثر من والدها، وكونها ما زالت قاصرًا لمْ تبلغ الثامنة عشرة بعد، فسينتظرها عقابٌ شديدٌ، وهذا ما حدث بصراخ والدتها فيها بغضبٍ أكبر:

«وهل تتوقّعين أن أصدّق شيئًا كهذا؟ أين كنتِ أيتها الـ..»

«سـ-سيدة "كونكلين"، أنا آسفٌ حقًا، لقد كانت "إيزابيل" معي طوال الليل، ذهبنا لحديقةٍ للحديث وتناول الطعام بعد الدوام المدرسيّ، ولكننا غفونا هناك رغمًا عنّا. أقسم.. لقد كانت بأمانٍ، لمْ أكن لأسمح بحدوث أي سوءٍ لها.»

تدخّل "چيرمايا" فجأةً يظهر من خلف "إيزابيل" عند الباب بعدما كان يصفّ دراجته وتأخّر، ولكنّه أسرع يدافع عنها أمام والدتها.

والتي ابتسمتْ له فجأةً وكأنّها لمْ تكن كبركانٍ على وشك الانفجار للتو، ثم أفسحتْ لهما المجال للدخول قائلةً بابتسامةٍ:

«أوه عزيزي "چير"، شكرًا لأنك اعتنيت بصغيرتي. تفضّلا هيا. لا بأس يا أطفال، استمتعا معًا.»

«أمي!»

نادتها "إيزابيل" بصدمةٍ بينما حاول "چيرمايا" كتم ضحكاته، ولكنّ والدتها أجابتْ:

«ماذا؟ هيا اصعدي، بقيت عشرون دقيقةً فقط على بدء دوامكِ. وأنت سيد "فيشر"، والدتك في انتظارك في المنزل لمحاسبتك، لا تعتقد أنّك ستفلت من عقابها لأنّك كنت مع "بيلي". سنتحدّث جميعًا في هذا بعد المدرسة.»

نظرا لبعضهما بقلة حيلةٍ، وذهب كلٌ منهما للتجهُّز للمدرسة.

بينما ذهبت والدة "إيزابيل" لغرفتها تلتقط هاتفها، ثمّ اتصلت بوالدة "چيرمايا"، وما إن أجابتْ الأخرى حتى هتفت بحماسٍ:

«هاي "سوزان"، جهّزي أموالكِ لأنكِ ستشترين لي جهاز تحضير قهوةٍ جديدٍ.»

«ماذا؟ ماذا تعنين بيتش.»

«لقد قضى طفلانا ليلتهما سويًا، ربحتُ الرهان أيتها الحمقاء، وسنرى أحفادنا قريبًا.»

«ماذا؟ ما الذي حدث؟ أخبريني بالتفاصيل بيتش.»

هتفت والدة "چيرمايا" بحماسٍ أكبر وزوجها ينظر لها بصدمةٍ بسبب حديثها البذئ في الهاتف. ثم بدأت تستمع لحديث صديقتها المُقرَّبة عن ابنتها التي ستصبح حبيبة ابنها وسيتزوّجان قريبًا كما تتمنّيان.

في حين انتهاء الدوام المدرسيّ، كان اليوم كارثيًا على "چيرمايا" و"إيزابيل" بسبب قلقهما من الحديث الذي ينتظرهما مع والدتيهما، يقلقان كثيرًا من هاتين المرأتين على عكس المتوقّع من خوفهما من الوالدين.

لذلك وقفا أمام منزل "إيزابيل" معًا بعد المدرسة، حيث ينتظرهما الجميع لمحاسبتهما في الداخل، لتقول "إيزابيل" بتوترٍ:

«لستُ مستعدةً لهذه المحاضرة عن الأخلاق والسلوك أبدًا.»

«لا أعرف لمَ تريدني أمي أن أقابلها في منزلكِ، هل ستصرخان علينا سويًا؟»

«أعتقد أننا سنعرف هذا عند دخولنا.»

أجابته "إيزابيل" بيأسٍ، فرمش ينفث آخر نَفسٍ من دخّان سيجارته السابعة منذ بداية اليوم، ثمّ أطفأها بحافة سلة المهملات أمام المنزل وألقاها به.

أخذا نَفَسًا طويلًا كالمُقبلَين على حربٍ، وتقدّما سويًا بنفس الخطوات إلى منزلها، حيث كان الباب مفتوحًا، فدخلا بخطواتٍ ثقيلةٍ، ليجدا والدتيهما واقفتين معًا في منتصف صالة المنزل أمام سبورةٍ موضوعةٍ على حاملٍ.

وتحدثت "لوريل" والدة "إيزابيل" بابتسامةٍ خفيفةٍ تشير لهما بالجلوس على كرسيين أمام السبورة:

«تفضّلا بالجلوس يا أطفال.»

نظرا للوالدتين بارتباكٍ، الحيرة تلمع على ملامحهما، لتتسع ابتسامة "سوزان" والدة "چيرمايا" قائلةً لهما بينما تشير للسبورة بحماسٍ:

«أهلًا بكما في أول صفٍ من دروس آل كونكلين وفيشر للجنس الصحيّ.»
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي