٢٣ أريدُك ولا أريد غيرك

شريكها في مشروع التخرُّج بمادة الأدب بعد ذلك الموقف الغريب الذي حدث بينهما وأدّى لجعلها بعيدين طوال ذلك الوقت؟ هذا بالتأكيد ما كانت تحتاج إليه لتنفّذ ما أخبرتْ به "تايلور" وأقنعتْ به نفسها عن أنّها ستحاول العودة للحديث معه بدلًا من هذا التجاهل على الأقل.

ولكنّها "إيزابيل كونكلين"، ولأنّها كذلك، تصرَّفتْ بكلّ غباءٍ تلتفت له عندما تركهم المُعلّم يتناقشون حول المشروع، تسأله بخفوتٍ وبعض التوتر يحتلّ عينيها:

«هل.. هل أنت.. أعني، متى سنلتقي لنقوم بهذا المشروع؟»

«ما رأيكِ في الغد مساءً، في منزلي؟»

أجابها بهدوءٍ، ملامحه باردةٌ كتلك التي اعتادت رؤيتها في أيام تبدُّل صداقتهما لعداوةٍ كما تظنّ، ولكنّها سرعان ما تذكَّرتْ ما هو أهم لتجيب بارتباكٍ:

«أوه، ولكن.. غدًا هو عيد العُشّاق. هل.. هل تمتلك خططًا في هذه المناسبة؟ إن.. إن كنت كذلك، فلا بأس من التأجيل.»

«أوه، لـ-لا، لا أمتلك أي خططٍ، هل تمتلكين أنتِ؟»

سألها بعدما غلبه فضوله وغزتْ بعض المشاعر الآدمية ملامحه، فهزّتْ رأسها نفيًا تجيبه بصدقٍ:

«لا، لا أمتلك أي خططٍ أيضًا. لذلك، أعتقد أن الغد مساءً في منزلك لبدء المشروع سيكون مناسبًا.»

هزّ رأسه له يومئ بصمتٍ، حتى لمحتْ بعض المشاعر القويّة في عينيه قبل أن يلتفت بوجهه للأمام بنفس جموده السابق، فتنهّدتْ بيأسٍ تشعر بالحزن يغزو قلبها مجددًا، ولكنّها ركّزتْ نظرها على المُعلّم الذي عاد للشرح مجددًا.

حتى انتهى الدوام الدراسيّ ثقيلًا على قلبها وهي جالسةٌ إلى جواره لا تستطيع الحديث معه، فذهبت لمركز التسوّق برفقة "تايلور" لشراء بعض الملابس المناسبة لعيد العُشّاق. وخرجتْ "تايلور" من غرفة تبديل الملابس ترتدي منامةً حمراء تصرخ بالأنوثة والإثارة لتسألها:

«ما رأيكِ بهذا؟ هل ستجعل هذه المنامة "مايسون" يفقد سيطرته وتعوّضه عن شجارنا السابق؟»

«أجل، هذا مؤكّدٌ. والمؤكّد أكثر أنّكما قد تحصلان على طفلٍ قريبًا. آخ، "تايلور" هيّا! إنّه سابع متجر ثياب داخليةٍ ندخله لكي تجرّبي مئات القطع.»

تذمّرتْ "إيزابيل" والضيق يأكلها كونها الوحيدة العزباء الآن ومَن حولها جميعًا يتجهّزون لعيد العُشّاق غدًا. فقلبتْ "تايلور" عينيها تعود لغرفة القياس:

«حسنًا، حسنًا. يا إلهي، هل العزوبية تجعلكِ تفقدين صبركِ سريعًا هكذا؟ إنّها تعجبني، سآخذها. اذهبي أنتِ لشراء ما تريدينه، هذا إن كنتِ تريدين شيئًا من هذا القسم ذاتًا.»

زفرتْ "إيزابيل" بقوةٍ وقرّرتْ إنفاق بعض الأموال على الملابس الداخلية، لذلك التقطتْ سروالًا داخليًا عشوائيًا ودخلت لقياسه، فدخلتْ "تايلور" خلفها بعد دقائق تنظر لها بضجرٍ لثوانٍ قبل أن تهتف:

«مَن أنتِ؟ جدتي؟ هل أنتِ عجوزٌ مملة في السبعين من عمرها؟ ما هذا السروال الداخليّ الممل يا فتاة؟ ثم أسود؟ إنّه عيد العشّاق بحق الله.»

«ماذا؟ إنّه مريحٌ. يكفي أنّه كذلك.»

تذمّرتْ الأخرى تضرب قدمها في الأرض، فرمقتْها "تايلور" بحدةٍ هاتفةً بها:

«توقّفي عن الشعور بالأسى حول نفسكِ بـو. أنتِ مثيرة، بل أنتِ أجمل فتاةٍ في المدرسة، ولكنكِ تستمرين بالتخفّي حول هذه الثياب المملة، ومؤخرًا بسبب ما حدث.. أصبح ذوقكِ في الثياب أسوأ. تحتاجين لعيش مراهقتكِ، عزيزتي. لن تتكرّر هذه السنوات، المرح يأتي لمرةٍ واحدةٍ فقط.»

عضّت "إيزابيل" وجنتها من الداخل وكلّ كلمةٍ نطقتْ بها صديقتها تنخر رأسها وتصفعها لتعيدها للواقع من قوقعة الحزن والملل التي دفنتْ نفسها بها مؤخرًا بسبب ما حدث بينها وبين "چيرمايا"، لذلك هزّت رأسها بقوةٍ تومئ لها، وكانت على وشك الحديث، ولكن قاطعها رنين هاتف "تايلور" التي أخرجتْه من حقيبتها المدرسية قائلةً:

«حسنًا، عزيزتي. إنّه والدي. سأجيبه وأعود لكِ سريعًا.»

ثمّ توجّهتْ للخارج تجيب الهاتف:

«مرحبًا أبي، هل هناك خطبٌ ما؟»

هزّت "إيزابيل" رأسها بقلة حيلةٍ متمتمةً:

«أجل، أنا عزباءٌ جدًا حتى في عيد العُشاق.»

كانت "إيزابيل" عزباء، وكان "چيرمايا" أيضًا أعزب رغم أنّه يمكنه الحصول على موعدٍ وليلةٍ جيدةٍ مع أيّ فتاةٍ في المدرسة، أو حتى فتيات الجامعات الأكبر منه. ولكنّه قضى صباح يوم عيد العُشّاق جالسًا خلف طاولة المطبخ يأكل شطيرةً بزبدة الفستق، بينما والدته تجهّز الكثير من الطعام له في الثلاجة مثرثرةً فوق رأسه:

«حسنًا طفلي.. لقد وضعتُ لك الكثير من الطعام الذي يمكن أن يكفيك لأسبوعٍ في الثلاجة، وقد ضاعفتُ الكمّية في حال قرّر أحدٌ زيارتك أثناء غيابنا وتناول الطعام معك. وأنا أعني "مايسون" أو "بيلي" فقط. سأسافر الآن أنا ووالدك لهاواي لمدة أربعة أيامٍ، وسيلتقي بنا "كونراد" وحبيبته هناك لقضاء عيد العُشّاق أيضًا. آخ، هل ستكون بخيرٍ بمفردك طفلي؟»

التفتت له ترمقه بتأثُّرٍ وكأنّها سترحل للأبد، فقضم "چيرمايا" من شطيرته ينظر لها بضجرٍ:

«أمي، أنا في الثامنة عشرة من عمري الآن. بالطبع سأكون بخيرٍ.»

نظرتْ له مطوَّلًا، كان لديها المزيد ولكنّها تردَّدتْ كثيرًا، حتى تنهدتْ تسأله بشجاعةٍ:

«إذًا، أليس لديك شخصٌ لتقضي معه عيد العُشّاق؟ أعني.. ماذا عن.. عن "بيلي"؟ ستكون هي الأخرى بمفردها كون "لوريل" و"چون" قادمان معها. ولن يعود "ستيڤن" للمنزل قريبًا. الفتاة المسكينة ستكون بمفردها أيضًا.»

أخفض عينيه لسطح الطاولة مجعِّدًا ملامحه بضيقٍ، بدا فكّه متشنّجًا نتيجة ضغطه على فكّه، حتى هدر في والدته بحدةٍ دون النظر لها:

«ستكون بخيرٍ، يمكنها إيجاد مَن يُسلّيها هذه الليلة. ليس صعبًا عليها.»

ثمّ أكمل في نفسه بأسى:

«خاصةً كونها بهذا الجمال واللطافة.»

قبض على أصابع يده بضيقٍ لاعنًا نفسه؛ حتى بعد كلّ ما فعلتْه به ورفضها إياه وتجاهله بهذه الطريقة، ما زال قلبه الغبي ينبض لدى ذِكرها. لذلك اقتربتْ منه والدته تزفر بقلة حيلةٍ، كانت تعلم أنّ هناك ما يجري بينهما وقد حدثتْ مشكلةٌ وقطعته. فأمالت برأسها على كتفه العريض تمسح على ظهره تواسيه:

«لا بأس، صغيري. سيكون كلّ شيءٍ بخيرٍ. أنت لست سيئًا أبدًا، و"إيزابيل" ليست كذلك. إنّه فقط.. سوء التفاهم الأحمق. سيمضي كلّ شيءٍ، بني.»

طبعتْ قُبلةً حنونةً على وجنته، فابتسم لها بامتنانٍ، وخلال بضع دقائق، خرج لتوديع والديه ووالديّ "إيزابيل" الذين استقلّوا سيارة أجرةٍ تجاه المطار للسفر لهاواي. بينما "إيزابيل" قد وقفتْ عند باب منزلها تلفّ سترتها القديمة حول جسدها معانقةً نفسها بذراعيها تنظر لهم يرحلون بابتسامةٍ باهتةٍ متمتمةً:

«لا أصدّق أنّ والديّ ذاهبان لقضاء مناسبة عيد العُشّاق في هاواي، بينما أنا عالقةٌ هنا في بنسلڤانيا بشتائها البارد مع مشروع أدب. ومع.. مع "چيرمايا فيشر".»

بعثرتْ شعرها بجنونٍ تصيح بنفاد صبرٍ، ثمّ دخلت المنزل مغلقةً الباب بقوةٍ، غير منتبهةٍ لزوج العيون الساخرة التي كانت تراقبها بنظرات عميقةٍ.

أتى المساء سريعًا في تلك الليلة المميّزة للمُحبّين والثنائيات، فارتدتْ "إيزابيل" سروالًا أسود من الجلد، وقميصًا أسود شفافًا تمامًا، أسفله صدريةٌ سوداء أيضًا، وربطْ شعرها بإهمالٍ، ثمّ خرجتْ من منزلها للمنزل المجاور تتفحّص الأجواء الحمراء والشاعرية حولها باستياءٍ. طرقتْ باب منزله، ففتح لها خلال ثوانٍ، لتبتسم لدر رؤيته مباشرةً قائلةً بخفوتٍ:

«مرحبًا "چيرمايا".»

«سأنتظركِ في غرفتي. أغلقي الباب.»

لمْ يكلّف نفسه عناء النظر لها حتى بعد هذا الردّ البارد، وتوجّه للأعلى سريعًا، فقلبتْ عينيها تغلق الباب متذمرةً:

«أجل، يا له من ترحيبٍ حارٍ بي في منزلك.»

صعدتْ خلفه مباشرةً، فوجدتْه يجلس خلف مكتبه وقد جهّز الحاسوب والكتب واضعًا كرسيًا آخر لها بعيدًا عن كرسيه ببضع سنتيمترات، فزمّت شفتيها تجلس إلى جواره، وقسّما المهمات في المشروع بينهما ليبدآ.

صمتٌ طويلٌ دار بين كليهما بينما يتفحّصان بعض الكتب بصمتٍ للبحث عن إجابات للمشروع، حتى ابتلعتْ لُعابها تنظر له بارتيابٍ، ثمّ تحمحمتْ تسأله:

«هل هذا هو الحاسوب المحمول الذي حصلت عليه كهديةٍ في عيد الميلاد؟»

همهم بالإيجاب دون الردّ عليها، فعضّت شفتها السُفلى بحزنٍ، تعود لقراءة الكتاب والبحث عن المعلومات، حتى مضتْ ساعةٌ أخرى لمْ يتبادلا فيها كلمةً واحدةً، إلى أن قرّرتْ "إيزابيل" محاولة الحديث معه مجددًا:

«ما أخبارك في كرة السلة؟ هل يمرّ كل شيءٍ بخيرٍ في التدريبات من أجل منحتك الجامعية؟»

«جيّدة.»

أجابها باختصارٍ دون النظر لها، وبدأ بالعبث بالحاسوب للبحث عبر المواقع بصمتٍ، فاهتزّتْ شفتاها بتأثُّرٍ من صمته وتجاهله لها حتى وهي إلى جواره، وبدأت تدوّن ما يحصل عليه من معلومات بالبحث بصمتٍ، حتى مرّتْ نصف ساعةٍ أخرى، وعادت لمحاولة الحديث معه تسأله بخفوتٍ وتردّدٍ كبيرٍ:

«سـ- أعتقد أنّني سآخذ استراحةً وأتناول وجبةً خفيفةً. هل.. هل تريدني أن أجهّز لك شيئًا معي؟»

همهم بالنفي دون النظر لها، فتجعّدتْ ملامحها بغضبٍ عارمٍ، ونهضتْ فجأةً باندفاعٍ حتى سقط كرسيها صارخةً فيه تمنحه ظهرها وترحل:

«حسنًا، لقد طفح الكيل من هذا. لن أستطيع المواصلة بهذا الشكل. أنا سأذهب.. تبًا لك "چيرمايا فيشر".»

أخذتْ خطواتها الساخطة تجاه باب غرفته تدبدب الأرض بقدميها الصغيرتين، ولكنّها لمْ تكد تخطو خطوةً خارج الغرفة حتى شعرتْ بذراعه يلتف حول خصرها ويديرها إليه، ضاربًا صدرها بصدره بقوةٍ، فرفعتْ عينيها تجاهه بتوترٍ، قلبها ينبض بعنفٍ وأنفاسها تهتاج لرؤية ملامحه المظلمة، وكلماته تتردّد لأذنيها كالصاعقة توتّرها:

«ما الذي لن تستطيعين المواصلة فيه "إيزابيل"؟»

عضّت وجنتها من الداخل، ملامحه السوداء هذه أخافتْها كثيرًا، وكأنّه تحوّل لشخصٍ آخر لا تعرفه أبدًا، إلّا أنّها لطالما وقفتْ ضده في جميع حالاته، لذلك أجابته من بين أسنانها تمنحه نظرات أقوى:

«لن أستطيع المواصلة مع معاملتك الصامتة هذه لي. لقد اكتفيتُ من كلّ هذا. فلنعُد أعداء على الأقلّ كما كنّا سابقًا بدلًا من هذا الصمت والتجاهل. فلتعُد لتكرهني بدلـ..»

«هذه هي المشكلة. هذه هي المشكلة اللعينة "إيزابيل". لمْ نكُن أعداء يومًا. لمْ أكرهكِ يومًا ولن أستطيع فعلها حتى، هذا فقط ما أوهمتِ به عقلكِ لتبتعدي عني في صِغرنا. أنتِ مَن أنهيتِ كلّ شيءٍ سابقًا، وأنتِ مَن أنهيتِه الآن أيضًا.»

قاطعها، يصيح بصوتٍ اخترق عظامها وأجفلها حتى أفلتت جسدها بخوفٍ من قبضته تبتعد عنه للخلف، ولكنّ جفنيه احمرّا، يرمقها بعينين تحملان الكثير مما كتمه سابقًا. قلب الطاولة فوق رأسها وأضحى هو المعاتب، ولكنّها ضغطتْ أسنانها ببعضها تصرخ فيه بنبرةٍ أعلى:

«لا يمكنك أن تضع الذنب عليّ. ليس لك الحقّ أبدًا في قول هذا وأنت مَن تغيّر منذ الصف الثامن، أصبحت تزعجني كثيرًا، تفعل المقالب بي، تسيء لي ولمْ تعد "چيرمايا" الذي ولدتُ لأجده أمام عينيّ وأقضي أسعد أوقات طفولتي معه. لاحقت الفتيات الأخريات وتركتني وحيدةً، لذلك لا يحقّ لك قول هذا. أنت.. أنت حتى لا تفهم أسبابي لإنهائي علاقتنا قبل بدايتها، ولن تفهمها أبدًا.»

«سحقًا "إيزابيل"، سحقًا. ما هي هذه الأسباب اللعينة؟ ما تقولينه هو من وحي خيالكِ فقط. أنتِ مَن أردتِ لعب دور الضحية، ولكنّكِ لمْ تؤذي غيري. جعلتِني أنا الضحية هنا.»

صرخ بعينين على وشك الخروج من محجريهما حتى أغمضتْ عينيها ارتعابًا منه، ولكنّها انتفضتْ حينما أقبل عليها يلتصق بجسدها، وحجز جسدها الصغير بين ذراعيها يديرها ليلصقها بالحائط جوار مكتبه، حاجزًا إياها بين جسده الضخم والحائط إلى أن همستْ له بخوفٍ:

«"چـ-چيرمايا"، ما.. ما الذي تفعله؟»

أسند جبينه على جبينها مخفضًا رأسه لأقصى درجةٍ نظرًا لفارق الطول الكبير بينهما، أغمض عينيه يستنشق ماء أنفه، الحزن يملأ صوته الذي خرج بنبرةٍ أعلمتْها كمْ أذتْه حقًا:

«لقد سئمتُ هذا الوضع كثيرًا "إيزابيل"، سئمتُ هذا الصمت والتجاهل بيننا. سئمتُ نظراتكِ الحاقدة عليّ، سئمتُ تقلُّب مزاجكِ حولي، سئمتُ العلاقة الباردة والساخنة بيننا وهذه المعاملة المتقلّبة منكِ. ما الذي تريدينه مني "إيزابيل"؟ ماذا تريدين مـ..»

تحدّث وعبّر، ولكنّها قاطعته، ترتفع على أطراف أصابعها واضعةً شفتيه على شفتيها، مستسلمةً لرغبة قلبها اللعين، هامسةً له وسط تلك القُبلة المفاجئة:

«لقد سئمتُ أكثر منك إخفاء مشاعري. تبًا لهذا.. أنا، أنا أريدك "چيرمايا"، أريدك ولا أريد غيرك في هذا العالم.»
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي