الفصل24

الفصل 24

في بيت "لينا" كانت أمها تنظر لها، تشعر بسعادة تموج بداخلها، إبنتها تستعد إلى لقاء جاسم وعائلته الليلة، تمشط خصلات شعرها، بينما يدها ترتجف، يظهر الإضطراب في كل لفتة منها تخشى أن تنظر لعينيها في المرآة حتى لا ترى اسمه مسطور بين جفنيها..

ذلك الإحساس الذي يغمرها والمشاعر التي تموج بداخلها، وهج من ذلك الحب الذي ينبض في قلبها، كأنها تشعر أن الدنيا تفتح لها أبوابها على مصراعيها، تعطيها دون حساب، هي التي لم تكن تتخيل، أن اليوم الذي قابلت فيه جاسم وأخرجت ما بداخلها من ثورة وغضب عليه..

وهي تلومه على ما حدث لها، تلومه على إنفعال أخوه عليها، عندما ظنته هو، حينها لم تكن تعرف أنه سيكون سبب لتلك الحياة التي لم تتخيل أن تعيشها، فلم تتخيل أن يأتي يوما تعشق رجلاً حتى النخاع، وليس أي رجل إنه جاسم ..

إنه ما كانت تجرؤ على أن تتمنى فقط، أن يلتفت لها، ومن حسن حظها لم يكتفي ذلك الرجل بالإلتفات لها بل صرح بما يشعر به لها، وهو يتقدم لخطبتها، قالها صريحة «أريدك أنتِ »!، وأنت فقط تكفيني عن الدنيا، حتى لو لم تكونِ على نفس المستوى، والوضع الإجتماعي..

إلا أنها هي من يريدها، عينه كانت تقولها بطريقة واضحة، أنت عندي أغلى من الدنيا بما فيها، وهذا هو ما يهمها مشاعره الراقية، همساته العذبة نظراته التي تؤثر في قلبها الشوق، تجعلها تتمنى اللحظة التي تكون فيها له..

اقتربت أمها تضمها ما أن رأت ارتباكها، وهي تقول:

_اهدئي حبيبتي، لمَ ترتجفين بهذه الطريقة؟

_ أنا..

_أجل أنت..

_ لا أعرف.

_ ومن يعرف يا لينا، من يعرف يا قمرنا!.

_ هل تدركين يا أمي أن أمه الحقيقة، اسمها لينا؟

_ماذا، ولكن من كلمتني ليست بهذا الإسم! فمن تكون له؟

_ أنها أمه أيضا، لكنها التي ربته.

_ لم أفهم، هل هي زوجة أبيه؟

_ هم لا يتعاملون معها على هذه الطريقة، هو يحبها وهي كذلك، لو تدركين كيف كانت تتعامل معه وكيف حاولت أقناعي، لكنت ادركتي ما اعنيه، هي تفعل كل شيء فقط لتراه سعيداً..

الدهشة على وجه أمها جعلت لينا تكمل كلامها

_ لو رأيته وهو يقبل يدها، يضمها بين يديه كأنها أغلى عنده من الدنيا، لأدركتي مدى حبهم لبعضهما.

_ الأم ليست من أنجبت، الأم من قامت بالنشئة والتربية.

_ هذا صحيح أمي..

ضمتها أمها وهي تساعدها لتستعد..

بينما هناك كان جاسم يقود سيارته، يستمع إلى صوت الموسيقى، المنبعث من وحدة الصوت في السيارة، وهو يشعر بقلبه يتراقص على نغمات الفرح المنسابة حوله، عينه يشع منها الفرح وهو يتحرك بسيارته في سلاسة، إلا أنه في عالم بمفرده جدرانه من العشق، ينتظر اللحظة التي تكون له، يمني نفسه بمذاق العسل على شفتيها، وبطعم الجنة في حضنها..

بينما خالد وقمر في سيارة أخرى، وهما يتبادلان الحديث

خالد: كيف فعلتها؟

قمر: عن ماذا تتحدث يا حبيبي؟

خالد:جاسم قال أنه سينتظر لنهاية الأسبوع، حتى يحصل على رد منها، لكن ما أن ذهبتي إلى الشركة، كنتي أتممتي كل شئ في يوم واحد فماذا أقول؟

قمر وهي تعتدل في جلستها تنظر له بسعادة، وهي تهمس:

_هل تشك في قدراتي، لقد أنتظرت أن يخبرني انه يفكر في الارتباط، وما أن يفعلها يطالبني بالانتظار؟ بالطبع لا لن أستطيع الصبر..

_ حبيبتي أنا أيضا كنت منتظراً، هذه اللحظة واتمنى أن يفعل قاسم مثله..

_ هل تظن أنه قد يرتبط أو يثق في إحداهن بعد الذي يفعله مع العارضات؟

_ لا أعرف يا قمر ولكني أشعر بأنه متغير هذه الأيام، لذا أمني نفسي أن هناك من تشغله، أو يفكر في الإستقرار..

_ أتمنى..

بينما قاسم يقود سيارته في صمت، يسأل نفسه لمَ هو هنا؟ بأي قلب يذهب إلى منبع الألم بنفسه، هل هو سادي ليقبل تعذيب روحه بهذه الطريقة؟ عليه أن يرجع سوف يدور بسيارته ليعود. إلى البيت، لا لن يذهب إلى البيت حيث أخوته الصغار و يروا انهزامه وأنكساره في معركة لم يحارب فيها من الأساس..

ولا يوجد مجال ليحارب أو يعلن عن ألمه، عليه أن ينزوي في شقته تحاوطه الجدران، تواسيه في الوحدة! ليلعق جرحه بنفسه، هو المذبوح دون أن يقو على القول أو المقاومة..

ولكن باي مبرر قد يفسر لهم تراجعه، باي سبب قد يذهب؟ ، هل يستحق جاسم أن يتركه بمفرده، عليه أن يبقى حتى لو كان الوجع لا يحتمل..

بعد وقت كانوا يصلون إلى بيت لينا، حيث ينتظرهم والدها وأمها وهم يقفون في استقبال عائلة عز الدين..

كان مهران يرتدي ملابس رسمية، ما ان سمع الجرس يرن تحرك إلى الباب وابتسامة على وجهه وهو يرحب بخالد الذي يقف بوقاره المعهود، وجاذبيتة المفرطة في بدلة سوداء من تصميمه تناقض بشرته الفاتحة وشعره الذي تخللته بعض الخصل البيضاء، زادته وقارا ووسامة ممزوجة بالهيبة..

ابتسم له مهران وهو يدعوه ليدخل وبعد الترحاب به، نظرت ثريا إلى قمر ثم إلى خلفها كأنها تنتظر أن تظهر أم جاسم، عينيها تبحث بين الواقفين عن امهم التي تكلمت معها في الهاتف..

قمر: عن من تبحثين؟

ثريا: ألم تأتي والدتكم معكم.

نظرت قمر إلى خالد، ثم نظرت لثريا وهي تقول:

_ أنا والدتهم سيدة ثريا، تبدين مجاملة مثل إبنتك الجميلة، لقد قالت لي نفس الكلام في الصباح، لكن دعي هذا كلام يخرج مني أنا !
لا أصدق انك أم لينا من الأساس، تبدين أصغر بكثير..

أبتسمت لها ثريا وهي تضمها بين يديها، وتدعوها لتدخل، بينما نظرت إلى الإثنين الواقفان، أحدهما يحمل ورد وطبق من الفضة، محمل بالشوكولاته الفاخرة، والآخر يبتسم لها بهدوء..

الدهشة على وجه ثريا كانت واضحة، وهي لا تعرف هل ستعرف أبنتها أن تفرق بينهما، نظرت إلى جاسم وقالت:

_ أنت جاسم

هز رأسه بالموافقة فابتسمت له

_ اهلا بك يا بني، تفضل وأنت

ابتسم قاسم وهو يمد يده ليسلم عليها

قاسم: أنا توأمه اسمي قاسم..

ثريا بعفوية: يا الهي كيف ستعرف أبنتي أن تفرق بينكما؟

أبتسم لها جاسم و رد بهدوء ممزوج بالثقة:

_بقلبها، قلبها سيعرف إلى من ينتمي.

هنا أبتسم مهران على حديثه وثقته كأنه متأكد من عشق أبنته له، كما أن عينه تظهر الوله والعشق، كأنه لا يخجل ولا يحاول أن يواري مشاعره، أبتسم له وهو يقول:

_اهلا بك جاسم مرحباً بك قاسم تفضلوا.

جاسم: شكرا لك

مهران: سعيد برؤيتكم، تفضلوا البيت بيتكم لن نقف على الباب لنتكلم..

هز جاسم رأسه وهو يقول:

_ حسنا عمي، أم تفضل أن اناديك دكتور مهران.

_ ناديني بالطريقة التي تعجبك.

أبتسم جاسم، وهو يجلس بعد أن وضع ما في يده على تلك الطاولة، هنا تكلم خالد وهو يقول:

_ سررنا بالتعرف عليكم، وأرجو أن لا يكون هناك أزعاج في قدومنا اليوم.

مهران: لمَ تقل ذلك لقد شرفنا بوجودكم بيننا

خالد: الشرف لنا، رغم أني أعرف قمر جيداً، ما ان تضع شيء في رأسها، لا تتوانى إلا أن تحققه، وهي منذ أن تكلم جاسم عن لينا واخلاقها، وهي تحلم باليوم الذي تزوجهم فيه، فنحن جميعا ننتظر اليوم الذي يعجب فيه قاسم أو جاسم بأحداهن..

نظر قاسم لوالده بابتسامه وهو يحاول أن يشغل نفسه عن الحوار، عقله يلح عليه أن يهدأ، وهو يفكر ويقول:
_ما هو شعورك يا أبي إذا علمت؟ إني بالفعل أعجبت بإحداهن وتمنيتها، وفي اللحظة التي تمنيتها وجدت أخي يتكلم عن أرتباطه بها، هل كنت لتأتي اليوم لتطلبها؟ هل لو كنت تعلم انني أحبها حقا؟ كنت تقدمت لخطبتها لأخي الذي مع سخرية القدر يحبها هو الآخر؟ هل تتطابق جينات التوأم؟ هل نحب نفس الشخص؟

_بالطبع لا..

كان يرد على نفسه، كأنه يحاورها فكيف يكون توأم يحبون نفس الشيء؟ وجاسم يختلف عن قاسم في الطباع!

استمع إليه مهران، لم يدرك قاسم انه نطق بالفعل بكلمة «بالطبع لا» فهل هذا رد على كلامه لقد كان الدكتور مهران يتكلم مع قاسم الذي ما أن لاحظ نظراته له، ظهر الخجل على وجهه على غير العادة ؟

قاسم: آسف لم أسمعك..

مهران: لا شيء يستدعي الأسف كنت أسالك ماذا تريد أن تشرب؟

_ لا شيء عمي ليس الآن، أشكرك

مهران بعد قليل

جاسم: أجل عمي بعد قليل.

مهران: حسنا، أريد أن اسأل عن شئ، لمَ أشعر إني رأيتكم من قبل، كأني أعرفكم..

قاسم: ربما لأنك رأيت جاسم، تلك المرة التي قام بتوصيل لينا إلى هنا.

_لا، حتى في تلك المرة رغم أني كنت غاضب من لينا لأنها عادت مع أحد دون أن تخبرني، ولأنها سمحت لنفسها بأن تركب معه سيارته، إلا أني شعرت بأني اعرفه أو أن هناك شيء مألوف فيه..

نظر قاسم إلى جاسم وهو يبتسم..

جاسم: ربما رأيت إحدى المباريات خاصتنا، أو قرأت عنا في الجرائد والصحف، أو ربما في شاشة التلفاز..

_ مباريات؟

الدهشة على وجه مهران، وهو ينقل نظره بين الإثنين، يجمع خيوط الحكاية التي كانت واضحة، ابتسامته تتسع على وجهه وهو يقول:

_بالتأكيد تمزح!

قاسم: لمَ نمزح إنها الحقيقة.

مهران: هل تعني أنك أنت وهو ابطال العالم في فنون القتال المفتوحة.

نظر خالد إلى قاسم وجد الوجع مرسوم في عينه، رغم أن وجهه يدعي البرود، وهو يزدرد لعابه كأنه لا يقوى على أن يهمس بحرف، بينما جاسم أدرك ما يفكر فيه أخوه، لذا رد نيابة عنه

جاسم: أجل يا عمي لقد تركنا البطولة منذ فترة بسيطة، قرار إضطراري.

مهران: بالطبع يجب أن يكون إضطراري، أي شيء يستدعي أن تحطم حلمك وتنهيه، اي شيء يستدعي من أن تكون بطلا في مكانتك ووضعك وقوتك؟ ينهي كل شيء بقرار! إلا إن كان مجبر وقراره اضطرته عليه الظروف..

ادركت قمر ما يشعر به خالد، لذا تكلمت وهي تواري وجعها على الثلاثة خلف ابتسامة

_ لقد تعرض والدهم لأزمة صحية، كادت أن تودي بحياته، وسبب في معاناته اننا تعرضنا للخيانة من الداخل، لا نعلم من هو خصمنا الذي حاول تدمير اسمنا في السوق..

ثريا: يا إلهي هل كلامك صحيح؟.

_ أجل صحيح، أنا ايضا مصممة نحن الثلاثة نعمل في تصميم الأزياء، إلا أن قاسم كان يعمل هاوي، لا يفكر أن يقيم عرض كامل بأسمه، لأن والده موجود، وأنا ايضا..

ثريا: انت ايضا مصممة

_ أجل وجاسم أنهى دراستي في كلية الهندسة قسم الميكانيكا، من أجل أن يهتم بالمصنع، لكن ما أن بدأ سلسلة البطولات، التي لم تنتهي وصولا إلى العالمية، وحفروا اسمهم بين أبطال العالم، اتت النكبة التي لم نتخيلها..

ثريا: لقد أحسنتم الإختيار، ظهر معدنكم الأصيل وقت الشدة، هناك أشياء قد تعوضها حتى لو لم يكن فيك انت، قد تعوضها في طفلك، لكن أن فقدت أحد والديك ليس شئ هين أو تستطيع تعويضه..

جاسم: هذا صحيح ولو رجع بي الزمان سوف أختار نفس القرار مرة أخرى، لكن هناك سؤال يلح عليا.

مهران: ما هو يا بني؟

_ أين هي لينا؟ أنا ابحث عنها بعيني منذ جلست

ارتفع صوت الضحك من الجميع، حتى إن قاسم شاركهم، رغم أنه لا زال يشعر بالألم لذلك الموضوع الذي تم مناقشته، إلا أن ثريا نهضت وهي تقول:

_سوف تأتي حالاً

قمر: سوف ننتظرها..

بينما خالد يتكلم مع مهران يتناقش معه في بعض الأساسيات، شارك جاسم معهم في الكلام، أما قاسم ظل صامتاً، يستمع في هدوء وهو ينفض قلبه، حاول ان يعتصره ليخرج تلك البقايا المتبقية من أفكاره السوداء، وهو يقول لنفسه:

_ كفى، ليست هي ولو آخر إمرأة على وجه الأرض، لن اكون بهذه الخسة، كفى عليك أن تبرد، عليك أن تهدأ عليك أن تخرجها من بين نياط قلبك، حتى لا تكون خائنا لنفسك فهو نفسك

هنا كأنه يدعو الله أن يربت على قلبه، و لان الله رحيم، شعر بالهدوء النسبي، لم يجد لهفة في عينه ولا رجفة في قلبه، وهي تقترب مع امها..

التي تسير بجوارها وهي تحمل تلك الصينية، المحمله بالمشروبات والحلوى، والتي كادت ان تريق محتواها أكثر من مرة، كأن الخجل والخوف يحيطونها، وكانهم شبكة وهمية من الهالات تشع من داخلها..

وقد كانت تقترب منهم، تضع امامهم تلك الصينية لأنها لم تعد تقوى على الوقوف.
قدمها تحولت إلى هلام، نظراته الهائمة جعلتها ترتجف، مما جعل خالد ينظر له وهو يقول:

_ جاسم نحن هنا

جاسم: ماذا فعلت يا ابي. لم أهمس من بين شفتاي بحرف..

قاسم: بطبع لم تهمس بحرف، لكن والدك يقصد تلك القصائد التي ألقيتها بعينك.
جاسم: ماذا؟
قاسم: دعها تجلس أولاً..

جاسم: بالطبع تفضلي حبيبتي..

نظرة الخجل على وجهها والصدمة على وجوههم جميعا، لم تبدد نظرات العشق في قلبه وهو يأكل تفاصيلها بعينيه وشفتيه تهمس دون صوت، أحبك لينا …

مهران: ماذا تقول جاسم أنا أيضا أريد أن أسمع صوت همسك

جاسم: لا شئ عمي كنت..
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي