قرين ميّت البارت الثالث

"قرين ميّت" "البارت الثالث"

يبقى الفؤاد ساكناً حتى يداهمه شعور السعادة التي تجعل أسارير المرء تنفجر على غير العادة! فيكون على أهبة الإستعداد لتلقي كل ما يحدث سواء كان جيدًا أم لا برحابة صدر!.

إنه شعور غريب حقاً ومن فرط غرابته يصاب البعض بخشية فقدانه فيحرصون على توخي الحذر، ولكن عندما يدرك المرء تلك الأمور يكون قد فات الأوان!.
التحفت وهج في الفراش، كلما أجفلت جفنيها رأت عيني مُهاب وكأنها تطاردها.

انتبهت لابتسامتها وقالت بتعجب:
_لا بد أنه سيكون سبباً في سلب سكوني وراحة بالي! من أين جئت يا مُهاب!؟.
وبعد محاولات تمكنت وهج من أن تغط في ثبات عميق.

في صباح اليوم التالي
استيقظت وهج مبكراً، كانت مفعمة بالحيوية والنشاط، أرادت أن تنتهي من قراءة الكتاب ولكنها لم تستطع!.
كانت تفكر في مُهاب وفي كيفية لقائهم القادم، كانت تود أن تبعث له رسالة نصية ولكنها آثرت الإنتظار حتى يبعث هو رسالة ولكنه لم يفعل!.

مرت عدة أيام ولم تتلقى وهج أي رسالة من مُهاب، فقد ظنت أنه سيأتي إلى المنزل مثلما فعل في المرة الماضية ولكن خاب ظنها للدرجة التي جعلتها توقن أنه لص أو ما شابه.

صارت وهج تعاني من الروتين المتكرر الذي جعلها عابسة وغاضبة أغلب الوقت، وما جعل الأمر يزداد سوءًا أن الرجال الذين يمكثون في الأسفل لم يسمحوا لها أبداً بمغادرة المنزل.

ذات يوم كانت وهج عاكفة العمل على جهازها اللوحي، انتبهت حينما أصدر الهاتف رنين وصول رسالة جديدة، ظنت أنها رسالة من أحد أصدقائها ولكن حينما ألقت نظرة عابرة نحو الهاتف انفجرت أساريرها وقفزت من شدة السعادة، لقد كانت رسالة واردة من مُهاب.

أمسكت وهج بالهاتف وهمست قائلةً:
_لقد انتظرتك كثيراً.
كانت الرسالة تنص على:
_"سأكون أمامكِ مباشرة بعد خمسة وعشرون دقيقة، كوني على أهبة الإستعداد للإنطلاق".
وبالفعل كانت وهج على أتم الإستعداد في غضون ثلاثة عشرة دقيقة.

كانت تترقب ساعة يدها كل دقيقة، كانت تشعر بأن الوقت لا يمر على نقيض العادة.
كانت وهج تقف عند الشرفة تنظر من خلالها حينما دق باب غرفتها فظنت أنها الخادمة، زفرت بقوة وقالت:
_تفضلي.

دلف مُهاب إلى الغرفة قائلاً بتعجب:
_تفضلي!!.
فسرعان ما التفتت إليه وهج وقالت بسعادة عارمة مصحوبة بدهشة:
_أنت؟ كيف تفعل ذلك؟ أقصد كيف تتمكن من دخول المنزل ومغادرته دون أن يشعرن بك أحد؟.

اقترب منها مُهاب بخطوات دئوبة بينما كان ينظر لعينيها مباشرةً وقال:
_هذا أقل ما يمكنني فعله، هيا لننطلق.
أمسك مُهاب بيد وهج واتجه نحو باب الغرفة ولكنها سرعان ما جذبت يدها وقالت بوجل:
_مهلاً، كيف سنغادر المنزل سوياً؟ ماذا سنفعل إن تمكن أحد هؤلاء الرجال من رؤيتنا؟.

تبسم مُهاب وقال:
_لن يرانا أحد.
نظر في عينيها وهمس قائلاً:
_هل تثقين بي؟.
جحظت عيني وهج فهي أمام عينيه تُهزم!، فأومأت برأسها دون أن تتفوه بكلمة واحدة.

اتسعت ابتسامة مُهاب وجذب يدها وخرجا من الغرفة.
هبطا إلى الطابق الأرضي، كان مُهاب كلما رأى أحد الخدم اختبأ ظلا يتسللا وصولاً إلى نافذة تطل خلف المنزل.

نظرت وهج إلى النافذة وقالت بتساؤل:
_ماذا سنفعل؟.
فقال مُهاب بجدية:
_سنقفز.
ضمت وهج حاجبيها وقالت بتعجب:
_ماذا؟ بالطبع لا، لن أقفز.

فقال مُهاب بنبرة هادئة:
_نحن نمكث في الطابق الأرضي لن تتأذي أعدكِ.
زفرت وهج بقوة ثم ساعدها مُهاب وقفزت في الخارج ثم تبعها هو.
سارا قليلاً وصولاً إلى سيارته.

استقلا السيارة ومن ثَم أدار مُهاب محركها وابتعد عن المنزل.
لم يتفوه أي منهما بكلمة واحدة طوال الطريق، أوقف مُهاب السيارة ونظر نحوها قائلاً:
_إلى أين تودين الذهاب؟.

تبسمت وهج ثم تنفست الصعداء وقالت:
_لا أعلم، أريد أن أذهب إلى مكان هاديء بعيداً عن ضجيج العالم.
أومأ مُهاب برأسه قائلاً:
_هيا بنا إذاً.
أدار مُهاب محرك السيارة ثانيةً وانطلق ذهاباً إلى مكان لا يوجد به سوى الماء والزرع.

ترجلا من السيارة وسارا بين تلك الزروع.
تنهدت وهج واستنشقت الهواء الطلق بعمق، أراد أن يتخللها من الداخل.
نظرت وهج نحو مُهاب وقالت بنبرة جادة:
_أظن أنه حان الوقت لكي تخبرني بكل شيء.

ضم مُهاب حاجبيه وقال:
_عن ماذا تتحدثين؟.
زفرت وهج بقوة وقالت بتساؤل:
_كيف ولِم اقتحمت حياتي بهذه الطريقة؟ هل تعرفني؟ أقصد لِم كل هذا؟ ظهورك في حياتي فجأة ولِم أبي حريص جداً على حمايتي؟ ما الذي يحدث أنا لا أفهم أي شيء!.

امتعض مُهاب ولكنه لم يفصح عن ذلك، فقط أمسك بيدها وقال بنبرة مطمْئنة:
_هناك أشخاص يشكلون خطراً على حياتكِ، لقد قاموا بتهديد والدكِ.
فاقتضبت وهج حديثه وقالت:
_وكيف علمت ذلك؟ ولمَ أنت هنا؟!!.

تنهد مُهاب قائلاً بجمود:
_لقد أُرسلت لكي أتخلص منكِ.
شهقت وهج بفزع وجذبت يدها من بين أصابعه وقالت بعينين مغرورقتين:
_ماذا!.

تراجعت وهج إلى الوراء بضع خطوات فسرعان ما أمسك مُهاب بساعِديها وقال بنبرة لاهثة:
_أقسم لكِ أنني سأحميكِ يا وهج.
فأشارت وهج برأسها نفيا وقالت قبل أن تنهمر دموعها:
_أريد أن أعود إلى المنزل، دعني وشأني.

فصاح مُهاب في وجهها بنبرة غاضبة قائلاً:
_لن أدعكِ تذهبين.
فقالت وهج بنبرة باكية:
_دعني وشأني أرجوك.
ضغط مُهاب على نواجزه بقوة حتى يمتص غضبه وقال بنبرة هادئة:
_سأخبركِ بكل شيء لكن لن أدعكِ تذهبين مهما حدث، أريد فرصة واحدة فقط لكي أشرح لكِ كل شيء.

كانت وهج تنتفض من هول المفاجأة وعلى الرغم من ذلك أومأت برأسها.
جلسا مُهاب ووهج أرضاً وبدأ مُهاب يقص على مسامعها ما حدث منذ إحدى عشر عاماً حتى يومهم هذا.

تنهد مُهاب بوهن حينما تذكر فترقرقت الدموع في عينيه وبدأ يقص قصته قائلاً:
_قبل إحدى عشر عاماً، ذات يوم كنت ألهو وألعب كرة القدم برفقة أصدقائي فهتف إليّ أحدهم قائلاً:
_أنظر يا مُهاب، هؤلاء الرجال يتجهون نحو منزلك.

فنظرت نحو الإتجاه الذي يشير إليه صديقي فرأيت ثلاث رجال ملثمين يرتدون ثياب قاتمة اللون، دلفوا إلى منزلي عنوة فهرع جميع أصدقائي بعيداً، لقد حثني أحدهم على الفرار ولكنني فكرت في عائلتي أبي وأمي وشقيقتي التي تبلغ من العمر سبع سنوات.

أخذ مُهاب شهيق عميق ثم زفره بقوة واسترسل بقوله:
_هرولت إلى المنزل، قبل أن تطأهه قدمي اقتلع أذني صوت إطلاق النار.

انهمرت دموع مُهاب قائلاً بصوت متهدج:
_كنت خارج المنزل ولكنني تمكنت من رؤية كل شيء، قام أحد هؤلاء الرجال بإطلاق رصاصة اخترقت رأس أبي وخرجت من الجهة الأخرى، والأخر قام بكسر عنق والدتي.

تعالت حشرجات مُهاب وأردف قائلاً:
_كدت أتقيأ أحشائي حزناً، لكن تمالكت نفسي حينما تذكرت شقيقتي، لكن قبل أن أقرر ماذا سأفعل وكيف سأصل إليها رأيت ثالثهما خرج من غرفتها وهي بين يديه تصيح بأعلى طبقات صوتها.

صمت مُهاب فقالت وهج بعدما انهمرت دموعها:
_ما الذي حدث عقب ذلك؟.
ركضت خلفه بأقصى سرعة لدي، أمسكت بقناعه وألقيته بعيداً وقبل أن أمسك بيد شقيقتي ركلني بقدمه واستقل السيارة هو ورفاقه، لم أتمكن من إنقاذها، فقط حرصت على أن لا أنسى ملامح وجه ذلك الرجل.

قهقه مُهاب بسخرية ثم تابع بقوله:
_صرت مصارع، كنت على يقين تام بأننا سنلتقي مرة أخرى وبيَّت أمري على أنني سأذيقه العذاب بشتى ألوانه لما فعل هو ورفاقه.
صمت مُهاب فربتت وهج فوق كتفه وقالت بتساؤل:
_وماذا بعد؟.

تنهد مُهاب وقال:
_لقد التقيت به بالفعل بعد مرور ستة أعوام، كنت أبلغ من العمر حينها واحد وعشرون عاماً، لم يكن الوقت ملائم للإنتقام، كنت أعمل لدى رجل عجوز كان يعمل في مجال الممنوعات، بينما كان ذلك الخاطف يعمل لدى رجل آخر والتقينا أثناء العمل.

نظر مُهاب نحو وهج وقال:
_قادني القدر إليهم، صرت الأهم بينهم، حتى صار رئيسهم يعتمد عليّ في شتى الأمور كان يعتبرني ذراعه الأيمن، اتخذت عملي هناك وسيلة لكي أعثر على شقيقتي وبالفعل التقيت بها.

جحظت عيني وهج بسعادة وقالت:
_حقاً! ماذا فعلَت حينما التقت بك؟ لا بد أنها كانت سعيدة جداً بذلك.
فقال مُهاب بسخرية:
_بل على النقيض تماماً، صارت تشبههم أبت أن تأتي برفقتي آثرت المكوث هناك.

ضمت وهج حاجبيها وقالت بتساؤل:
_وماذا عنك؟.
أخذ مُهاب شهيق عميق وزفره بقوة قائلاً:
_اضطررت للعمل معهم، لم أكن أنوي تركهم ولكن فوجئت برئيسي يكلفني بمهمة التخلص منكِ.
سرت قشعريرة في جسد وهج وقالت بنبرة وجلة:
_وهل ستفعل؟.

فسرعان ما قال مُهاب بنبرة غاضبة:
_كنت سأفعل، ولكن حينما رأيتكِ لم أتمكن من ذلك على الرغم من أنني فعلتها كثيراً من قبل، ولكن لا أدري ما الذي أصابني حينما رأيكِ، وددت لو آخذكِ معي ونذهب من هنا ولكن هذا الأمر أشبه بالمستحيل، لذا قررت أن أقوم بحمايتكِ فلا بد أنه سيرسل غيري لكي يتم المهمة.

تعالت اضطرابات فؤاد وهج وقالت:
_لِم يريد التخلص مني؟.
فقال مُهاب بنبرة جادة:
_الأمر متعلق بمؤسسة البرمجيات.
فقالت وهج بدهشة:
_التب تعود ملكيتها لوالدي!.
أومأ مُهاب برأسه قائلاً:
_بالضبط.

فقالت وهج بعدم فهم:
_وما علاقتي أنا بتلك المؤسسة؟ فأنا لا أعمل بها ولا ألقِ بالاً لها.
فقال مُهاب بسخرية:
_ولكنكِ وصيلة ضغط، إن يتمم والدكِ عملية البيع فستصبحين في خبر كان ولذلك حرص والدكِ على حمايتكِ.

فكرت وهج قليلاً قبل أن تقول:
_هل تظن أن والدي سيبيع المؤسسة؟.
أشار مُهاب برأسه نفيا وقال:
_الأمر لا يتوقف على هذه المؤسسة فحسب، إنما هو مبدأ، فإن تخلى والدكِ عن هذه المؤسسة فلن تكون آخر شيء يتخلى عنه.

أفاقت وهج من شرودها فجأة وقالت بتساؤل:
_لحظة واحدة، ما الذي جعل رئيسك يسعى وراء والدي؟ أقصد كيف؟.
قهقه مُهاب وقال قبل أن ينهض:
_هذه هي طبيعة رجالة الأعمال.

صمت مُهاب بينما كان ينظر إلى ساعة يده وأردف قائلاً:
_لقد مر إلى ما يقارب خمس ساعات، هيا بنا سأعيدكِ إلى المنزل.
مد مُهاب يده نحو وهج فأمسكت بها ونهضت هي الأخرى.

همّ مُهاب بالرحيل ولكنه توقف حينما أمسكت وهج بساعِده وقالت بتساؤل:
_ماذا تنوي أن تفعل؟.
زفر بقوة وقال بعدماأشاح بنظره بعيداً عنها:
_سأقوم بحمياتكِ، هذا عهد اتخذته على نفسي ولن أنكله.

شعرت وهج بالإطمئنان والإمتنان وسارت برفقته نحو السيارة.
عادت وهج إلى المنزل ودلفت إليه بذات الطريقة التي خرجت بها منه.

استمرت لقاءات وهج ومُهاب على مدار الأيام، صارت تألفه وتأنس به، تشعر بالسكينة بمجرد رؤيته، تكون بخير فقط حينما يتحدث إليها وتستمع إلى صوته، كان قادراً على انتشال الحزن من باطن قلبها، صار سبباً في السعادة العارمة التي كانت تتغمدها.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي