قرين ميّت البارت السابع

"قرين ميّت" "البارت السابع"

بعض الناس يشعرون بالكمد دون سبب أحياناً، لا يدركون ماهيته سوى حينما تُداهمهم النهايات الحتمية!، حينها فقط يعلمون وظيفة القلب الأخرى بعيداً عن ضخ الدم، فالقلب يمكنه الشعور بتلك الأشياء، فيرسل نتبيه كالإنقباض أو الألم دون سبب مرضي!.

سقط جهاز التحكم من بين أصابع وهج بينما اغرورقت عينيها بشدة.
ظل صوت مُهاب يتردد في ذهنها حينما قال لمريم محذّراً بأنها سيقتلها إن لم تبتعد عنه!.
شهقت وهج بالبكاء وقالت بشرود:
_لا، مستحيل أن يفعل مُهاب شيء كهذا!.

فأتى صوت عقلها يقول:
_ما الذي جعله مستحيلاً؟ أليس هذا ما اعتاد فعله؟.
فقالت وهج ببكاء:
_ولكنه قطع لي عهداً بأنه لن يفعل!.
تعالت قهقهات صوت عقلها وقال:
_وقد نكل عهده، فهذا ليس صعباً!.

انتفضت وهج حينما دق هاتفها بالرنين وقد كان مُهاب، حينما نظرت نحو الهاتف سرت قشعريرة في جسدها بالكامل، لقد تهيّأ لها مظهر مُهاب وهو يمسك بسلاح أبيض ويديه ملطختان بالدماء.

أفاقت من شرودها حينما دق هاتفها بالرنين مرة ثانية، فضغطت على زر قبول المكالمة، وقبل أن تتفوه بكلمة قال مُهاب بنبرة لاهثة:
_وهج أريد أن ألتقي بكِ في الحال.
جمعت وهج رباطة جأشها وقالت بنبرة حانقة:
_سأنتظرك لتقلني بالسيارة.

أنهت وهج المكالمة ثم صعدت إلى غرفتها لكي تستعد للخروج.
كان جسدها ينتفض بقوة من شدة التوتر حتى أنها أمسكت يديها بقوة لكي تكف عن الإرتعاش ولكن بلا جدوى.
نظرت وهج نحو خاتم الخطبة بمحض الصدفة، فقامت بتحريكه قليلاً ثم تركته حينما انهمرت دموعها.

بعد مرور خمسة عشر دقيقة هاتفها مُهاب وأخبرها بأنه ينتظرها أمام المنزل.
أخذت وهج شهيقاً عميقاً ثم زفرته بقوة وهبطت إلى الأسفل.
خرجت وهج من المنزل ثم صعدت إلى السيارة وكان حريصة كل الحرص على أن لا تنظر إلى عيني مُهاب.

أدار مُهاب محرك السيارة دون أن يتفوه بأي كلمة هو الآخر.
بعد مرور نصف ساعة أوقف مُهاب السيارة في مكان مهجور، لا يوجد به سوى بعض المنازل المهجورة والمتهدمة.

كانت الساعة الحادية عشر مساءاً حينذاك.
هبطت وهج من السيارة ثم استندت عند مقدمتها، فهبط مُهاب أيضاً واتجه نحوها قائلاً:
_وهج أنا..
فاقتضبت وهج حديثه وقالت:
_هل نكلت عهدك لي يا مُهاب؟.

جحظت عيني مُهاب وقال بتلعثم:
_ماذا؟ ماذا تقصدين؟.
فنظرت وهج نحوه وكادت أن تتحدث لولا أن وقع نظرها على يده ولم تجد خاتم الخطبة! وتذكرت ما قاله المذيع عبر التلفاز وهو أنهم وجدوا خاتم إصبع بالقرب من جثة الفتاة التي تدعى مريم!.

تسارع خفقان قلب وهج وأمسكت بيده وقالت ببكاء:
_أين خاتم الخطبة يا مُهاب؟.
فنظر مُهاب نحو يده وازداد توتره ولكنه قال:
_لا بد أنني نسيته في المنـ..
فسرعان ما اقتضبت وهج حديثه وقالت:
_تقصد فقدته حينما كنت تتخلص من مريم؟!.

جحظت عيني مُهاب وقال بدهشة:
_ماذا تقصدين؟.
فصاحت وهج في وجهه وقالت ببكاء:
_لمَ قتلتها؟ ما الحنث العظيم الذي اقترفته هي لكي تتخلص منها بهذه الطريقة؟.

فصاح مُهاب قائلاً:
_هل مريم قُتلت؟.
فتنهدت وهج بخيبة أمل وقالت:
_هل تظن أن هناك مجال لكي تنكر ذلك؟.
فقال مُهاب بعدما تملك الغضب منه:
_أقسم لكِ أنني لا أفهم عن ماذا تتحدثين، أنا لم ألتقي بمريم سوى في حفل خطبتنا!.

فصاحت وهج في وجهه وقالت:
_أجل حينما هددتها بالقتل إن لم تبتعد عنك.
امتعض مُهاب وقال بغضب:
_وهج لا بد وأنكِ تمزحين، أنا لم أفعل ذلك، لقد قطعت لكِ عهداً.

فقهقهت وهج بسخرية وقالت بنبرة باكية:
_لقد نكلت ذلك العهد يا مُهاب..
صمتت وهج لبرهة ثم ابتعدت عنه بضع خطوات وأردفت بقولها:
_ترى في أي شيء آخر كذبت عليّ أيضاً يا مُهاب؟.

تعالت شهقات وهج وقالت بعدما نظرت نحوه:
_إذاً حبك لي كان كذبة! أنت لم تحبني يا مُهاب لم تفعل قط!.
فسرعان ما اقترب منها مُهاب وأمسك بيديها قائلاً:
_وهج أقسم لكِ أنني لم أفعل ذلك، أقسم لكِ.

نظرت وهج في عينيه وقالت بعدما ازداد نحيبها:
_لا أصدقك.
جذبت وهج يديها من بين أصابع مُهاب ثم أردفت بقولها:
_لقد قُتِلَت بالطريقة ذاتها التي كنت تقتل بها من قبل، لمَ فعلت ذلك يا مُهاب؟ جعلتني أفقد الثقة بك.

صُعق مُهاب من شدة وقع كلماتها على آذانه فاقترب منها ونهرها بقوة بعدما أمسك بساعديها وصاح في وجهها وقال:
_لمَ عساي أن أكذب عليكِ؟ لقد أخبرتكِ أنني لم أفعل، ما الذي دهاكِ يا وهج؟.

تبسمت وهج بسخرية وقالت بنبرة حادة:
_هل تعلم ما الذي أراه فيك الآن؟ أرى قاتل، عينيك حادتين للحد الذي يُشعرني بالخوف يا مُهاب كما لم يحدث من قبل، لم أهابك هكذا حينما أخبرتني بحقيقتك، لكن الآن تغير كل شيء، لم أعد أرى فيك موطني وأمني وأماني، أنت لم تعد كذلك.

أسدل مُهاب يديه عن ساعدي وهج وقال بقلة حيلة:
_أنتِ لا تثقين بي يا وهج؟!.
فقالت وهج ببكاء:
_وكيف عساي أن أفعل وكل شيء يخبرني أنك أنت من قتلها؟!.

صمت مُهاب لبرهة ثم قال بنبرة لاهثة:
_هل تذكري رواية "قواعد جارتين"؟.
فضمت وهج حاجبيها وقالت:
_أجل لمَ؟!.
تنهد مُهاب ثم قال بحزن:
_إذاً تتذكرين ما حدث عندما كان البطل يتوسل إلى البطلة ويخبرها أنه لم يفعل تلك الجريمة الموجهة إليه أليس كذلك؟.

صمت مُهاب لبرهة ثم قال بتذكر:
_لقد كان مظلوماً يا وهج، البطلة أساءت الظن به وصارت تعض على أناملها ندماً.
فنظرت إليه وهج وقالت:
_لكنها قتلته في النهاية، لأنه لم يبرهن لها برائته.

همّت وهج بالرحيل فأمسك مُهاب بيدها قائلاً:
_وهج أرجوكِ لا تتركيني، أنا فقط أريد فرصة واحدة مثلما كان يريد البطل، ألا يمكنكِ فعل ذلك من أجل حبنا؟.
زفرت وهج بقوة ثم قالت قبل أن تنظر إلى عينيه:
_لا بد أنك تتذكر ما قالته البطلة قبل أن تشق عنق البطل.

ضم مُهاب حاجبيه قائلاً:
_ماذا؟.
فقالت وهج بينما كانت تنظر إلى عينيه:
_لقد قالت من يخون مرة يخون كل مرة ثم شقت عنقه وانهت حياته.
فسرعان ما قال مُهاب:
_فلتقتلينني إذاً.

قهقهت وهج وقالت بسخرية:
_لكنني لست قاتلة..
اقتضبت وهج حديثها ثم أردفت قائلةً:
_مثلك.
جحظت عيني مُهاب وأفلت يدها بينما كان ينظر إليها بعينين دامعتين.

أنارت السماء بالبرق ودوى صوت الرعد في أذني وهج ثم تساقطت الأمطار بغزارة، نظرت وهج نحو السماء ثم أخذت وهج شهيقاً عميقاً ثم زفرته بقوة كما لم تفعل من قبل ونزعت خاتم الخطبة من إصبعها ثم وضعته في يد مُهاب وقالت:
_لقد انتهى كل شيء، وأنت خاطر بعلاقتنا وجعلها على المحك.

ابتعدت وهج عن مُهاب بينما كانت دموعها تنهمر باستمرار.
لقد كانت تود لو تعود أدراجها كي يضمها إلى صدره ولكن من المستحيل حدوث ذلك.
كانت تشعر بالألم كلما صاح منادياً إسمها ولكنها حرصت على أن لا تلتفت إليه.

توقفت وهج فجأة حينما سمعت مشاجرة خلفها فسرعان ما التفتت وفوجئت حينما وجدت الشرطة تملأ هذه المنطقة وقد ألقوا القبض على مُهاب!.
لم يكترث مُهاب للضباط الذين انقضوا عليه، كان فقط ينظر نحو وهج بتوسل وكأنه يخبرها عبر نظرات عينيه أنه لم يرتكب تلك الجريمة!.

كانت وهج تنظر نحو مُهاب بقلب منفطر، كانت تشعر بأنها مكتوفة الأيدي لا يمكنها فعل شيء!.
انتبهت فجأة حينما وضع أحدهم يده فوق كتفها فسرعان ما التفتت إلى الخلف فوجدت والدها.

نظرت وهج إلى والدها فشهقت بالبكاء دون أن تقول أي شيء، فسرعان ما ضمها والدها إلى صدره وصار يربت فوق رأسها وهو يردد:
_كل شيء سيكون على ما يرام يا عزيزتي، هدّئي من روعكِ يا ابنتي.

رحلت سيارة الشرطة ثم رحلت وهج برفقة والدها.
في الأيام التالية لم تكف القنوات الإخبارية عن ذيع الخبر الذي كان يحتوي على تهنئة الضباط الذين ألقوا القبض على المجرم وقد تم ترقيتهم.

بعد بضعة أيام أخرى تم ذيع خبر عن إرسال المجرم إلى مصحة عقلية لأن أفعاله في السجن كانت توحي بأن قواه العقلية ليست على ما يرام وربما يكون مجنوناً!.

كانت وهج تشاهد كل تلك الأخبار ويزداد معها كمدها وشجنها!.
كان السيد عثمان يبذل قصارى جهده كي يخرجها من ما هي فيه حتى أنه أهمل مؤسسته ولكن كل هذا كان بلا جدوى.

أصبحت وهج تميل للعزلة، تأبى مقابلة أي أحد حتى صديقتها المقربة ورد، لم تُرِد أن يراها أي أحد بينما هي تعاني من الأرق والإنطفاء.
مرت الأيام وكذلك الشهور حتى مر عامين كاملين على هذه الحال!.

في الوقت الحالي

أفاقت وهج من شرودها وهي تشعر بألم في قلبها، نظرت نحو ساعة الحائط فوجدتها قد تجاوزت الثالثة صباحاً بينما لم تكن تتجاوز الثانية عشر حينما استيقظت!.
مررت وهج أصابعها بين خصيلات شعرها وهتفت قائلةً:
_كيف صرت شاردة كل هذا الوقت؟!.

نهضت وهج وتوضأت ثم صلت قيام الليل وتضرعت في الدعاء بأن يخفف عنها آلام قلبها التي ستودي بحياتي يوماً ما.
بعدما انتهت وهج من الصلاة واتجهت نحو فراشها لكي تغفو ثانيةً ولكنها لم تستطع! كانت تشعر بالسوء وكأن شيء ما سيء سيحدث!.

قهقهت وهج بسخرية وهمست تحدّث نفسها قائلة:
_وكأنه يمكن حدوث شيء أسوأ من ما أعانيه!!.

على صعيد أخر تحديداً في المصحة العقلية

اقترب أحد المرضى من فراش مُهاب قائلاً:
_لقد حان وقت العشاء يا صديقي ألن تأتي؟.
كان مُهاب يدير ظهره لذلك الشاب بينما كان ينظر إلى الحائط.
تحسس مُهاب الخيط الذي يحيط برقبته فأخرجه وإذا بخاتم وهج معلق بذلك الخيط.

أمسك مُهاب بالخاتم وقبّله ثم قال:
_سأذهب لأتناول العشاء يا عزيزتي لن أتأخر.
نهض مُهاب وسار برفقة صديقه.
بعدما انتهى مُهاب من العشاء اتجه إلى فراشه ثانيةً وجلس القرفصاء ووجّه وجهه نحو الحائط وصار يتمتم ببعض الكلمات.

في الصباح في منزل وهج حينما استيقظت قررت أن تذهب في نزهة، وبعدما استعدت وهبطت إلى الطابق الأرضي فالتقت بوالدها فقالت:
_صباح الخير يا أبي كيف حالك؟!.
تبسم عثمان وقال:
_صباح الخير يا عزيزتي كيف حالكِ؟.

اصطنعت وهج ابتسامتها وقالت:
_في أفضل حال يا أبي، ماذا عنك؟.
فقال عثمان بعدما نهض واتجه نحوها وقبّل رأسها:
_سأكون بخير ما دمتِ بخير يا عزيزتي، هل أنتِ ذاهبة؟.

تنهدت وهج وقالت:
_أجل، أردت أن أذهب في نزهة، هل تأتي برفقتي؟.
فقال عثمان:
_كم أتمنى ذلك ولكن لدي عمل أعتذر عزيزتي.
فقالت وهج بتفهم:
_لا عليك لا مشكلة، لن أتأخر.

أومأ عثمان برأسه بينما اتجهت وهج نحو باب المنزل، وما إن قامت بفتحه حتى فوجئت بآدم أمامها.
زفرت وهج بقوة وأرادت أن تذهب ولكن آدم اعترض طريقها وقال بابسامة:
_كيف حالكِ؟ سعيد برؤيتكِ يا وهج.

فنظرت وهج نحوه بغضب وقالت:
_وأنا لست كذلك، ابتعد عن طريقي.
فقهقه آدم وقال:
_حسناً.
أفسح آدم الطريق فسرعان ما رحلت وهج.
ظل آدم ينظر نحوها إلى أن اختفت من أمام عينيه.

دلف آدم إلى المنزل والتقى بعثمان قائلاً:
_كيف حالك يا عمي؟ عساك بخير.
فقال عثمان بابتسامة:
_بالطبع سأكون بخير، وهج بدأت تستعيد طاقتها وحيويتها، أنا سعيد للغاية.

فنظر آدم نحو عثمان بخبث وقال:
_لا يزال الحزن متكدساً في عينيها.
فقال عثمان بنبرة حزينة:
_لقد رأيت ذلك، لا أعلم ما الذي عليّ فعله لكي أخلّصها من ذكريات ذاك الذي يدعى مُهاب، لقد جاء اقتحم حياتها ثم رحل سريعاً.

فقال آدم بخبث:
_لا بد أن يقتحم أحدهم حياتها ويُشعرها بحبه وحينها بالتأكيد ستتمكن من نسيان مُهاب.
ضم عثمان حاحبيه وقال بتساؤل:
_ماذا تقصد يا آدم؟ هل تعني أنك ما زلت تحبها؟.

فقال آدم بحزن مصطنع وهو ينظر أرضاً:
_ماذا عساي أن أفعل؟ فهذا قلبي وليس لي عليه سلطان.
فقال عثمان بلهفة:
_هل أنت جاديا بني؟ فابنتي لن تتحمل جُرح آخر.

فقال آدم باللهفة ذاتها:
_لن أخذلها يا عمي أقسم أنني لن أفعل.
تبسم عثمان وقال:
_لقد مر الكثير من الوقت، عليك فعل أي شيء.
فاتسعت ابتسامة آدم:
_أمرك سيدي، سأفعل كل ما بوسعي.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي