قرين ميّت البارت الرابع

"قرين ميّت" "البارت الرابع"

بعض الأشخاص يظنون أن هناك فئتين من البشر، الفئة الأولى هم الذين يتمتعون بقدر كافي من الذكاء يحبون بقدر محدود حتى إذا رحل أحبائهم لا يتأثرون، أما الفئة الأخرى وهي الأكثر شيوعاً، هم الذين إذا وقع أحدهم في الحب صار ضعيفاً، هشاً، حتى إذا هبّت الرياح طرحته أرضاً، لأنه يجعل حياته بأكملها مرهونة بذلك الحبيب الذي إن رحل رحل معه كل شيء وقد كانت وهج من هذه الفئة الأخيرة.

ظل الحال على ما هو عليه حتى مر أكثر من ثلاثة أشهر، تخرج وهج من المنزل دون أن يدري أحد وتلتقي بمُهاب ولكنها لم تكن على دراية بتلك الأعين التي كانت تراقبها عن بُعد.
ذات يوم استيقظت وهج على صوت طرقات خفيفة على باب غرفتها، فاعتدلت في جلستها وقالت:
_تفضلي.

كانت تظنها الخادمة ولكنها هلعت حينما رأت آدم يقف أمامها باسم الثغر.
انتفضت وهج من الفراش وقالت بنبرة غاضبة:
_هل جننت؟ ما الذي تفعله هنا في غرفتي؟.
قهقه آدم بسخرية وقال:
_ما الأمر؟ ألا يمكنني أن آتِ إلى غرفتكِ؟.

فصاحت وهج في وجهه وقالت:
_بالطبع لا، سأخبر والدي لكي يردعك من المجيء إلى المنزل ثانيةً.
تعالت قهقهات آدم واقترب منها حتى صار أمامها مباشرةً، اقترب منها وهمس في أذنها قائلاً:
_سيأتي اليوم الذي لن تتمكني فيه من ردعي، سأتمكن من دخول غرفتكِ ولن تجرؤي على التفوه بكلمة واحدة.

ضمت وهج حاجبيها وقالت بغضب:
_ماذا تقصد؟.
فقال آدم بنبرة هادئة أثارت غضب وهج:
_سنتزوج يا عزيزتي.
ضغطت وهج على نواجزها بقوة ولكنها تبسمت وقالت:
_الطموح شيء جميل للحد الذي يجعلك تفقد النطق من شدة صدمتك فيما بعد، اغرب عن وجهي.

امتعض آدم ولكن قال:
_سأذهب الآن ولكنني سآتي مرة أخرى، أعدكِ يا وهج بأنكِ لن تكوني زوجة لرجل سواي.
صاحت وهج في وجهه مرة أخرى بغضب وقالت:
_هل تظن أن والدي سيقبل بك زوجًا لي؟.

تبسم آدم وقال:
_سيفعل، اقسم لكِ أنه سيفعل.
دب الرعب في قلب وهج وقالت بنبرة وجلة:
_ما الذي يجعلك تتحدث بهذه الثقة؟.

تنهد آدم وقال بعد أن زحف نظره نحو هاتف وهج الذي أضاءت شاشته بمكالمة واردة ولكنه كان على وضع الصامت:
_لأن والدكِ رُد إلى أرذل العمر كما تعلمين، ولن يجد شخصاً أحق بكِ مني، ليس أمامه خيار آخر، سأجعله يعلم جيداً أنني قادراً على حمايتكِ وسأفعل ذلك على أكمل وجه.

زفرت وهج بقوة وقالت:
_أخرج من غرفتي، وإن دلفت إليها تارة أخرى لن أدعك تخرج منها على قدميك.
جحظت عيني آدم ولكنه خرج من الغرفة دون أن يتفوه بكلمة واحدة.
هرعت وهج نحو باب الغرفة وأوصدته من الداخل ثم التقطت هاتفها وقامت بالإتصال بمُهاب.

انتظرت قليلاً حتى أجاب مُهاب على الهاتف قائلاً:
_ما الأمر؟ لقد هاتفتكِ كثيراً لمَ لمْ تجيبي؟.
أرادت وهج أن تقص عليه ما حدث ولكنها قالت بنبرة جامدة:
_أريد أن نلتقي، الآن.

فقال مُهاب بتساؤل:
_ما الأمر؟ هل كل شيء على ما يرام؟
تنهدت وهج ثم قالت:
_هل بإمكاننا أن نلتقي الآن؟
فسرعان ما قال مُهاب:
_أجل، أنا بالقرب من منزلكِ، سأنتظركِ.

أنهت وهج المكالمة وهبطت إلى الطابق الأرضي بعد ما يقارب إلى خمسة وعشرون دقيقة، وخرجت من المنزل كما في المرات السابقة.
التقت وهج بمُهاب واستقلت السيارة دون أن تلقي عليه التحية حتى.

استقل مُهاب السيارة أيضاً وقال بتعجب:
_ما الأمر؟ ما الذي حدث؟ هل أنتِ بخير؟.
فنظرت وهج نحو النافذة وقالت:
_اذهب من هنا أولاً، سأخبرك بكل شيء حينما نصل إلى الحديقة التي نتردد عليها عادةً.
أومأ مُهاب برأسه ثم أدار محرك السيارة.

عندما وصلا إلى المكان المعتاد وترجلا من السيارة، كانت وهج لا تزال صامته وهذا ما أثار فضول مُهاب الذي قال بتساؤل:
_ها نحن ذا، أخبريني ما الأمر.

تنهدت وهج ثم نظرت إلى عينيه بعينين مغرورقتين وقالت:
_مُهاب أريد أن أخبرك بشيء ما، أعلم أن ما سأقوله غير منطقي، لا أعلم كيف حدث ذلك ولكنني أحبـ..

فسرعان ما اقتضب مُهاب حديثها ووضع يده فوق فاهها وقال:
_أعلم ما تودين قوله ولكنني أريد أن أخبركِ بشيء هام للغاية.
ضمت وهج حاجبيها بتعجب وأبعدت يده عن فمها وقالت:
_ما الأمر؟.

تنهد مُهاب بكمد وقال بنبرة تكاد تمزق نياط القلب:
_أنا لم أكن كما تريني الآن.
فقالت وهج بعدم فهم:
_ماذا تقصد؟.

أمسك مُهاب بيد وهج وقبلها قائلاً:
_لم أكن أعرف شيء يسمى لين القلب علمت به فقط حينما التقيتكِ، ولكن هذا لا يعني أنني ملاك يا وهج.
سرت قشعريرة في جسد وهج، فقد أحست بمزيج من السعادة والخوف، جذبت يدها من بين أصابعه وقالت:
_ما زلت لا أفهم!.

تبسم مُهاب وقال:
_لقد ارتكبت جرائم كثيرة يا وهج، كان لدي أسلوبي الخاص في قتل تلك الضحايا، كنت كلما قتلت أحدهم حفرت كلمة ما فوق جزء ما في جسده، كنت صلباً للحد الذي يُشعركِ بأن الرفق لن يعرف لي طريق، ولكن كل ذلك تغير بمجرد رؤيتي لكِ.

صمت مُهاب لكي تتفوه وهج بأي كلمة ولكنها لم تفعل، فأردف قائلاً:
_أعلم كم صعب عليكِ سماع ذلك، ولكن؛ هل لي بفرصة واحدة أخرى؟ أعلم أن بعض الأخطاء تتخطى حدود الغفران وتلك تحديداً التي ارتكبتها ولكن لا حيلة لي بقدري!.

نظرت إليه وهج بعينين مغرورقتين وقالت قبل أن تنهمر دموعها:
_القدر يتغير إن أراد المرء ذلك، ولكن إن لم يفعل سيورد مورد الهلاك لا محال.
فسرعان ما قال مُهاب بنبرة لاهثة:
_سأُهلك فقط إن ابتعدتي عني، أريد أن أنال فرصة واحدة وسأبرهن لكِ مدى صدقي، فقط أريد فرصة واحدة.

أمسكت وهج بيدي مُهاب وقالت بعد أن لاح شبح ابتسامة على وجنتيها:
_بالطبع سأعطيك فرصة يا مُهاب، فقط عدني بأنك لن تفعل ذلك ثانيةً، من اليوم ستكون شخصاً أخر، لا يمكننا التخلص من الماضي ولكن ما زال لدينا الحاضر والمستقبل وهذا ما علينا الإهتمام به.

أومأ مُهاب برأسه بسعادة وقال:
_سأكون عند حسن ظنكِ بي يا وهج.
فقالت وهج بعدما اتسعت ابتسامتها:
_فقط عدني بذلك لكي يطمئن قلبي.
تبسم مُهاب وقال بعدما قبّل يديها:
_أعدكِ يا وهج بأنني سأكون عند حسن ظنكِ بي.

تبسمت وهج بسعادة ولكن تلاشت تلك الإبتسامة فجأة قبل أن تجحظ عينيها، فقال مُهاب بتساؤل:
_ماذا بكِ؟.
نظرت إليه وهج وقالت وهي في حيرة من أمرها:
_ماذا عن أبي؟ فهو لا بد أن يعرف عنك كل شيء! ماذا سنفعل؟.

فربت مُهاب فوق كتفها وقال بنبرة هادئة لكي يبعث الطمأنينة في قلبها:
_سأتولى ذلك الأمر.
فقالت وهج بتساؤل:
_ماذا ستفعل؟.

فقال مُهاب بنبرة جادة:
_سألتحق بوظيفة جديدة في مؤسسة ما، وفي غضون شهرين ستُعلن خطبتنا.
تسارعت أنفاس وهج وقالت بهلع:
_آدم لن يدعني وشأني في ذلك الوقت.
ضم مُهاب حاجبيه وقال بنبرة غاضبة:
_آدم؟ من يكون؟!.

فقالت وهج دون أن تنظر إليه:
_إنه أحد أقربائي، لقد قطع عهداً وأخبرني بأنني لن أكون لرجل سواه.
زفر مُهاب بقوة وقال:
_سأتولى أمره لا داعي للقلق فقط اهدئي، هيا بنا سأوصلكِ إلى المنزل.

حينما توقف مُهاب بسيارته بالقرب من المنزل، ترجلت وهج منها وكادت أن تذهب لولا أنا صاح مُهاب منادياً إياها فعادت مرة أخرى وقالت بتساؤل:
_ما الأمر يا مُهاب؟.
تبسم مُهاب وقال بنبرة يملؤها الهيام:
_أحبكِ يا وهج، أقسم لكِ أننا لن نفترق أبد الدهر.

احمرت وجنتي وهج من الخجل وشعرت بأن المدينة بأكملها لا تسع أجنحتها، حتى أنها لم تتمكن من قول شيء، فقط أشارت إليه وداعاً ثم اتجهت نحو المنزل.
اقتربت وهج من النافذة التي تخرج من خلالها دوماً واعتلت عليا ثم قفزت إلى الداخل.

كانت باسمة الثغر، ودّت لو أنها كانت صعدت إلى سيارة مُهاب وحثّته على الذهاب بعيداً، بعيداً عن كل شيء ويذهبا إلى مكان ما حيث لن يتواجد أحد سواهما.

كانت الأضواء مغلقة على غير العادة! وهذا ما أثار تعجب وهج ولكنها لم تلقِ بالاً لذلك وكادت أن تتجه نحو المقبس لكي تضيء الغرفة ولكنها فوجئت بأحد الرجال الذين يقومون بحماية المنزل أضاءه.

صعقت وهج حينما وجدت والدها جالساً أمامها في الغرفة وبرفقته آدم وبعض من هؤلاء الرجال.
تعالت اضطرابات فؤاد وهج وقالت بتلعثم من هول المفاجأة:
_أبي أنا، لقد كنت..

فاقتضب والدها السيد عثمان حديثها ونهض فجأة ثم اتجه نحوها وصاح بنبرة غاضبة قائلاً:
_لا أحد في هذه الغرفة ينال قسطاً من الراحة، يظل الجميع عاكفين العمل على حمايتكِ وتأمين المنزل لكي لا يصيبكِ أي أذى وأنتِ تتغاضين عن كل هذا وتتسللين إلى الخارج؟ حقاً يا وهج؟!.

كانت هناك ابتسامة نصر بادية أعلى شفتي آدم الذي إقترب من عمه السيد عثمان وهمس إليه قائلاً:
_لمَ لا تسألها أين ذهبت يا عمي؟.
جحظت عيني وهج وتسارعت أنفاسها وشعرت أنها في مأزق لا محيص منه.

انتبهت وهج من شرودها حينما صاح والدها قائلاً:
_هيا أخبريني أين ذهبتِ؟.
فقالت وهج بنبرة وجلة:
_لقد سئمت المكوث في المنزل طوال الوقت، فخرجت لكي لا أصاب بالجنون.

فقال والدها بسخرية:
_جيد، لكي لا تصابي بالجنون!، وماذا كنت سأفعل إن أصبتِ في الخارج برصاصة تخترق جوفكِ؟ أو تستقر بداخل جسدك؟.
فقالت وهج بِلوْم:
_أبي!. ها أنا أقف أمامك لا يعتريني خلل لا تقلق.

فاقترب والدها منها وقال بنبرة حادة:
_لن أسمح أبداً بأن يصيبكِ أي أذى، أريد أن أكون مطمئناً عليكِ.
كادت وهج أن تتحدث لولا أن تابع والدها حديثه وقال:
_ستتزوجين من آدم، حينها فقط سأكون مطمئناً عليكِ..

فسرعان ما اقتضبت وهج حديثه وصاحت قائلةً وهي تستشيط غضباً:
_مستحيل، لن أتزوج منه مهما حدث، أنا لا أحبه، لا أشعر بالأمان برفقته..

اقتضبت وهج حديثها حينما ارتطمت يد والدها بوجهها، فقد وجّه لها صفعة قوية أفقدتها النطق، صاح والدها قائلاً وهو يشير بإصبعه السبابة نحوها:
_أنا لا أعرض عليكِ الزواج منه، بل أخبركِ بذلك لأنكِ لا بد أن تكوني على علم بذلك، لقد اتخذت القرار ولن تجرؤي على الرفض أو الهرب.

انهمرت دموع وهج بينما كانت تضع يدها فوق وجنتها وهي تنظر إلى والدها جاحظة العينين.
جمعت وهج رباطة جأشها وقالت بنبرة حانقة:
_لم تكن قاسياً عليّ بهذا القدر من قبل.

هرولت وهج إلى خارج الغرفة دون أن تنتظر رداً من والدها ثم صعدت إلى الطابق الثاني وهرعت نحو غرفتها وأوصدتها من الداخل بإحكام.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي