قرين ميّت البارت الثامن

"قرين ميّت" "البارت الثامن"

كل شيء يظل على ما هو عليه، الأماكن والأشخاص حتى الطبيعة، لكن يظل دائماً هناك شخص محصوراً بين ماضي لا يمكنه تخطيه وبين حاضر لا يمكنه المضي قدماً فيه!.
كيف يمكن تنتهي آمال وأحلام أحدهم لمجرد سقمه وحزنه الدائم على رحيل شخص ما!.

كيف يتمكن المرء من ارتكاب ذلك الحنث العظيم؟، دنيا زائلة وأشخاص راحلون لا محالة إذاً لمَ الكمد!.
صدق أو لا تصدق، لكن الإنسان يسعى دائماً خلف المتاعب، إن لم تكن على أرض الواقع فهي في ذهنه وهذه الأشد ألماً.

توقفت سيارة وهج عند ذات البقعة التي التقت بمُهاب عندها أخر مرة.
ترجلت وهج من السيارة، زحف نظرها في جميع الإتجاهات، في المرة السابقة لم تتمكن من إمعان النظر في المكان بسبب الظلام، لكن هذه اليوم تمكنت من رؤيته بوضوح لأنها أتت في وضح النهار.

تذكرت وهج ما حدث وكأنه كان بالأمس وليس منذ عامين!، تذكرت توسل مُهاب إليه وقسمه على أنه لم يفعل شيء ولم ينكل بعهده!، لكنها لم تصدقه! على الأرجح هي لا تصدقه حتى يومها هذا! على الرغم من أن هناك شيء بداخلها يخبرها أنه صادق.

جثت وهج على ركبتيها بعدما خارت قواها، ازداد نحيبها، كانت تذرف دموعها من أعمق أعماق قلبها، فهي لم تفعل ذلك طوال عامين!، وقد سنحت لها الفرصة وأخيراً.

...

في المصحة العقلية
كان مُهاب كعادته جالساً ينظر نحو الحائط ويتمتم ببعض الكلمات بصوت خافت.
اقترب منه صديقه وجلس بجانبه قائلاً:
_بماذا تتمتم؟ لا بُد أنك تدعو الله لكي يخلصك من ما أنت فيه.

توقف مُهاب عن التمتمة ولاح شبح ابتيامة بجانب شفتيه، فنظر نحو صديقه وقال بنبرة خافتة ولكنها مسموعة:
_شيء كهذا.
صمت مُهاب لبرهة ثم أردف قائلاً بتساؤل:
_لمَ أنت هنا؟ لا يبدو عليك الجنون؟.

فتعالت قهقهات صديقه وقال:
_أنا هنا لأنه لا يبدو عليّ الجنون يا صديقي.
همّ ذلك الشاب بالنهوض فأمسك مُهاب بيده وقال:
_أنا آسف يا صديقي.
ضم الشاب حاجبيه وقال بتعجب:
_على ماذا؟.

تبسم مُهاب، ولم يمر سوى بضعة ثوانٍ حتى دوى انفجار في المصحة بالكامل!.
سرعان ما تصاعدت الأدخنة من المصحة حتى تجمعت الصحافة والشرطة والإسعاف أمام المصحة على أمل ينقذوا أحد المرضى أو العاملين! ولكن جميعهم صاروا قطع لحم متفحمة!.

...

في منزل السيد عثمان
بعدما تناول الغداء برفقة آدم اتجهوا إلى غرفة الإستراحة وجلسوا سويا يتبادلون أطراف الحديث بينما يحتسون الشاي.
نظر عثمان نحو التلفاز ثم صاح منادياً إحدى الخادمات قائلاً:
_إطفئي هذا التلفاز إنه مزعج للغاية.

وما إن اتجهت الخادمة نحو التلفاز وأمسكت بجهاز التحكم لكي تطفئه حتى تم ذيع خبر عاجل، فسرعان ما قال عثمان:
_تمهلي قليلاً.
انتظرت الخادمة بينما ظل عثمان وآدم يراقبان الخبر بعينين جاحظتين!.

كانت المذيعة تذيع الخبر وخلفها المصحة بعدما صارت أنقاداً تذروها الرياح قائلة:
_دوى انفجار مفاجيء في المصحة العقلية ولم يُستدل على سبب هذا الإنفجار حتى الآن، كما لم يُستدل على أي هوية من هويات من كانوا بداخل المصحة، وصارت الآن كما ترون في خبر كان.

صاح عثمان في الخادمة وقال بغضب:
_أطفئي ذلك التلفاز بسرعة.
ضم آدم حاجبيه وقال متعجباً من أمر عمه:
_ما الأمر يا عمي؟ لمَ أنت غاضب هكذا؟.
فقال عثمان بنبرة غاضبة:
_أخشى أن ترى وهج هذا الخبر، ستنتكس لا محالة.

ازدادت حيرة آدم الءي قال بعدم فهم:
_وما علاقة وهج بتلك المصحة يا عمي؟.
فقال عثمان بنفاذ صبر:
_تلك المصحة كان مُهاب بداخلها، ولا بُد أنه صار أشلاء الآن، لا أريد أن تُصعق وهج من هول ما حدث له.
فقال آدم بنبرة يملؤها الذعر:
_يؤسفني أن أخبرك يا عمي أن وهج تقف خلفنا مباشرةً!.

جحظت عيني عثمان وسرعان ما التفت ألى الخلف وبالفعل رأى وهج تحدق في التلفاز عن بُعد، وما إن وقع نظرها على والدها حتى سقطت مفاتِح السيارة من يدها ثم هرعت لأعلى واتجهت نحو غرفتها وأوصدت الباب من الداخل.

كانت وهج تحدق في الفراغ، لم تسعفها الدموع في تلك الآونة، وكأن العالم بأسره توقف، تأبى تصديق ذلك النعي، كيف لمُهاب أن يرحل عن العالم بهذه الطريقة.
ظلت تفكر إلى أن غفيت دون أن تشعر.

كانت وهج في مكان يسوده الظلام، ليس به سوى ضوء خافت، نظرت وهج نحو ذلك الضوء ثم اتجهت نحوه بخطوات دئوبة ففوجئت بمُهاب يجلس أرضاً وأمامه بعض الأخشاب وقد أشعل فيها النار مؤخراً.

جلست وهج بجانبه وقالت ببكاء:
_مُهاب! حمداً لله أنك بخير، لقد رأيت الأخبار عبر التلفاز، يقولون أنك قضيت نحبك، ولكنني لم أصدق ذلك، وها أنت ذا في أفضل حال.
تبسم مُهاب وقال دون أن ينظر نحوها:
_لقد أخبرتكِ يا وهج أنني لن أترككِ الدهر، أنا لا أنكل بعهودي أبداً، ولن يوقفني شيء حتى الموت لم يفعل.

معنت وهج النظر نحو مُهاب وقالت:
_لمَلا تنظر نحوي؟ هل أنت غاضي لما حدث في أخر لقاء لنا؟.
فقال مُهاب وهو ينظر أمامه ولم يلتفت إليها:
_أخشى عليكِ من صعوبة المنظر.

ضمت وهج حاجبيها وقالت بتساؤل:
_ماذا تعني؟.
فقال مُهاب بنبرة هادئة:
_لقد تركت لكِ شيء في المصحة، ابحثي عنه يا وهج.
ازادت حيرة وهج وقالت:
_أنا لا أفهم! عن ماذا تتحدث وما هو ذلك الشيء؟.

تنهد مُهاب وقال:
_ستعرفين ذلك الشيء حالما ترينه يا وهج.
أطالت وهج النظر نحوه وقالت:
_مُهاب، لقد اشتقت إليك كثيراً، لقد مر عامان! لقد نفذ صبري، لا أريد شيء سواك من هذه الدنيا، فقط دعنا نرحل سوياً، أرجوك لا تتركني.

تبسم مُهاب وقال:
_هل عليّ أن أذكركِ ثانيةً؟! لقد قطعت عهداً عليّ بأن لا أترككِ أبداً.
أخرجت وهج تنهيدة قوية وكأنها كانت تحمل معها عناء عامين كاملين.
اقتربت وهج من مُهاب وأمسكت بأسفل وجهه وجعلته ينظر إليها.

صُعقت وهج وانتفض جسدها حينما رأت نصف وجه مُهاب الأخر وقد تجلت جلوده عن العظام!.
انعقد لسان وهج وتراجعت إلى الخلف بفزع وقالت بهلع:
_مُهاب!!.

استيقظت وهج من نومها بفزع وهي تصيح بهلع من هول ما رأت.
حاولت وهج أن تُهدّيء من روعها ثم صارت تتذكر المنام بكل ما رأت فيه، إلى أن تذكرت ما قاله مُهاب بشأن الشيء الذي تركه لها في المصحة.

عزمت وهج الأمر على أن تذهب إلى المصحة، وبالفعل تسللت من المنزل خفية دون أن يراها أحد، وما إن صعدت إلى السيارة حتى نظرت في ساعة يدها فوجدتها لم تتجاوز السابعة والنصف.

قادت وهج السيارة ذهاباً إلى المصحة وما إن توقفت بالسيارة أمامها حتى فوجئت بمشهد أشد سوءًا مما شاهدته عبر التلفاز.
كانت البناية شديدة السواد من أثر الحريق، كان الدخان لا يزال في الأجواء في تلك البقعة.

ترجلت وهج من السيارة وسارت باتجاه المصحة وبحوذتها مصباح كهربائي.
كانت أطرافها ترتجف بقوة ولكنها اتخذت قرار ولن ترحل إلا حينما تحصل على ذلك الشيء.
توقفت وهج أمام المصحة مباشرةً، كانت خائفة وعلى الرغم من ذلك كانت تشعر بأن المكان آمن فقط لمجرد أن مُهاب كان يمكث فيه.

قبل أن تطأ قدم وهج إلى الداخل صاح أحدهم منادياً بقوله:
_من هناك؟.
اتعدت وهج وصارت تصيح بفزع بعدما التفتت إلى الخلف ورأت رجل يقف على بُعد بضعة أمتار منها.

التقطت وهج المصاح بعدما وقع من يدها ثم قامت بتشغيله ووجهّته نحو ذلك الرجل وقالت بنبرة يملؤها الفزع:
_من أنت؟.
فقال الرجل بلا مبالاه:
_أنا أعمل حارس هنا، ما الذي تفعلينه هنا؟!.

كانت وهج على وشك أن تخبره بأمر المنام وأنها أتت للبحث عن شيء مجهول الذي من الوارد جداً أن يكون أضغاث أحلام!.
تنهدت وهج وقالت:
_أحد أقربائي كان هنا في هذه المصحة.
فقال الرجل بسخرية بينما كان يقترب منها:
_وهل تظنين أنكِ ستجدينه في انتظاركِ؟!.

فقالت وهج بالسخرية ذاتها:
_ليس من شأنك.
همّت وهج بالدخول فأمسك بها الرجل وقال:
_ممنوع منعاً باتاً تواجد أحد سواي هنا؟.
صمت الرجل لبرهة بينما كان يتلفت بزعر هنا وهناك حول المصحة وقال:
_لا يمكنكِ التواجد هنا.

ضمت وهج حاجبيها وقالت:
_لمَ تتلفت هكذا؟!.
فقال الحارس بنبرة مرتعدة:
_بعدما رحل جميع الصحفيين والشرطة وكذلك سيارات الإسعاف وتسلمت عملي هنا، صرت أسمع أصوات استغاثة وصياح.

سرت قشعريرة في جسد وهج ولكنها تذكرت ما قاله مُهاب في المنام، فتنهدت وقالت:
_دعني وشأني، سأعطيك كل ما تريد من نقود فقط اسمح لي بالدخول إلى المصحة.
ظل الحارس ممسكاً بيد وهج فظن أنها تكذب.

تمكنت وهج من فهم ما تعنيه نظرات الشك في عيني الحارس، فأخرجت حفنة من النقود ووضعتهم في يد الحارس وقالت:
_هل تلك النقود تكفي لتتركني؟.
لمعت عيني الحارس وقال وهو يعد النقود:
_بالطبع تكفي.

تبسمت وهج بخبث وقالت:
_اترك يدي إذاً.
ترك الحارس يد وهج قائلاً بينما كان ينظر نحو النقود:
_يمكنكِ الذهاب، توخي الحذر يا سيدتي.
أومأت وهج برأسها ثم سارت إلى داخل المصحة.

قام الحارس بالإتصال بزوجته وانتظر إلى أن أجابت مكالمته قائلة:
_كيف حالك يا عزيزي؟ هل أنت بخير؟ ماذا عن العمل الجديد؟ ليس مجهد أليس كذلك؟.
تبسم الحارس وقال:
_عزيزتي سأظل بخير ما دمتِ أنتِ بخير، لا تقلقي كل شيء على ما يرام.

تنهدت زوجة الحارس وقال بنبرة وجلة:
_هل أنت جاد؟ فأنا قلقة جداً بشأن تلك المصحة، لا بُد أن أرواح كل من كانوا بداخلها تحوم حولها.
انتفض جيد الحارس ولكنه لم يفصح لزوجته عن ذلك وقال:
_هل تصدقين تلك الترهات؟ إنها فقط قصص اختلقها الناس لإخافة أطفالهم.

قهقهت زوجته وقالت:
_هل تظنني لا أعلم أنك تتوجس خيفة الآن؟ فقط اقرأ الأذكار ولن يحدث شيء إن شاء الله.
اتسعت ابتسامة الحارس وقال:
_كل ما أتمناه الآن ألا أفقد قلقكِ بشأني ونصائحكِ لي، أحبكِ جداً.

تبسمت زوجته وقالت بخجل:
_وأنا أيضاً أحبك يا عزيزي، انتبه لعملك، ليس هناك داعي لتلك الرومانسية فستأتي بعد بضعة ساعات وسنبقى سوياً.
تنهد الحارس وقال:
_كم آمل أن آتيكِ الآن، على كل حال سأنهي المكالمة الآن، أراكِ قريباً..

كاد الحاس أن ينهي المكالمة لولا أن صاح قائلاً:
_صحيح نسيت أن أخبركِ.
فسرعان ما قالت زوجته:
_ما الأمر؟.
قال الحارس وهو ينظر إلى النقود:
_لقد رُزقت قبل قليل بألفي جنيه وصنف، كدنا نكمل ثمن عملية ابنتها.

فقالت زوجته ببكاء:
_هل أنت جاد؟ كيف حدث ذلك؟.
فقال الحارس بسعادة:
_حينما أعود إلى البيت سأخبركِ بكل شيء، لا أريد أن يتم طردي من هذه المهنة فقد هرمت من أجل إيجاد عمل.

فقالت زوجته بسعادة:
_سأنتظر على أحر من الجمر يا عزيزي، انتبه إلى نفسك، كن حذراً.
فقال الحارس:
_سأفعل، أعدكِ، إلى اللقاء.

أنهى الحارس المكالمة وصار يطيل النظر إلى النقود وهو يتخيل أن تستعيد ابنته عافيتها، فترقرقت الدموع في عينيه وقال:
_أتمنى يتم الله شفاء ابنتي عاجلاً غير آجلاً، اللهم أمين.

كاد الحارس أن يغفو لولا أن سمع صياح وهج وهي تطلب النجدة!.
نهض الحارس فجأة وظن أن ذلك الصوت كبقية الأصوات التي كان يسمعها منذ ساعات، ولكنه تذكر وهج فقال:
_يا إلهي!.

هرع الحارس نحو مدخل المصحة بعدما التقط مصباحه الكهربي.
دلف الحارس إلى المصحة وهو يصيح منادياً بقوله:
_سيدتي؟ أين أنتِ؟ أيتها الآنسة ما الذي حدث؟.

كان يتلفت يميناً ويساراً بحثاً عن وهج ولكنه لم يجدها أو حتى أثر لها، لدرجة أنها ظن أنها لم تأتي قط؟.
فوصع يده في جيبه لكي يتحسس النقود فوجدهم!، حينها تأكد أنها هنا بالفعل.

زفر الحارس بقوة وقال بنبرة غاضبة:
_تُرى أين ذهبت تلك السيدة؟.
كاد الحارس أن يتقدم بضع خطوات لولا أن سمع صوت أقدام تسير من خلفه!.
جفت الدماء في عروق الحارس وصار يتصبب عرقاً حتى ظن أنه بلل سرواله!.

جمع الحارس رباطة جأشه والتفت إلى الخلف ووجّه مصباحه أيضاً فلم يجد أحد.
تنهد الحارس بسعادة، وما إن نظر إلى الأمام ثانيةً حتى وجد جسد عاري أمامه وقد تجلت جلوده عن عظامه وتفوح منه رائحة الحريق.
تجمدت الدماء في عروق الحارس وسقط صريعاً.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي