قرين ميّت البارت الرابع والعشرون

"قرين ميّت" "البارت الرابع والعشرون"

كثير من الأحيان يتعرض المرء للخذلان من الأقربون، هؤلاء الذين كان لا بد أن يشدوا بأزره، لكن إن أمضى المرء بعض الوقت في التفكير في الأمر سيدرك أن الغرباء لن يتمكنوا من إيذائه لأنهم لا يعلمون نقاط ضعفه، أما الأقربون فيعلمون كيف وأين سيوجهون سهامهم.

أمام المنزل الذي تمكث فيه حور برفقة الأطفال كانت تتوقف سيارة بداخلها النمر برفقة اثنين من رجال السيد رشيد.
تنهد النمر وتذكر ما دار بينه وبين السيد رشيد قبل أن يأتي إلى هنا.

قبل ساعات، كان النمر جالس مهموم يفكر في أطفاله، أفاق من شروده حينما جلس أمامه السيد رشيد قائلاً بتساؤل:
_ماذا بك؟
تنهد النمر وقال بنبرة يكسوها الحزن:
_لقد اشتقت إلى أطفالي..

فاقتضب حديثه السيد رشيد قائلاً بعينين جاحظتين:
_هل اختطفهم الأنصاري أيضاً؟ لمَ لم تخبرني؟
فسرعان ما قال النمر:
_لا، لم يختطفهم الأنصاري، إنها فتاة.

ضم السيد رشيد حاجبيه وقال بتعجب:
_فتاة!!.
أومأ النمر برأسه قائلاً:
_أجل فتاة، لقد آذيتها كثيراً، هي الآن تسعى للإنتقام مني.
فقال السيد رشيد بتساؤل:
_هل تظنها ستؤذيهم؟

أخرج النمر تنهيدة طويلة وقال بقلة حيلة:
_لا أعلم، إنها بالتأكيد غاضبة، لقد فطرت فؤاها، لا بد أنها تشعر بالسوء.
فقال السيد رشيد بنبرة تملؤها الحيرة:
_حسناً فلتقص على مسامعي قصتها.

تنهد النمر وقص كل شيء على مسامع السيد رشيد الذي زفر بقوة قائلاً:
_لا أظنها ستؤذيهم، لا يمكنها فعل ذلك، هي فقد تسعى لأن تجعلك تشعر ماذا يعني الفُقد والألم، واثق من أنها لن تؤيهم.

فقال النمر بسخرية:
_الأنثى حينما تكون غاضبة يمكنها فعل أي شيء، فإن سمحت للنيران الضامرة بداخلها بأن تندلع ستحرق كل شيء حتى وإن أحرقت ذاتها لن تلقي بالاً لذلك.

أومأ السيد رشيد برأسه قائلاً:
_لا تقلق لقد أخبرتك بأنها لن تفعل أي شيء، أنا أعلم كيف تسير هذه الأمور، فلم يشتعل الرأس شيباً عبثا.
تبسم النمر وقال بشرود:
_آمل أن أطمئن عليهم.

ربت السيد رشيد فوق كتف النمر وقال بابتسامة:
_سأطعلك تطمئن عليهم.
فسرعان ما قال النمر بنبرة تملؤها اللهفة:
_حقاً؟ هل يمكنك ذلك؟
قهقه السيد رشيد وقال:
_يبدو أنك لا تعرفني.

نهض السيد رشيد وتحدث إلى أحد رجاله ثم عاد ثانيةً إلى النمر وقال بعدما أشار بسبابته نحو الرجل الذي تحدث إليه قبل قليل:
_هذا الرجل يدعى أدهم، إنه أكفأ رجالي، يفعل كل ما أمليه عليه بحذق، يمكنه فعل كل كا يعجز عنه الأخرون.

أفاق النمر من شروده حينما ربت أدهم فوق كتفه قائلاً:
_هل ستهبط من السيارة؟ أم تريدني أن آتِ لك بالأطفال؟
فسرعان ما قال النمر:
_لا، سأهبط من السيارة، سوف أحضرهم بنفسي.

هبط النمر من السيارة واتجه نحو المنزل، لم يكن بحمل أي نوع من الأسلحة كما حثّه السيد رشيد.
قبل أن يصل النمر إلى باب المنزل فوجيء بمن يوجّه سلاحه نحو عنقه قائلاً بحدة:
_من أنت؟

استدار النمر قائلاً بعدما رفع كلتا يديه باستسلام:
_أنا فقط أريد أن ألتقي بحور، رجاءً.
فقال الرجل الذي يقف بالخلف:
_إنتظر إذاً حتى أخبرها، انتظر هنا.

ذهب الرجل بينما ظل رجلاً آخر أمام النمر يوجه سلاحه صوب وجهه.
بعد قليل عاد الرجل وخلفه حور.
أشارت حول للرجلين بأن يذهبا بينما وققت أمام النمر قائلةً:
_ماذا تريد؟

نظر النمر في عيني حور، لم تكن حور التي يعرفها، فتلك التي تقف أمامه جافة، مجردة من شتى المشاعر التي كانت تكنها له، باردة كما لم تكن من قبل، كانت نظراتها حادة للحد الذي جعله يظن أن بإمكانها أن تبث الرعب في قلبه دون أن تحرّك ساكناً.

أعادت حور سؤالها قائلةً:
_ماذا تريد؟، أيها النمر، هل جئت لكي تتخلص مني؟، أم لكي تستعيد أطفالك؟
تنهد النمر قائلاً:
_حور، أعلم أنكِ تبغضينني، وأعلم أيضاً أن وجهي آخر وجه تتمنين رؤيته على وجه البسيطة.

تبسمت حور بسخرية وقالت:
_لم تخبرني بعد ما الذي تريده!.
أدرك النمر كم التغيير الذي صارت عليه حور فتنهد قائلاً:
_لمَ أخذتِ أطفالي يا حور؟ إن أردتِ الإنتقام يمكنكِ أن تفعلي ذلك الآن إن أردتِ، يمكنكِ أن تقتلينني يا حور إن كان ذلك سيفي بالغرض بالنسبة لكِ.

تعالت قهقهات حور ثم قالت:
_إذاً أنت أتيت إلى هنا لكي تقول هذه الترهات!.
تمالك النمر لكي لا يصيح في وجهها وقال بنبرة هادئة:
_ما الذي يرضيكِ يا حور؟

نظرت إليه خور بعينين حادتين وقالت:
_لا شيء، لكن إذا أردت أن لا أغضب فعليك أن تغرب عن وجهي، فرؤيتك تثير غضبي.
تنهد النمر وقال بنبرة يملؤها الحزن:
_أردت فقط أن أخبركِ بأنني عوقبتِ على ما فعلته بكِ.

رمقته حور بنظرات تملؤها السخرية فأردف قائلاً:
_لقد قُتلت زوجتي، قتلها الأنصاري، لأنني لم أقتلكِ يا حور.
تلاشت ابتسامة حور قبل أن تشهق بفزع قائلةً:
_ماذا!؟

زفر النمر بقوة قائلاً:
_قتلها أمام عيني مباشرةً، لم أتمكن من إنقاذها، لقد ذرفت أنفاسها الأخيرة بين ذراعيّ، ثم قام رجال الأنصاري بإلقائي خارج القصر، على الرغم من أنكِ كنتِ تظنين أن اختطافكِ لأطفالي شيء سيء إلا أنه كان شيء جيد جداً، لقد أنقذتِ حياتهم يا حور.

كانت حور تنظر إليه بعينين جاحظتين مغرورقتين، فقد تذكرت كم كان الأطفال يشتاقون إلى والدتهم!، لا يمكنها أن تخبرهم أن والدتهم قُتلت!؟.
نظرت حور نحو النمر بفزع فسرعان ما قال:
_إن تمكن الأنصاري من إيجادكِ لن يفوّت الفرصة وسيتخلص منكِ أنتِ والأطفال.

صمت النمر لبرهة ثم أردف قائلاً:
_أريدكِ أن تأتي برفقتي.
ضمت حور حاجبيها بتعجب وقالت:
_إلى أين؟
فقال النمر بعدما زفر بقوة:
_إلى مزرعة السيد رشيد.

جحظت عيني حور وقالت:
_لا تخبرني أنه العدو اللدود للأنصاري!!.
فقال النمر بنبرة خافتة من شدة الإعياء:
_بلى إنه هو.
زفرت حور وقالت بينما كانت تشيح بنظرها بعيداً عن النمر:
_سأحمي الأطفال، ليس من أجلك بل من أجلهم ووالدتهم.

تبسم النمر وقال:
_يجب أن تأتي برفقتي لكي تكونين بمكان آمن.
نظرت إليه حور وقالت بسخرية:
_لم تتمكن من حماية زوجتك فكيف ستقوم بحمايتي أنا وأطفالك؟، رجاءً إذهب من حيث أتيت لا أريد أن أراك مجدداً.

طأطأ النمر رأسه قائلاً:
_أنا حقاً آسف، لم يكن علي أن أفعل ذلك بكِ.
رمقته حور بطرف عينها ثم أشاحت بنظرها ثانيةً، فقال النمر قبل أن يذهب:
_كوني حذرة، إنتبهي لأطفالي رجاءً.

قبل أن يصعد النمر إلى السيارة نظر نحو حور قائلاً:
_حور.
التفتت حور نحوه فقال بابتسامة:
_آمل أن تغفري لي ما فعلت، فربما نكون عائلة فيما بعد، أنا وأنتِ والأطفال.

تبسمت حور بسخرية وقالت بعينين حادتين:
_أنت لم تؤذيني أنا فقط، كيف تريد أن نكون عائلة وقد حطمت الكثير من العائلات من قبل؟هل تذكر الطبيبة، لقد قتلتها لأنها ساعدتني، ليس هي فقط وإنما هي ووالدتها، آمل أن تكون مدرك كم العقاب الذي يجب أن يوقع عليك أيها النمر.

نكص النمر رأسه بحزن ثم التفت إليها قائلاً:
_سأقبل بالعقاب الذي أستحقه، آمل أن لا يكون ذلك العقاب بفقداني أحد أطفالي.
ضغطت حور على نواجزها وقالت:
_اذهب، قبل أن يراك أحد الأطفال.
أومأ النمر برأسه ثم صعد إلى السيارة بينما عادت حور إلى المنزل.

...

في منزل مريم، اختبئا وهج والضابط جمال سوياً في غرفة المعيشة خلف الستائر.
تنهد الضابط جمال ثم قام بتشغيل مسجل الصوت على هاتفه.
دلف آدم برفقة أكرم إلى المنزل بينما كان كل منهما ممسكاً بمصباح يدوي.

صارا يوجهان مصابيحهما هنا وهناك، ثم دلفا إلى جميع الغرف والتقا في غرفة المعيشة التي تقبع أمام باب المنزل مباشرةً.
زفر أكرم بقوة وقال بملل:
_ما هذه المزحة يا رجل؟ كيف وافقتك الرأي في المجيء إلى هنا؟ ما الذي سنجده!؟

زفر آدم بقوة وقال:
_أكرم أنت لا تدرك مدى خطورة الأمر، هناك من يعرف بشأن قتلي لمريم وعمي السيد عثمان، أيًّا كان ذلك الدليل القابع هنا فيجب عليّ أن أحصل عليه.

كادت وهج أن تشهق بفزع لولا أن وضع الضابط جمال يده فوق فمها وأشار لها بأن تصمت.
اغرورقت عيني وهج، فقد تعرفت على صوت آدم، فعلى الرغم من أن الظلام يسود المنزل باكمله إلا أنها تمكنت من تمييز صوت آدم!.

فسرعان ما قال أكرم رداً على حديث آدم:
_أنت تنساق وراء ذلك الذي يراسلك مثلما يريد هو، فلتخبرني يا آدم بشيء، إن كان هناك من يعرف بأمر جرائمك ويعلم بوجود دليل لمَ لم يسلمه للشرطة؟ ما الذي يسعى إليه؟

فكر آدم قليلاً ثم قال:
_أنا محق، لكن كان لا بد أن نأتي إلى هنا، فقد كان من الممكن أن نجد دليل أليس كذلك؟
صاح أكرم في وجهه وقال:
_ولم نجد يا عزيزي، هيا دعنا نرحل.

همّ أكرم بالتوجه نحو باب المنزل لكن أمسك به آدم قائلاً:
_إنتظر.
ضم أكرم حاجبيه قائلاً بتساؤل:
_ما الأمر؟
فسرعان ما قال آدم بفزع:
_سحقاً!، لقد فهمت الأمر الآن.

زفر أكرم بنفاذ صبر وقال:
_فلتخبرني إذاً ما الأمر الذي فهمته الآن؟
نظر آدم نحو أكرم بعينين جاحظتين وقال:
_لقد أدركت الآن، ذلك الذي كان يراسلني لم يكن يملك أي دليل، ربما لذلك جعلني آتِ إلى هنا؟!

نظر آدم حوله وقال بفزع:
_لا بد أنه وضع كاميرات في أرجاء المنزل، هيا بنا لنبحث عنها.
اتجه آدم نحو إحدى الغرف بينما اتجه أكرم الستائر، وقبل أن يبعدها صاح به آدم قائلاً بغضب:
_هيا، ما الذي تفعله هناك؟ يجب أن نسرع.

ابتعد أكرم عن الستائر واتجه نحو آدم وصارا يبحثان سوياً.
حينذاك أوقف جمال التسجيل وهمس إلى وهج قائلاً:
_هذه فرصتنا لكي نلوذ بالفرار، دعينا نذهب.

كانت وهج تحدق في الفراغ بينما كانت دموعها تنهمر بشدة، حتى أن جسدها صار يرتعد بقوة من هول ما سمعت قبل قليل.
أفاقت وهج من شرودها حينما جذبها جمال بقوة نحو باب المنزل وخرجا سوياً.

ركضا هما الاثنين نحو السيارة وما إن صعدا بداخلها حتى أدار جمال المحرك مبتعداً عن المنزل.
أثناء الطريق التفت جمال نحو وهج وقال:
_حمداً لله أن سيارتي لم تكن أمام ابمنزل مباشرةً.

لم يتلقى جمال أي رد من وهج، فعلم أنها في حالة صدمة ربما لن تفيق منها سوى بعد الكثير من الوقت الذي لا يعلمه إلا الله.
تنهد جمال وقال بنبرة يكسوها الحزن:
_أعلم كم يكون الأمر شاقاً عليكِ، لكن لا تقلقي سينال آدم العقاب الذي يستحقه.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي