قرين ميّت البارت الواحد والعشرون

"قرين ميّت" "البارت الواحد والعشرون"

يصاب المرء بالفتور أحياناً لفقدانه الشخص الذي كان بمثابة بوصلة يرشده إلى الطريق الصحيح، فإن رحل ذلك الشخص وإلى الأبد من سيأخذ بيده؟

يشعر بالغضب أحياناً، وبالتيه أحياناً كثيرة!، حتى يظن من فرط ذلك أنه يشهد التيه الذي وقع على بني إسرائيل قبل آلاف السنين!، لكنه ليس كذلك هو فقط لا يدري ما عليه فعله، هذا تحديداً ما كانت تجابهه وهج آنذاك.

في منزل السيد عثمان الدميري كان آدم يتلفت حوله من شدة هلعه.
أراد أن يحد من هلعه، بعد ذلك هرع نحو غرفة تكمن بعيداً عن الجميع حتى لا يتسمع أحد إلى حديثه.

أمسك آدم هاتفه بينما كانت يديه ترتجف وقام بالإتصال بصديقه أكرم.
بعد قليل أجاب أكرم المكالمة قائلاً:
_آدم! كيف حالك؟
فسرعان ما قال آدم بنبرة لاهثة:
_لست بخير، هناك شخص ما يعلم بجريمتيّ.

فقال أكرم بهلع:
_ماذا؟ كيف حدث ذلك؟
فقال آدم وهو في حيرة من أمره:
_لا أعلم، أنت لم تخبر أحد أليس كذلك؟
صاح أكرم بغضب ولوم قائلاً:
_هل تشك بي؟

فسرعان ما قال آدم:
_بالطبع لا، أقصد لا بد من أنك لم تخبر أحد، هل من الممكن أن يكون قد رآني أحدهم؟
فقال أكرم بتساؤل:
_فقط أخبرني ما الذي حدث وكيف علمت بأن هناك من يعلم بشأن ما فعلت؟

تنهد آدم وقال بينما كان يتلفت يميناً ويساراً:
_لقد بعث لي أحدهم برسالة مفادها التهديد، قبل أن أتحقق من الأمر تم حظري لذلك سأرسل لك ذلك الرقم لكي تتحقق منه، إلى من يعود وأين موقه.

فقال أكرم بتساؤل:
_متى تريد هذه المعلومات.
فقال آدم بنبرة يملؤها الغضب:
_في الحال، أشعر وكأنني سأبلل سروالي، هيا سأنتظرك.

انتظر آدم كثيراً وكلما مر الوقت كان يزداد توتراً، صار يجوب في الغرفة ذهاباً وإياباً إلى أن أعاد أكرم الإتصال به فسرعان ما أجاب المكالمة قائلا:
_على ماذا حصلت؟ هيا أخبرني.

تنهد أكرم وقال بتردد:
_لا أعلم ماذا عليّ أن أقول..
اقتضب آدم حديثه وقال بنبرة يملؤها الغضب:
_هيا أخبرني لا مجال لمزاحك هذا.
فقال أكرم بجدية:
_أنا لا أمزح، الأمر غريب جداً.

ضم آدم حاجبيه وقال بتعجب:
_عن ماذا تتحدث؟
زفر أكرم بقوة ثم قال:
_الرقم الذي بعثته لي، تعود ملكيته لفتاة تدعى مريم!!.
جحظت عيني آدم وقال بعدم تصديق:
_مريم!، بالتأكيد هذه فتاة أخرى، أين موقع الرقم؟

فقال أكرم بنبرة خافته ممزوجة بشيء من الوجل:
_في منزل السيد عثمان، حيث تكون أنت.
اتسعت حدقتيّ عيني آدم وقال بفزع:
_لا، بالتأكيد أنت مخطيء.
فقال أكرم بنبرة يملؤها الهلع:
_لقد تأكدت من ذلك خمس مرات يا آدم، موقع الرقم في المنزل الذي تمكث فيه الآن.

أنهى آدم المكالمة ثم وضع هاتفه في جيبه وصار يبحث عن ذلك الهاتف، فجأة سمع صوت رنين هاتف فصار يتتبعه إلى أن وصل أمام القبو!.

كان الرنين صادر من داخل القبو!، زفر أدم بقوة وبدأ يتعرق فهو يخشى القبو منذ الصغر، إنه المكان الوحيد والأوحد الذي يلقي الرعب في قلبه ولا يدري لماذا؟!

كاد آدم أن يفتح باب القبو لكنه انتفض حينما قالت إحدى الخادمات:
_سيد آدم هل تبحث عن شيء ما؟
صاح آدم في وجه الخادمة من شدة الفزع وقال:
_لا، أغربي عن وجهي.

اغرورقت عيني الخادمة وكادت ترحل لولا أن هدّأ آدم روعه ثم قال:
_أنا آسف لم أقصد لكنكِ أخفتِني.
تنهدت الخادمة بابتسامة وقالت:
_لا مشكلة يا سيدي.

استمر الهاتف في الرنين فقال آدم بتساؤل موجهاً حديثه إلى الخادمة:
_هل وضع أحدكم هاتف في القبو؟
ضمت الخادمة حاجبيها وقالت بتساؤل:
_لمَ قد نضع هاتف في القبو؟ نحن لا نذهب إليه فكيف سنضع هاتف بداخله؟

دب الرعب في قلب آدم ثم قال:
_هل تسمعي صوت الرنين؟ إنه صادر من الأسفل في القبو!
فقالت الخادمة بحرج:
_أي رنين يا سيدي؟ أنا أسمع أي شيء!! أستمحيك عذراً سأذهب لأكمل عملي.

صار صدر آدم يعلو ويهبط من شدة خفقان قلبه، ودّ لو أن يلوذ بالفرار لكن لا محيص من ما ينتظره داخل القبو ولا بد أن يحصل على ذلك الهاتف!.
قام آدم بفتح باب القبو بعدما حصل على مصباح يدوي.

ألقى نظرة على الدرَج ثم أضاء مصباح القبو وهبط درجة تلو الأخرى، كان يتلف يميناً ويساراً بحثاً عن الهاتف إلى أن وجده أعلى منضدة.
هرع آدم نحو الهاتف والتقطه، نظر إلى رقم المتصل لكنه كان رقم محجوب!.

زفر آدم بقوة يملؤها الغضب ثم ضغط على زر قبول المكالمة وما إن وضع الهاتف فوق أذنه حتى سمع حديثه مع أكرم.
ارتعد آدم حتى سقط الهاتف من بين أصابعه وسقط المصباح من يده الأخرى.
تسارعت أنفاسه بينما كان يردد:
_سحقاً، سحقاً.

كاد آدم أن يعود أدراجه لولا أن أُطفِيء مصباح القبو، كان آدم يرتعد حينما جثى على ركبتيه وصار يتحسس المصباح ولكنه فجأة أمسك بيد شخصاً ما!.
صاح آدم بفزه وسقط على ظهره فسرعان ما أخرج هاتفه من جيبه وأضاء مصباحه ووجّهه للأمام لكنه لم يجد شيء!!.

إلتقط آدم المصباح الأخر وأضاءه ثم صار يبحث عن ذلك الشخص الذي أمسك بيده قبل قليل لكنه لم يجد أحد في القبو!!.
اتجه آدم نحو الدّرج لكنه تذكر الهاتف المجهول فسرعان ما التفت لكي يلتقطه من الأرض لكنه لم يجده!

هرع آدم بالخروج من القبو وأوصده جيداً ثم غادر المنزل وصعد سيارته وأدار محركها.
رأته وهج من خلال شرفتها فقالت محدّثة نفسها بتساؤل:
_ما الذي أصابه؟
تنهدت وهج ثم ارتدت حقيبتها وغادرت هي الأخرى.

...

على صعيد آخر عاد النمر إلى منزله، كان باسم الثغر لم يشعر بهذا القدر من الراحة منذ زمن.
دلف إلى المنزل وهو يصيح مناديا:
_ماريا، عزيزتي أين أنتِ؟
اتجه النمر المطبخ ليتفقدها لكنها لم تكن هناك! حتى أنه تفقد غرفة الأطفال فلم يجدهم ولم يجد ماريا!.

ضم النمر حاجبيه وقال بتساؤل:
_ترى أين ذهبوا ثلاثتهم؟
صار النمر يجوب في المنزل بأكمله بحثاً عنهم لكنه دون جدوى!.
وقع نظر النمر على ورقة أعلى المنضدة بمحض الصدفة.

فسرعان ما التقطها وقرأها، كانت تنص على:
_"عزيزي ماجد، لم أكن أعلم أن لقبك في العمل هو النمر!، كنت أظنك لم تخفي عني سراً لكنك أخفيت عليّ أهم شيء على الإطلاق وهو هويتك!، صحيح في لقاؤنا الأول أخبرتك بأني لا أكترث لماضيك لأنه لا يعنيني بشيء لكنني كنت مخطئة.

تسارعت ضربات فؤاد النمر فجلس فوق الأريكة وأكمل قراءة الرسالة حيث كانت تنص على:
_"ظننتك تحبني يا ماجد، ظننتك رجلاً شريفاً كما جعلتني أظن!، لكنك لك تكن كذلك ولن تكون، لقد جاءت فتاة إلى منزلنا واختطفت صغارنا، أظن أنها تسعى للإنتقام منك لقتلك الجنين الذي كان بين أحشائها

شعر النمر بأن الدماء جفت في عروقه لكنه أكمل الرسالة على كل حال وكانت تنص على:
_"لقد حثّتني على سؤالك عنها ومن تكون، وقد طرأ في رأسي العديد من الأسئلة، لكن كل ما أريده منك حقاً، أن تعود لي بأطفالي، لا أريد أن أراك ثانيةً فقط أعِد إليّ أطفالي، زوجتك ماريا".

نهض النمر بعدما تملكه الغضب الذي يمكّنه من إحراق كل شيء، من شدة غضبه سدد قبضة قوية للمنضدة التي أمامه فتهشم زجاجها.
فكر النمر قليلا ثم قال بنبرة يملؤها الغضب:
_لقد أخطأت حينما تركتكِ على قيد الحياة يا حور، أقسم لكِ أنني سأذيقكِ ما لم يطرأ على مخيلتكِ في أبشع كوابيسكِ.

...

في قصر الأنصاري
كان الأنصاري يتوسط ساحة قصره بينما كانت ماريا أمامه مكبلة معصومة العينين والفم.
أشار الأنصاري بسبابته إلى أحد رجاله فأزال غطاء الوجه والفم من عليها.

نظرت ماريا نحوهم وقالت ببكاء:
_من أنتم؟
تذكرت ماريا ما حدث قبل ساعتين تقريباً بعدما كتبت الرسالة لزوجها ووضعتها أعلى المنضدة، اتجهت نحو باب المنزل بينما كانت تحمل حقيبة بها بعض أمتعتها الخاصة.

قبل أن تقوم بفتح الباب تم تحطيمه أمامها من قِبل بضعة رجال لا تعرف من هم، فقط حملوها وذهبوا وجائوا بها إلى هذا القصر!.
تبسم الأنصاري وقال بينما كان يضع لفافة التبغ في فمه:
_مرحباً بكِ في مملكتي.

فقالت ماريا بتلعثم من شدة الخوف:
_من أنت؟ وما الذي تريده؟
تلاشت ابتسامة الأنصاري وقال بنبرة حادة:
_أين زوجكِ؟
فقالت ماريا بينما كانت تتلفت هنا وهناك:
_لا أعلم.

نظر الأنصاري نحو أحد رجاله فسرعان ما جذب ماريا بقوة من خصيلات شعرها فصاحت من شدة الألم بينما قال الأنصاري:
_هل تذكرتِ الآن؟
فقالت ماريا ببكاء:
_أقسم لك أنني لا أعلم، لقد خرج في الصباح ولم يخبرني إلى أين ذهب لقد هاتفته كثيراً لكن هاتفه كان خارج نطاق الضغطية.

صاح الأنصاري بغضب قائلاً:
_هل تعلمين أنه بإمكاني التخلص منكِ ولن يدري زوجكِ الحنون أين جثمانكِ؟ لكنني لن أفعل ذلك، على الأقل حتى يأتي، سأشعر بمتعة أكبر حينما أقتلكِ أمام عينيه.

علا نحيب ماريا وقالت:
_أرجوك يا سيدي دعنا وشأننا، ما الذي فعلناه لكي تعاقبنا؟
قهقه الأنصاري بسخرية وقال:
_زوجكِ فعل الكثير يا عزيزتي ولن أدعه يفعل المزيد.

...

إمام منزل عثمان الدميري توقفت سيارة النمر، حمل بين يديه سلاحه الناري وبه كاتم الصوت.
ضغط النمر على نواجزه بقوة وقال:
_لن أقتلكِ يا حور، لكنني سأجعلكِ تتألمين حد الموت.
ما إن ترجل النمر من سيارته حتى هاتفه الأنصاري!.

ضم النمر حاجبيه بتعجب وأراد أن يتجاهل المكالمة لكن فضوله ردعه فضغط على زر قبول المكالمة، وقبل أن يتفوه بكلمة واحدة جاءه صوت الأنصاري قائلاً:
_مرحباً أيها النمر، لقد اشتقت إليك.

امتعض النمر قائلاً:
_ما الأمر يا سيدي؟
تنهد الأنصاري وقال:
_أريدك أن تأتي.
فقال النمر بنبرة حادة بعض الشيء:
_قبل أن أتخلص من حور؟

قهقه الأنصاري وقال:
_أخشى أنه أجل، هناك شخص ما يشتاق إليك كثيراً.
ضم النمر حاجبيه وقال بتعجب:
_ماذا تقصد؟
تنهد الأنصاري وقال بنبرة هادئة:
_تفقد هاتفك.

زفر النمر بقوة وتفقد هاتفه فوجد رسالة عبر تطبيق الواتساب بها صورة زوجته ملقاه في مكان ما وحالتها يرثي لها!.
صاح النمر بأعلى طبقات صوته قائلاً:
_سحقاً، دعها وشأنها.

فقال الأنصاري قبل أن ينهي المكالمة:
_أنا أنتظرك.
هرع النمر نحو سيارته وقادها بسرعة جنونية ذهاباً إلى قصر الأنصاري.

...

توقفت سيارة وهج عند المكان المليء بالخُضرة الذي كانت تتردد عليه برفقة مُهاب.
ترجلت وهج من السيارة ثم جلست عند الشجرة المفضلة إليها، كم تشعر بالإرتياح في هذا المكان، وكأن مُهاب لا يزال موجوداً.

أفاقت وهج من شرودها عندما جلس بجانبها رجل قد رُد إلى أرذل العمر قائلاً:
_ماذا بكِ يا ابنتي؟ تبدين وكأن الهم والحزن ألقي عاتقيكِ، لا تلقِ بالا فهذه دنيا فانية.

اغرورقت عيني وهج وقالت:
_يؤذيني الفراق، يكاد يمزق نياط قلبي، كيف للإنسان أن يستمر في العيش بدون أحبائه؟ كيف يمارس يومه وعاداته وهواياته؟، كيف السبيل لتخطي ذلك الذي كنت أتقبل الحياة ومساوئها لأجله؟ هل يوجد سبيل لذلك؟

تبسم الرجل وقال:
_إن أردتِ ستجدين السبيل، لكن إن ظللت حبيسة الماضي فلن يأتي أحد ليخرجكِ، كوني أنتِ طبيبة ذاتك لا تنتظري شيء من بشر زائل، وكل ما عليها فان يا بنيّتي.

نظرت وهج نحو ذلك الرجل وقالت:
_لست أدري ما الذي عليّ فعله، لكنني عالقة في المنتصف، بين ماضي لا يمكنني تخطيه وحاضر لا يمكنني المضي قدما فيه.
فقال الرجل بتساؤل:
_ماذا عن المستقبل؟

فقالت وهج بسخرية:
_أجهل ما سيحدث فيه!.
ربت الرجل فوق يد وهج وقال:
_لا شيء يستحق أن تكابدي من أجله ما أنتِ عليه الآن، اسعي خلف السعادة ربما تجدينها.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي