قرين ميّت البارت الثالث والعشرون

"قرين ميّت" "البارت الثالث والعشرون"

أمام مزرعة السيد رشيد كان النمر يقف بوجه ممتقع، كان يبدو عليه أنه يشعر بالدوار فقد نزف الكثير من الدماء من قدمه المصابه، قبل أن يتمكن من التقدم أكثر سقط مغشياً عليه.
بمحض الصدفة كان أحد الحراس يمر بالقرب من البوابة فرأى النمر فسرعان ما صاح بأصدقائه وحملوه وأدخلوه المزرعة.

بعد مرور الكثير من الوقت إستعاد النمر وعيه فرأى السيد رشيد أمامه باسم الثغر قائلاً:
_حمداً لله على سلامتك، كيف تشعر الآن؟
أجفل النمر جفنيه وتذكر نظرات ماريا قبل أن تذرف أنفاسها الأخيرة ثم قال بصوت حانق:
_بداخلي نيران تسعى للإندلاع كي تحرق الأنصاري، هلا ساعدتني.

اتسعت إبتسامة السيد رشيد وقال:
_بالطبع، هذا يسرني كثيراً.
أخذ النمر شهيقاً عميقاً ثم زفره بقوة، تساقطت دموعه بروية وقد لاحظ ذلك السيد رشيد فقال بعدما ربت فوق كتف النمر:
_سيكون كل شيء على ما يرام.

نظر النمر نحو السيد رشيد بعينين دامعتين وقال:
_لقد قتل زوجتي.
جحظت عيني السيد رشيد بقوة بينما تسارعت ضربات فؤاده وكذلك أنفاسه، فضم النمر حاجبيه وقال بتساؤل:
_ماذا بك؟

نهض السيد رشيد وابتعد بضعة خطوات عن فراش النمر وقال بنبرة يملؤها الحقد:
_وكأن قصص الأمس بتعاد بعدما تكمل الكرة الأرضية دورتها!.
فقال النمر بعدم فهم:
_ماذا تقصد؟ لا أفهم!.

إتجه السيد رشيد نحو الشرفة وأخرج من جيب معطفه صورة تجمعه مع فتاة حينما كان في ربيع شبابه.
تنهد السيد رشيد وقال بنبرة حانقة:
_هل تتذكر حينما إلتقينا أول مرة، لقد طرحت عليّ سؤال وهو لمَ أكن كل هذا البُغض للأنصاري.

أومأ النمر برأسه قائلاً:
_أجل، لكنك أبيت أن تخبرني.
أخرج السيد رشيد تنهيدة وكأنه يحمل على عاتقيه أثقال الدنيا قائلاً:
_قبل ثلاثة وعشرون عاماً كنا أنا والأنصاري صديقين مقربين، كنا نعمل سوياً.

صمت السيد رشيد لبرهة ثم أردف قائلاً:
_إلى أن إلتقينا بالفتاة التي أذابت قلب كل منا، لقد أحببناها كثيراً، دارت أولى معاركنا انا والأنصاري بسببها، لكن هي كانت متيمة بي، لقد أخبرتني بذلك، حينها قادرني الفضول لأطرح عليها سؤال.

فقال النمر بتساؤل:
_ما هو ذلك السؤال؟
زفر السيد رشيد بقوة ثم قال:
_لقد سألتها لمَ لمْ تُغرم بالأنصاري، امتعضت حينها وقالت أنه ليس متيّم بها، إنه فقط حب الإمتلاك، أراد أن يملكها كما يملك كل شيء يريده.

قهقه النمر بسخرية وقال:
_هو كذلك بالفعل، ما الذي حدث بعد ذلك؟
تبسم السيد رشيد ثم قال:
_سألتها آنذاك لمَ وقع إختيارها عليّ؟، فقالت أنها شعرت وكأنني تمكنت من ملامسة أعماق فؤادها، أرادت أن تظل بجانبي دائماً فهي لم تشعر بالأمان مع شخص سواي.

تبسم النمر وقال:
_ثم ماذا؟
تبسم السيد رشيد وقال:
_قررنا أن نتزوج، لقد خشيت حينها أن يجن جنون الأنصاري لذلك ذهبت إليه وأخبرته أنني سأتزوج منها، أبى أن يلتقي بي، بعث لي أحد رجاله يبلغني بأن صداقتنا انتهت.

ضغط السيد رشيد على نواجزه بقوة ثم قال:
_بعدما انتهى حفل الزفاف حينما كنا ذاهبين إلى المنزل أنا وزوجتي تم إطلاق النيران السيارة وقد تعرضنا لحادث، فقدت على إثره زوجتي وقدمي اليسرى.

ضم النمر حاجبيه بينما كان ينظر نحو قدم السيد رشيد بتعجب!.
تنهد السيد رشيد بسخرية وكشف عن القدم الصناعية!.
تنهد النمر وقال:
_ماذا فعلت بعد هذا الخسران الفادح؟

تنهد السيد رشيد وقال:
_أمضيت الكثير من الوقت داخل المشفى، حينما خرجت منها كنت على أهبة الإستعداد لأن أُبدد العالم بأكمله، لكن الأنصاري لم يكن موجوداً، وبعد جهود كثيرة علمت أنه خارج البلاد، لم أكف عن البحث عنه، لكن حينما عاد لم أتمكن من الإقتراب منه.

قهقه السيد رشيد بقلة حيلة وقال:
_حينها أرسلت رجال لكي يأتوا لي بأية معلومات من قصره لكنه كان في كل مرة يرسل إليّ رؤوس هؤلاء الرجال، لذا قررت أن يكون مساعدي أحد رجاله وقد وقع إختياري عليك لكنك أبيْت حينها.

زفر النمر بقوة وقال بنبرة يملؤها الندم:
_يبدو أنني دائماً ما أصل متأخراً.
تنهد السيد رشيد وقال:
_من الجيد أنك تمكنت من الوصول في النهاية، صحيح أن خسارتك أكبر مما يمكن تحمله لكنك ستنتقم في النهاية.

اعتدل النمر في جلسته وقال:
_أريده أن يذوق شتى أنواع الألم، للحد الذي يجعله لا يقوى أن ينهض ثانيةً، أريد أن يحيط به الموت من كل جانب ولا يحصل عليه.

تبسم السيد رشيد وقال:
_سنفعل، بالطبع سنفعل، سنتمهل قليلاً حتى تتعافى.
فسرعان ما قال النمر:
_لن أذوق العافية إلا حينما أنتهي من أمر الأنصاري.
تبسم السيد رشيد وقال:
_فلنبدأ إذاً.

...

على صعيد آخر في منزل آدم كان لا يزال جسده يرتعد من هول ما حدث، وقد أصاب أكرم ما أصاب آدم أضعافاً مضاعفه لأنه عاونه في كلا جريمتيه!.
اتجه أكرم نحو آدم وقال بنبرة يملؤها الهلع:
_أنا لم أفعل شيء، لم أفعل أي شيء أنت من فعل كل شيء يا آدم.

جحظت عيني آدم ثم التفت نحو أكرم وقال بنبرة غاضبة:
_ماذا تقصد؟
فقال أكرم وبدا وكأنه ليس في حالته الطبيعية فقد أصابته الريبة مما حدث:
_أنا لم أفعل شيء يا آدم، سأعود إلى منزلي.

همّ أكرم بالرحيل لكن آدم جذبه من ياقة ثوبه بقوة وصاح في وجهه قائلاً:
_لن تذهب إلى أي مكان يا أكرم، لقد كنت تساعدني دائماً وستظل هكذا، لن تتركني في منتصف الطريق.

صاح أكرم هو الآخر قائلاً بغضب:
_لكنني لن أتحمل عواقب أفعالك يا آدم، لن أفعل.
جن جنون آدم وجذب أكرم نحوه بقوة ثم همس إليه قائلاً:
_أنت تعلم أنه بإمكاني التخلص منك الآن يا أكرم، فإن أردت أن تعيش في سلام عليك بمساندتي.

شعر أكرم بأن قدراً من الماء البارد غمره من أعلى رأسه حتى أسفل قدميه من شدة هلعه.
كاد أكرم أن يتحدث لولا أن دق جرس باب المنزل، جحظت عيني آدم وأكرم ونظرا نحو بعضهما البعض بفزع.

تسارعت أنفاس آدم فقال:
_تفقد الباب يا آكرم.
فسرعان ما قال أكرم بهلع:
_لمَ أتفقده؟ هذا ليس منزلي، لن أفعل، لا تجبرني على ذلك.

زفر آدم بقوة وجمع رباطة جأشه ثم اتجه نحو الباب، حدّث آدم نفسه قائلاً بحزن:
_ليتني قمت بعمل عين سحرية لكي لا أضطر إلى فتح الباب على مصراعيه لكي أتفقد الطارق.

أفاق آدم من شروده حينما طرق أحدهم الباب بقوة، انتفض آدم ولكنه تشجع وقام بفتح الباب.
لم يكن هناك أحد، لم يكن هناك سوى باقة من الزهور بينها لافتة!.

تلفت آدم يميناً ويساراً ثم التقطت باقة الزهور هذه ثم أخذ اللافته وقام بفتحها، كانت تنص على:
_"صدق من قال أنه حتى أمهر القاتلين يتركون أدلة خلفهم، ألم تنسى شيء في منزل مريم؟".

اتسعت حدقتي آدم وسقطت باقة الزهور من بين يديه، لقد تذكر ما فعله في منزل مريم قبل عامين وكأنه حدث بالأمس!.
كاد آدم أن يسقط أرضاً بعدما اختل توازنه فسرعان ما لحق به أكرم قائلاً:
_ما الأمر يا آدم؟

نظر إليه آدم وقال بنبرة خافتة من شدة الصدمة:
_أحدهم يعلم كل شيء، بل يتحدث عن أدلة!.
نظر آدم نحو أكرم وقال بنبرة حادة بعض الشيء:
_سأذهب إلى هناك، لا بد أن أحصل على ذلك الدليل وأتلفه.

ربت أكرم فوق كتف آدم وقال:
_جيد، سأنتظرك حتى تأتي.
صاح آدم في وجه أكرم وقال:
_ستأتي برفقتي يا أكرم، يجب أن ننتهي من ذلك الأمر، آمل أن أجد ذلك الذي يهدنني، حينها سأجعله يلتقي بمريم في الآخرة ويخبرها كم كان يود أن يوقع بي، هيا بنا.

...

أمام منزل مريم، توقفت سيارة الضابط جمال.
تنهد جمال ثم نظر نحو وهج قائلاً:
_هل أنتِ مستعدة؟
نظرت وهج نحو الضابط جمال ثم أشاحت بنظرها بعيداً، حدّثت نفسها قائلةً:
_لا أعلم ما الذي سأجده في الداخل، ولكنني متأكدة تماماً من أنه سيكون شيء يدل على براءة مُهاب!.

أفاقت وهج من شرودها ونظرت نحو الضابط جمال وقالت:
_أنا أهبة الإستعداد.
ترجل الضابط جمال ووهج من السيارة ثم اتجها نحو منزل مريم.

كان يبدو عليه أنه مغلق منذ زمن، أخرج الضابط جمال المعدات من حقيبته وقام بفتح باب المنزل.
قهقهت وهج وقالت بمزاح:
_ييدو أنك خبير في هذه الأشياء.
فقال الضابط جمال بغرور بعدما قهقه بسخرية:
_هذا أقل ما يمكنني فعله.

أومأت وهج برأسه ثم دلفا سوياً إلى المنزل فسرعان ما أغلقه جمال ثانيةً.
كادت وهج أن تشعل الأضواء لكن سرعان ما ردعها الضابط جمال قائلاً:
_لا، سنشعل المصابيح اليدوية.

ضمت وهج حاجبيها بتعجب وقالت:
_لمَ؟
زفر جمال بقوة وأخفض صوته نسبياً قائلاً:
_لا أريد أن تلتفت الأنظار إلينا.
فقالت وهج بلا مبالاه:
_حسناً، فأنت ضابط وخبير بمثل هذه الأشياء.

ظلا وهج والضابط جمال يبحثان عن أي شيء يدلهم على أي شيء لكنهم لم يجدوا أي شيء!.
بمحض الصدفة عثرت وهج على دفتر مذكرات مريم، وقد قادها الفضول لأن تتفقده.

لم يكن ذلك دفتر مذكرات فقط وإنما كان دفتر ذكريات أيضاً.
جلست وهج القرفصاء وصارت تتفقد صفحات ذلك الدفتر، تسارعت أنفاسها حينما رأت الصور التي تجمع مريم ومُهاب سوياً وبدوا وكأنهما سعيدين جداً.

امتعضب وهج وحدّثت نفسها قائلةً:
_هل أردتني أن آتِ إلى هنا لكي أرى هذا الدفتر يا مُهاب؟ سحقاً.
اتجه الضابط جمال نحو وهج وقال بتساؤل:
_ما هذا؟
فقالت وهج بنبرة غاضبة:
_إنه دفتر مذكرات مريم..

زفرت وهج بقوة ثم أردفت بنبرة أكثر غضباً:
_ليتي لم آتِ إلى هنا.
جلس الضابط جمال بجانب وهج والتقط دفتر المذكرات منها وقال:
_ربما نجد شيء بداخله.

كان جمال يقرأ بصوت يكاد مسموعاً بالنسبة لوهج قائلاً:
_"لقد دعاني مُهاب للعشاء، كان يتحدث وكأنه حصل على وِجهته بعدما كان تائهاً، آمل أن يكون متيم بي".
صمت جمال ثم زحف نظره نحو وهج التي كانت تحدق في الفراغ.

قام الضابط جمال بتقليب صفحات الدفتر إلى أن توقف على آخر صفحات دوّنت فيها مريم فقرأ قائلاً:
_"لقد رأيتها، الفتاة التي وقع إختياره عليها، تبدو جميلة وعلى قدر من الذكاء، لوهلة شعرت بأنها تفوقني في كل شيء، أو لا! لا أدري.

صمت الضابط جمال لكي يلتقط أنفاسه ثم أكمل قراءة قائلاً:
_"بدا مُهاب سعيد جداً، لكنني لأول مرة أشعر بالإختناق حيال سعادته، ظننت بأنني سأكون محل تلك الفتاة، ليس بيدي حيلة سوى أن أتخلص من أضغاث الأحلام هذه.

لاحظ جمال ترقرق الدموع في عيني وهج، أراد أن يصمت لكنه فوجيء ببقية النص فقرأ بنبرة أعلى نسبياً قائلاً:
_"بعدما كدت أن أفقد الأمل دبت الحياة في قلبي مرة الأخرى، لقد التقيت بشخص يدعى آدم قطع لي عهداً بأنه سعيد إليّ مُهاب، أنا أنتظر ذلك على أحر من الجمر".

جحظت عيني وهج ونظرت نحو جمال وقالت بفزع:
_آدم!! كيف؟
ضم الضابط جمال حاجبيه بتعجب وقال:
_لا أعلم.
فسرعان ما قالت وهج:
_بالطبع ليس آدم ابن عمي، صحيح أنه شخص سيء لكن لا أعتقد أنه بهذا السوء.

صمت الضابط جمال لأنه كان شارد في ذلك الأمر، وانتبه من شروده حينما قالت وهج:
_هيا اقرأ ماذا دوّنت بعد.
نظر الضابط جمال نحو وهج وقالت بنبرة خافته:
_هذا آخر ما دوّنته!.

كانت وهج في حيرة من أمرها ولا تدري ماذا عليها أن تفعل كما أن الغضب تمكن منها بشدة.
قال جمال بنبرة هادئة:
_دعينا نبحث ثانيةً ربما نجد شيء.
زفرت وهج بقوة وكادت أن تنهض ولكنها فوجئت بشخص ما يقترب نحو باب المنزل!.

فسرعان ما جلست وهج ثانيةً وقالت بهلع لكن بنبرة خافتة:
_هناك شخص ما آتٍ!.
جحظت عيني جمال وقال بفزع:
_ماذا؟

فقالت وهج بتساؤل:
_ماذا سنفعل الآن؟
فسرعان ما قال جمال بنبرة خافتة:
_سنختبيء بالطبع.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي